شي جين بينغ.. والثورة الصينية الثالثة

إن الأوضاع العامة، التي تعيشها الصين اليوم، تتطلب رئيساً قوياً وشخصية استثنائية، وخصوصاً أن بكين انتهت من معالجة عدد من ملفاتها الداخلية

  • شي جين بينغ.. والثورة الصينية الثالثة
    شي جين بينغ.. والثورة الصينية الثالثة

لم يكن حدثاً مفاجئاً انتخاب الرئيس شي جين بينغ من جانب المؤتمر الوطني لنواب الشعب الصيني رئيساً للبلاد لخمسة أعوام مقبلة، ليكون بذلك أول رئيس يحظى بهذه المدة بعد ماو تسي تونغ، مؤسس جمهورية الصين الشعبية.

فمنذ انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، في تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، أُعيد انتخاب شي جين بينغ أميناً عامّاً للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني لولاية ثالثة، كما تم اختياره رئيساً للجنة العسكرية المركزية للحزب.

لقد بدأ الحديث عن حصول الرئيس شي على ولاية رئاسية ثالثة منذ عام 2018، حين تم تعديل الدستور من جانب نواب الشعب الصيني، بحيث قرروا إلغاء المادة التي تحدد ولاية الرئيس بفترتين متتاليتين فقط. 

وكان دستور عام 1982، الذي وُضع في عهد دينغ شياو بينغ، حدّد عدد الولايات الرئاسية باثنتين، كي لا تعود البلاد إلى حكم الفرد الواحد، كما حدث في عهد ماو تسي تونغ (1949-1976).

ولعل دهاء الرئيس شي يكمن في إقدامه على تعديل الدستور بعد انتهاء ولايته الرئاسية الأولى، من دون أن ينتظر نهاية رئاسته الثانية كي يفعل ذلك، وهو ما خفف حدة الانتقادات حينها. 

كما تم في عام 2018 إضافة أفكار الرئيس شي جين بينغ بشأن "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد" إلى الدستور، وذلك بعد أن حاز المشروع موافقة أعضاء البرلمان.

لقد جاء حصول الرئيس شي على 100% من أصوات نواب الشعب، البالغ عددهم 2952، ليحمل رسالة سياسية واضحة، مفادها أن الرئيس شي يحظى بدعم وإجماع من الجميع، ولا مجال للحديث عن معارضة داخل صفوف الحزب وقياداته العليا.

إن هذا الاختيار يعكس رؤية صينية، مفادها أن الأوضاع العامة تتطلب رئيساً قوياً وقيادة استثنائية، بحيث تم اختيار أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني، ولأول مرة، من دون أن يكون هناك تمثيل للنساء.

إن غياب المرأة ناتج من عدم وصول نساء قادرات على تحمل المسؤولية ربما، بحيث تبتعد بكين عن التمثيل الصوري للمرأة، فإمّا أن يكون حضورها فاعلاً بصورة حقيقية، وإمّا لا يكون.

إن ما يميز سياسة الرئيس شي ورؤيته بشأن بناء الدولة، هو وضع برنامج زمني دقيق لتنفيذ تلك الرؤى والسياسات.

فعلى سبيل المثال: تم وضع جدول زمني للتخلص من الفقر بحلول عام 2021، والذي يصادف الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني. وتحقّق ذلك على الرغم من انتشار فيروس كوفيد 19، والذي لم يمنع بكين من الوصول إلى هدفها، في الوقت المحدد، وذلك باعتراف الأمم المتحدة والمنظمات الدولية.

كما وضع الرئيس شي رؤيته بشأن استكمال بناء جيش التحرير الشعبي الصيني، ليكون قادراً على تنفيذ مهماته القتالية في الداخل والخارج، على أن يتم الانتهاء من ذلك بحلول عام 2027، بحيث تصادف الذكرى المئوية لتأسيسه، وتكون نهاية الولاية الرئاسية الثالثة للرئيس شي.

كذلك، تم تحديد العام 2049 لاستكمال بناء الدولة الصينية كدولة عصرية وقوية، وذلك بمناسبة مرور مئة عام على تأسيسها. 

إن استكمال بناء الدولة يعكس بالضرورة عودة تايوان إلى الوطن الأم، وهو ما يعني أن هذا التاريخ هو الحد الأقصى لبقاء تايوان منفصلة عن البر الصيني، كما هي عليه الآن. 

ولعل ذلك يعيدنا إلى ما قاله ماو تسي تونغ، مؤسس جمهورية الصين الشعبية، حين سُئل عن تايوان، فقال إن تايوان ستعود حتماً، لكن ذلك قد يحتاج إلى مئة عام. 

لقد سعى شي جين بينغ لتكريس نفسه في التاريخ الصيني قائداً للثورة الصينية الثالثة، بحيث كانت الثورة الأولى بقيادة ماو تسي تونغ، الذي أنهى الحرب الأهلية في الصين، ونادى بنهاية قرن العار، وهو القرن الذي عاشت فيه الصين أسوأ ظروفها نتيجة للسياسات الاستعمارية التي فُرضت عليها، وخصوصاً حرب الأفيون، التي جعلت الشعب الصيني شعباً مدمناً على الأفيون، لتبقى تلك الحرب دليلاً على زيف "إنسانية" الدول الغربية وكذبها.

أمّا الثورة الثانية، فقادها رائد سياسة الإصلاح والانفتاح في الصين، دينغ شياو بينغ، عام 1978. وهي التي أسست نهضة الصين الحديثة، وحققت الثورة الصناعية فيها، بحيث فتح الباب أمام الصناعة الغربية لتنتقل إلى الصين، مستفيدة من رخص اليد العاملة وانخفاض الضرائب. فاستطاع، من خلال ذلك، تأمين فرص عمل للصينيين، ثم استطاع الصينيون استنساخ تلك الخبرات الغربية لتأسيس صناعاتهم الخاصة بهم، وتوجهوا إلى الصناعات الرخيصة، التي تلقى رواجاً في الدول الفقيرة، التي كانت في أمسّ الحاجة إلى تلك المنتوجات، حتى أصبح شعار "صُنع في الصين" محفوراً في ذاكرة الأجيال من أبناء تلك الدول.

أمّا الثورة الثالثة، والتي يقودها الرئيس شي، فإنها طرحت أكبر مشروع استراتيجي في التاريخ ("الحزام والطريق")، والذي ضم نحو ثلثي عدد الدول في العالم حتى اليوم.

لقد وصف لي كوان يو، مؤسس سنغافورة الحديثة وقائد نهضتها، الرئيسَ شي بأنه أخطر الرؤساء الصينيين على مر التاريخ، قائلاً: "راقِبوا هذا الرجل". وتنبّأ بأن تصبح الصين في عهد الرئيس شي، ليس لاعباً كبيراً فقط، بل أكبر لاعب في التاريخ. 

يرى الرئيس شي في الصين "المملكةَ الوسطى"، التي يجب أن تكون في منطقة وسطى بين السماء والأرض. وهذا ناتج من قراءته للتاريخ، وحبه وكرهه له، في الوقت ذاته. 

فهو يحب التاريخ، الذي حظيت به الصين، عبر المكانة التي تستحقها على مستوى العالم، ويكره التاريخ الذي ظُلمت فيه الصين، وقُهرت وتراجعت، بحيث يسمي تلك المرحلة "الشذوذَ التاريخي"، والذي من الواجب العمل على تصحيحيه لتأخذ الصين مكانتها التي تستحقها، وفقاً لهذا التصور.

إن الأوضاع العامة، التي تعيشها الصين اليوم، تتطلب رئيساً قوياً وشخصية استثنائية، وخصوصاً أن بكين انتهت من معالجة عدد من ملفاتها الداخلية، فعجلة الإنتاج عادت إلى العمل، وإجراءات مكافحة الوباء رُفعت، وتم حسم الملف الأهم والأخطر، وهو ملف التجديد للرئيس لولاية ثالثة، ليتفرغ بعدها لمعالجة المشكلات الخارجية، والتحديات الكبيرة التي تواجه الصين في نهضتها.

من هنا، لمسنا، خلال الأيام الماضية، نبرة سياسية مغايرة انتهجتها بكين لمواجهة الاتهامات الأميركية لها بدعم موسكو.

فعلى الرغم من أن تلك النبرة العالية في الخطاب السياسي الصيني لن تغيّر التوجهات الاستراتيجية للسياسة الصينية، فإنها مهمّة على الصعيد التكتيكي، على أقل تقدير.

ولعل الردّ الاٌقوى على التحديات الأميركية هو ما أُعلن الجمعة بشأن نجاح بكين في تقريب وجهات النظر بين السعودية وإيران، وهو ما ستكون له نتائج إيجابية كبيرة على مستقبل المنطقة، والعالم ككل.

ولعلّ نجاح الدبلوماسية الصينية في إيجاد مخرج للحرب الأوكرانية سيشكل ضربة كبيرة للسياسة الأميركية، وسيجعلها تنكفئ أكثر لتتيح المجال لبكين لأداء دور أكبر في الساحة الدولية، وخصوصاً أنها الدولة الأكثر قبولاً لدى عدد من دول العالم، نظراً إلى سياساتها الواضحة والمبدئية، والتي تكرّس فكرة "الاعتمادية" في العلاقات الدولية بديلاً من "النظرية الواقعية" سيئة الصيت، والتي كرستها السياسة الأميركية، وانتهجتها مبدأً قائماً على منطق القوة؛ القوة وحدها ولا شيء سواها. 

ويبدو أن الانخراط الصيني لمعالجة القضايا الدولية سيشكل عنواناً للمرحلة المقبلة على صعيد السياسة الخارجية لبكين.

فالمبادرات الصينية إلى حل القضية الفلسطينية، وإيجاد نهاية للحرب في اليمن، والعمل على إنهاء الاحتلال الأميركي في سوريا، وإيجاد مخرج للحرب الأوكرانية، وسوى ذلك من الملفات، ستكون مفتاحاً وإعلاناً عن رغبة صينية في تحمُّل مسؤولياتها كدولة عظمى، واستعداداً منها لتحمّل نفقات قيادة العالم، إن اقتضى الأمر ذلك.