شهادة الصدر وسقوط صدام والاحتلال ونقاط الالتقاء
أقدم صدام حسين على إعدام السيد محمد باقر الصدر بعد أقلّ من عام على استئثاره بالسلطة في تموز/يوليو 1979، ليشنّ بعد شهور قلائل حرباً عبثية مدمرة على إيران التي كانت قد تخلَّصت من الشاه محمد رضا بهلوي.
يعدّ التاسع من نيسان/أبريل يوماً مميزاً بالنسبة إلى عموم العراقيين، ومحطة فاصلة بين مراحل مختلفة، ونقطة تحوّل في مسار الوقائع والأحداث، في بلد لم يعرف الاستقرار إليه سبيلاً منذ أن تأسست فيه الدولة الحديثة على أنقاض الاحتلال العثماني في العام 1921.
في التاسع من نيسان/أبريل 1980، نفّذ نظام صدام حكم الإعدام بالمرجع والمفكر الإسلامي الكبير السيد محمد باقر الصدر وأخته آمنة الصدر (بنت الهدى). وفي اليوم ذاته من العام 2003، انهار وسقط ذلك النظام غير مأسوف عليه بحرب قصيرة وخاطفة قادتها الولايات المتحدة الأميركية. وقبل ذلك، وتحديداً بعد حرب تحرير الكويت في ربيع العام 1991، اندلعت انتفاضة شعبية واسعة في 14 محافظة عراقية، وكادت تطيح نظام صدام لولا الإرادات الدولية والإقليمية المضادة.
أقدم صدام حسين على إعدام السيد محمد باقر الصدر بعد أقلّ من عام على استئثاره بالسلطة في تموز/يوليو 1979، ليشنّ بعد شهور قلائل حرباً عبثية مدمرة على إيران التي كانت قد تخلَّصت من الشاه محمد رضا بهلوي. دامت تلك الحرب 8 أعوام كاملة، لم تكن مخرجاتها سوى عشرات الآلاف من الضحايا والدمار والخراب والخسائر المادية الهائلة.
لم يكن صدّام الذي وصل إلى سدة الحكم بمساعدة وتخطيط من واشنطن ولندن، وتشجيع من بعض عواصم المحيط الإقليمي العربي، قد أعدم الصّدر وشنّ الحرب على "إيران الخمينية" من دون مباركة أميركية ودعم وإسناد سياسي وعسكري وإعلامي غربي وعربي مفتوح، عدا استثناءات قليلة.
وكان من الطبيعي جداً، وارتباطاً بالنهج الدموي الإجرامي لنظام حزب البعث في العراق، أن ينتهي مصير السيد الصدر إلى الإعدام، وخصوصاً بعد مواقفه العلنية والصريحة في معارضة ذلك النظام، وتأييد الثورة الإسلامية الإيرانية بزعامة الإمام الخميني، بيد أنَّ النتائج والمعطيات التي كانت الدوائر الغربية والعربية تأملها من الإعدام والحرب جاءت معاكسة تماماً، فالتخلّص من المرجع الصّدر لم ينهِ أو يخفّف أو يقلّص حركة ومظاهر الرفض للنظام الحاكم، بل أدى إلى توسع نطاق النشاط والتحرك السياسي الإسلامي ضد النظام، سواء داخل العراق أو خارجه، والحرب على إيران لم تفضِ إلى إسقاط ثورة الخميني التي لم تكن قد ثبتت ركائزها ومدت جذورها بعد في عمق الأرض.
في واقع الأمر، كان ذلك أحد المؤشرات المبكرة لفشل السياسات الأميركية في المنطقة، وهو ما اعترف وأقر به بعض كبار الساسة والمساهمين في صنع السياسات واتخاذ القرارات في واشنطن.
ورغم أن الولايات المتحدة حشدت عشرات الدول لمساندتها على إلحاق الهزيمة بنظام صدام في حرب الخليج الثانية في العام 1991، فإنَّها في الوقت نفسه ساندته ومنعت سقوطه وانهياره، بعد أن بدا أنه كان قاب قوسين أو أدنى من الانهيار، إثر اندلاع انتفاضة شعبية عارمة في 14 محافظة عراقية بعيد إعلان نهاية الحرب والانسحاب المذلّ للجيش العراقي من الكويت.
مرة أخرى، لم تدرك واشنطن أنها ارتكبت خطأ آخر بإبقائها على صدام، بعد سلسلة أخطائها السابقة، مع أهمية الإشارة إلى أنَّ هناك من رأى أن واشنطن لم ترتكب أخطاء، بقدر ما كانت تنفذ مخططاً تآمرياً بعيد المدى لا يستهدف العراق وإيران فحسب، إنما يمتد إلى مختلف دول المنطقة وشعوبها أيضاً.
قد لم تأتِ الأمور بمجمل مخرجاتها ونتائجها كما أرادت واشنطن وخططت، بيد أن المشهد العام بتفاصيله وجزئياته، عكس حقيقة مبدأ أو نظرية "الفوضى الخلاقة" التي طرحها ونظّر لها عدد من كبار المسؤولين الأميركيين بعد غزو العراق واحتلاله، وأبرزهم وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس ووزير الدفاع الراحل دونالد رامسفيلد، فضلاً عن عدد من كبار الأكاديميين والباحثين في مراكز التفكير القريبة من دوائر صنع القرار الأميركي.
ولعلَّ تداعيات الوقائع والأحداث اللاحقة أكدت أن الأهداف والمخططات الاستراتيجية الأميركية الغربية لم تتبدل. وإذا كان قد حصل تبدل أو تغير ما، فقد تمثل بالتكتيكات المطلوبة للوصول إلى الأهداف والمخططات الاستراتيجية ليس إلا.
إنَّ إسقاط نظام صدام في العام 2003، والتعاطي الأميركي مع مجمل عناوين الحركة الإسلامية أو ما سُمي بالإسلام السياسي الشيعي، الذي كان الشهيد الصدر أحد أبرز الذين وضعوا أسسه وركائزه النظرية والعملية، لم يكن يعني بأي حال من الأحوال أن الولايات المتحدة أعادت ترتيب أوراقها وخططها وأهدافها واتجهت إلى تصحيح أخطائها، إنما الوصف الأفضل والأقرب إلى الواقع هو أنها "انحنت للعاصفة تفادياً لنتائجها الكارثية عليها".
وكان واضحاً بعد أعوام قلائل من الاحتلال الأميركي للعراق أن الولايات المتحدة راحت تحاول تصحيح مسارات سياساتها حيال العراق، وتراجع أجندة أولوياتها، إذ إن الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، الذي رفع شعار "التغيير" خلال حملته الانتخابية في العام 2008 على امتداد بضعة شهور، كان يعني في ما يعنيه عدم الإبقاء على السياسة التي اتبعها سلفه الرئيس الأسبق جورج بوش الابن في العراق، والاتجاه إلى سحب القوات الأميركية من هذا البلد وفق جداول زمنية واضحة المعالم والأبعاد.
ربما منح عدد غير قليل من الأميركيين أوباما أصواتهم، على أمل ترجمة شعار "التغيير" إلى واقع عملي على الأرض؛ فانحسار الاهتمام بموضوع الحرب في العراق، وتغيير الأنظمة السياسية المارقة، مثل نظام صدام، ومواجهة الإرهاب لدى الرأي العام الأميركي، قابله تزايد في مستوى الاهتمام بقضايا داخلية مرتبطة بالأوضاع الاقتصادية والحياتية العامة، التي بدت للكثيرين مهددة إلى حد كبير على أثر الأزمة الاقتصادية العالمية.
إلى جانب ذلك، تبلورت وترسّخت قناعة لدى أوساط ونخب سياسية وفكرية أميركية، مفادها أنه بعد تعرض العراقيين لظروف قاسية، لم تعد هناك رغبة لدى مختلف فئات المجتمع العراقي في مشاهدة الدبابات والمدرعات الأميركية في شوارع المدن العراقية وأزقتها، وهو ما تحدثت عنه عضو مجلس النواب لين وولسي بالقول: "لا يمكن للرأي العام العراقي أن ينظر إلى مثل هذا العدد الضخم إلا على أنه قوة احتلال مستمر. وما دام العراقيون ينظرون إلى الولايات المتحدة على أنها طرف محتل، فلن يستطيعوا تحقيق الوحدة المطلوبة والمصالحة وبذل المزيد من جهود التحول الديمقراطي اللازمة كي يحققوا استقراراً طويل الأمد في البلاد"، والعدد الضخم هو إشارة إلى 50 ألف جندي أميركي كان أوباما قد أشار إلى احتمال بقائهم في العراق حتى نهاية العام 2011، بعد استكمال الانسحاب النهائي للقوات الأميركية في آب/أغسطس 2010، بهدف الإشراف على إعداد القوات العراقية وتدريبها.
ولا يحتاج المرء إلى كثيرٍ من الجهد لاكتشاف حقيقة أن مزاج الشعب العراقي بات بعد ما يقارب عقدين من الزمن سلبياً إلى حد كبير حيال الولايات المتحدة الأميركية، بحيث بات هناك إدراك بأنَّ الكثير من المشاكل والأزمات والكوارث التي حصلت كان من الممكن أن لا تحصل لولا السياسات الخاطئة -عن قصد أو من دون قصد- لواشنطن، بدءاً من عهد الحاكم المدني بول بريمر، والَّذي شهدت الأشهر الـ14 لعمله في العراق وقوع أخطاء كارثية انسحبت تأثيراتها إلى المراحل اللاحقة لها.
بعبارةٍ أخرى، إذا كانت السياسات والمواقف الأميركية والغربية، وكذلك العربية، هي التي خلّفت مجمل الكوارث والويلات التي حلَّت بالعراق بسبب نظام صدام، فهي ذاتها تقريباً التي كرست مظاهر الفوضى والاضطراب وغياب الاستقرار في العراق بعد التاسع من نيسان/أبريل 2003، فالولايات المتحدة الأميركية التي احتلّت العراق، وفرضت حاكماً أميركياً عليه يتصرَّف كيفما يشاء، هي التي حلت معظم مؤسساته الحكومية، العسكرية والأمنية والسياسية والإعلامية، وهي التي أباحت عمليات نهب أموال الدولة وممتلكاتها، وأوجدت ثقافة "الحواسم"، وهي التي صاغت معادلات سياسية قلقة قامت على اعتبارات طائفية وقومية، لم تكن سوى قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أية لحظة، وهي التي هيّأت ومهّدت الأرضيات المناسبة للتنظيمات والجماعات الإرهابية المسلّحة، لتصول وتجول في طول البلاد وعرضها، وهي التي شرعنت ثقافة الفساد الإداري والمالي، لتتعطل الزراعة والصناعة، وتتراجع الخدمات الأساسية، ويتدهور التعليم، وتنعدم فرص النهوض، وتتلاشى آفاق التقدم والازدهار.
وبقدر ما تعجز الولايات المتحدة الأميركية اليوم عن تبرير الكثير من سياساتها، سواء في العراق أو غيره، فهي تجد نفسها عاجزة بدرجة أكبر عن إغلاق الملفات التي فتحتها، ووضع حدّ للتداعيات السلبية الكارثية التي جعلتها تبدو ضعيفة ومرتبكة ومنبوذة ومستنزفة ومحاطة بالخصوم والأعداء من كل الجوانب والاتجاهات.
وما يصدُق على حرب الولايات المتحدة ضد العراق، يصدق على حروب مماثلة عديدة شنّتها على دول مختلفة خلال العقود السبعة المنصرمة، لعلَّ أبرزها حرب فيتنام (1955-1975)، وحرب أفغانستان (2001-2014)، إذ إنَّ الأدوات والممارسات والسلوكيات والأهداف والذرائع والمبررات واحدة، مع اختلافات بسيطة ترتبط باختلاف الأحوال والظروف.
وتؤكد دراسات أميركية أنّ ما يُسمى "الحروب على الإرهاب" التي اندلعت مباشرة بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، أدت إلى مقتل 800 ألف إنسان، من بينهم 335 ألف مدني، وتسببت بتهجير ما لا يقل عن 37 مليون شخص في أفغانستان والعراق وسوريا وباكستان واليمن والصومال وليبيا والفلبين وغيرها، علماً أنّ تلك الحروب كلّفت أكثر من 6 تريليونات دولار، وألحقت دماراً كبيراً بالبنى التحتية، وخلّفت كمّاً هائلاً من المشاكل والأزمات الحياتية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسياسية، تتطلب معالجتها عقوداً -وليس أعواماً- طويلة من الزمن.
هذه الصورة القاتمة التي تشكّلت وارتسمت معالمها وملامحها عبر تراكمات عقود من الزمن، وخلال مراحل مختلفة في ظروفها وأوضاعها، كان العراق، وما زال، يشغل حيزاً غير قليل من مساحاتها وفضاءاتها، حتى قبل مجيء صدام إلى الحكم، وإعدام الشهيد الصدر، وشنّ الحرب على إيران، وسوف يبقى كذلك إلى أمد غير معلوم.