سوريا والسعودية.. أي أفق للتقارب؟

أدركت السعودية أن التقديرات حول سوريا كانت خاطئة، وأن الأمور لا يمكن أن تستمرّ على هذا النحو، ولا بدّ من تغيير الموقف تجاه دمشق، وأن اللحظة مواتية لتغيير النمط، وخاصة أن الأخيرة لم تغلق باباً في وجه أحد.

  • سوريا والسعودية، أي أفق للتقارب؟
    سوريا والسعودية، أي أفق للتقارب؟

ارتفع سقف التوقّعات حول عودة قريبة للعلاقات بين دمشق والرياض، ومهّدت الأخيرة لذلك بتصريحات غير مسبوقة لوزير الخارجية السعودي، تتحدّث عن تغيّر في المقاربات والقناعات حول سوريا. إنّ لغة التصريحات وإيقاعها وتواترها، هي مؤشرات على أن أموراً كثيرة حدثت في الواقع، أمنياً واستخباراتياً، وإلى حد ما سياسياً، وأن الموقف بين الطرفين لا يزال "يسكت عن أشياء أكثر مما يفصح".

أظهرت الأزمة السورية أن القطيعة والعداء حيال دمشق ليس الاستجابة الصحيحة لما يمثّل تهديداً، وأن الأزمة زادت فيما حاولت الرياض وحلفاؤها "احتواءها" أو "تفكيكها"؛ وبدلاً من إسقاط النظام وإخراج إيران من سوريا، ها إن النظام باقٍ، وإيران أكثر حضوراً، بل إن الرياض نفسها أقامت حواراً استراتيجياً معها، وتوصّل الطرفان -برعاية صينية-إلى الإعلان عن تفاهم وتقارب بينهما. وأما الحديث عن "ثورة" شعب مقابل نظام ودولة فقد أصبح مهجوراً ومنتهي الصلاحية تقريباً. 

أدركت الرياض أن التقديرات كانت خاطئة، وأن الأمور لا يمكن أن تستمر على هذا النحو، ولا بدّ من تغيير الموقف تجاه دمشق، وأن اللحظة مواتية لتغيير النمط، وخاصة أن الأخيرة لم تغلق باباً في وجه أحد، وحافظت خلال السنوات الماضية على إيقاع مناسب يشجّع على التقارب. وتدرك الرياض أن العلاقات بين دمشق وطهران هي حاجة سعودية وخليجية وعربية، مثلما أنها حاجة إيرانية أيضاً.

وكانت دمشق خلال عدة عقود حيّز توازن بين الأطراف، وساهمت في ضبط عوامل توتر عديدة في الإقليم، ولا يغيّر من ذلك وجود حوارات بين طهران وكل من أبو ظبي والرياض والدوحة وغيرها.

وبالمقابل، كانت الرياض–بكيفية أو أخرى-جزءاً من الديناميات التي أدت لعودة سلطة دمشق إلى مناطق واسعة من البلاد. صحيح أنها لم تشارك مباشرة في اتفاقات "خفض التصعيد"، وربما حاولت إجهاضها، إلا أنها مالت تدريجياً لـ "تلقّي" و"تفهّم" المقاربة الروسية في سوريا، ومنها دينامية أستانة.

ثمة تغيير لا تخطئه العين. ويلاحظه المتابع ألا وهو تراجع انخراط الرياض في الأزمة السورية، وتراجع الدعم المقدّم للمعارضة، وقبل ذلك للجماعات المسلحة، مقارنة بما كان في السنوات الأولى للأزمة. وهذا ما قاله الرئيس بشار الأسد خلال زيارته لموسكو في 14 آذار/مارس 2023.

يمكن الحديث عن إيقاعين أو مستويين رئيسين للعلاقات بين دمشق والرياض، يعملان بالتوازي: إيقاع أو خط اتصال أمني واستخباراتي، وهو قديم نسبياً، ويبدو أنه حقّق تقدّماً مهماً. وإيقاع أو خط اتصال سياسي وحكومي، وهو أقل ظهوراً أو أقل تقدّماً وإنجازاً، ويتأثر بعوامل عديدة، ومنها الضغوط الأميركية. 

ليس من السهل تجاوز حالة الاحتدام والعداء التي كانت خلال سنوات. ثمة ما يتطلّب تهيئة وإعداداً مناسبين، ولحظة مواتية، واندفاعاً لدى الأطراف، وبيئة إقليمية دولية مساعدة، والأهم هو قناعات فواعل السياسة والحكم. وقد يكون الشرط الأخير متحقّقاً بقدر يبعث على الأمل بالتغيير، إنما ليس من دون مخاوف من نكوص محتمل. ذلك أن الوضع معقّد، والمخاطر والإكراهات كثيرة.

من المهم أن تصدر الأمور عن وعي بضرورة التقارب بين دمشق والرياض، وحاجة كل طرف لتفهّم أولويات الطرف الآخر، وخاصة في القضايا الخلافية، وهي كثيرة. وليس مجرّد التكيُّف مع تطورات وإكراهات الموقف الداخلي أو الإقليمي. وثمة حاجة للمكاشفة والحوار المعمّق بين البلدين، إذ إن سوريا ليست ساحة نزال أو صراع أو منافسة، بل هي عنصر فاعل له أولويات، وتتقاطع فيه ولديه مصالح وتطلعات. 

قد لا تحبّذ دمشق الحديث المتكرّر عن القرار 2254، فهذا بالنسبة لها منطق الأزمة وزمنها وليس منطق التقارب وزمنه، لا بأس من إشارات نمطية لذلك، لكن من الأفضل ألا تكون مقصودة بذاتها. ومن منظور دمشق، فإن التطورات تجاوزت ذلك، ولم تعد العودة إلى الوراء ممكنة، على الأقل بالنسبة لخطاب الأزمة ورهاناتها، وإن عدداً قليلاً جداً من الأطراف لا يزال يتحدث بمنطق العام 2011، وهم خصوم دمشق، وخاصة الولايات المتحدة وأوروبا. 

هذا يعني أنّ دمشق تفضّل مراجعة المنطق العميق لفكرة أو مبادرة "خطوة خطوة" أو "خطوة بخطوة"، التي يتحدّث عنها الأردن والمبعوث الدولي غير بيدرسون وأطراف أخرى، وتريد تغيير الرؤية، فثمة حاجة لحوار استراتيجي وتفاهمات وليس اشتراطات. دمشق بحاجة إلى الانفتاح على العالم العربي، وهي مستعدة لملاقاة الرياض وغيرها، لكنها غير جاهزة لتلقّي شروط حول علاقتها بطهران أو حول التسوية/الحل في الداخل.