سوريا والحلول المؤجَّلة
تتباين رؤية دمشق لمستقبل سوريا، عن سائر الاطراف الفاعلة، فهي منذ اندلاع الحرب فيها، تعرف أنها ستنتصر، وليست معنية بتقديم أيّ مكاسب إلى المعارضة.
كان لافتاً للنظر، بعد عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وما أحدثته من صدمة جيوسياسية، محلياً وإقليمياً ودولياً، بما حملت من دلالات كبيرة على طبيعة المتغيرات المتسارعة، بالإضافة إلى أغلبية السوريين، الذين أخذوا جرعة من الأمل، بشأن قرب خروجهم من كارثتهم، لكن آمالهم بدأت الاضمحلال، بعد أن تجمَّدت خطوات متابعة الانفراجات، وغياب الاهتمام العربي المباشر.
ضمن هذا الجمود، جاءت زيارة وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، الأخيرة لدمشق، لكن ليس بصفته ممثلاً للأردن فقط، وإنما بصفته ممثلاً لمجموعة الاتصال العربية، والأمم المتحدة، انطلاقاً من أن الأردن طرح مسألة البدء بالحل السياسي في سوريا، وتطبيق القرار الصادر عن مجلس الأمن 2254، لكن بصيغة قبلتها الولايات المتحدة، اعتماداً على تجريب مبدأ "خطوة في مقابل خطوة"، وهي تعتمد على ثلاث خطوات أساسية، كما تم تسريبها في الإعلام أخيراً.
تداخلت مجموعة من العوامل، التي تؤخر إمكان بدء التعافي في سوريا، على رغم كل التحولات التي حدثت، بعد الحرب في أوكرانيا، وخصوصاً في السياسات الخليجية والعربية، التي تسارع الخطى، بالتشبيك مع روسيا والصين، ومزيد من الابتعاد عن الولايات المتحدة، وخصوصاً السعودية التي تقود هذا التحول، وتتحكم فيه، وفقاً لأولوياتها الجيوسياسية في منطقة غربي آسيا، وشمالي إفريقيا، بالإضافة إلى الإمارات العربية المتحدة، التي ستؤدّي دوراً مهماً في المرحلة المقبلة، من موقع منافستها للسعودية.
تتباين رؤية دمشق لمستقبل سوريا، عن سائر الاطراف الفاعلة. فهي منذ اندلاع الحرب في سوريا، كما عبَّرت عن ذلك خولة مطر، مساعدة الأخضر الإبراهيمي، المكلف الأممي الأسبق، لإيجاد مخرج للحل في سوريا، تدرك أنها ستنتصر في حربها، وليست معنية بتقديم أي مكاسب إلى المعارضة، التي تحولت أغلبيتها، بسبب ارتباطها بالدول التي شنّت الحرب، إلى جزء من الحرب، وبقيت دمشق متمسكة بهذا الموقف حتى الآن، وهي ترى أن أسباب انتصارها هي بفعل طبيعة بنائها الحالي، سياسياً وتنظيمياً، الأمر الذي يدفعها إلى التمسك به، كما هو.
والمسألة الثانية، هي ما تعُدّه مطلباً إسرائيلياً أميركياً، يقتضي خروج إيران وحزب الله من سوريا عسكرياً، في المرحلة الثانية من المبادرة الأردنية، وهي بمثابة من يطلق النار على نفسه، قبل استعادة الجيش السوري قدراته وعافيته، وربط ذلك بخروج كل القوات الأميركية والتركية من المناطق التي احتلتها، وامتلاكها الضمانات الذاتية، المترافقة بضمانات توازن إقليمي، يتيح لها العودة إلى أداء دور إقليمي، يتوافق مع أهميتها الجيوسياسية.
يرتبط العامل السعودي بالربط بين سوريا واليمن، فهي على الرغم من التقارب مع إيران من البوابة الصينية، فإن ذلك لم يتحقق معه المدد الزمنية المتفق عليها، بل أصبح متباطئاً، بسبب طبيعة الرهانات المتباينة، فلقد كانت الرياض تتأمل الانتهاء من الملف اليمني الضاغط على مشاريع السعودية 2030، على نحو يجعلها في موقع الفوز، ثم التوجه إلى الملف السوري، على العكس من إيران التي ربطت بين الساحتين السورية واليمنية، واللتين تستطيعان تحديد الأدوار الإقليمية للبلدين.
يؤدي العامل الإسرائيلي المتأزّم، داخلياً وخارجياً، دوراً مهماً في تعطيل الحل في سوريا، التي لا يريدها أن تستعيد عافيتها، ويريدها أن تبقى مشغولة بنفسها، وأن تخرج من إطار الصراع معه، عبر تحقيق المرحلة الثانية من المبادرة، بخروج إيران وحزب الله منها، وخصوصاً أن آفاق شن حرب أميركية على إيران أصبحت غير ممكنة، في الحسابات الأميركية، التي تدفعها إلى التركيز على صراعها مع الصين.
ولا يغيب العامل التركي عن الملف السوري، فهو الأكثر حضوراً وتأثيراً، إن كان باحتلاله 9% من الأراضي السورية، أو بفعل اللاجئين السوريين في تركيا، أو بهيمنته على التنظيمات المسلحة وقوى المعارضة المرتبطة به. فهو، على الرغم من سيره نحو تصفير مشاكله ضمن الجوار، لكن المسألة السورية تعني له الكثير، ولا يمكنه الخروج منها صفر اليدين، بعد أكثر من 12 عاماً من الحرب.
ويبقى العامل الأميركي هو الأكثر تأثيراً. فعلى الرغم من تراجع الولايات المتحدة عن مكانتها الدولية، فهي ما زالت القوة الأكبر في النظام العالمي الحالي، وهي في الأساس منحت مجموعة التواصل العربية موافقتها على مقترح مبادرة "خطوة في مقابل خطوة"، ضمن إطار التجربة، ما دام ذلك يحقق لها مصلحتها، ويخفف عنها أعباء صراعات الشرق الأوسط، لتبقى حاضرة فيه بأقل ثمن.
وفي مقابل العامل الأميركي، يظهر العاملان الروسي والصيني، فكِلاهما ينظر إلى المسألة السورية، من زاوية صراعه مع الولايات المتحدة. وقد أنجزت موسكو وبكين، خلال العامين الماضيين، تحولات كبيرة على بنية النظام الإقليمي، في غربي آسيا وشمالي أفريقيا، ولا يمكن أن تصل هذه التحولات إلى هدفها ببقاء سوريا المحطَّمة على ما هي عليه. والأمر يقتضي أن يتحقق فيها الأمن والاستقرار، اللذان لا يمكن أن يتحققا إلا ضمن إطار حل سياسي داخلي، يعكس بنية المجتمع السوري، ويحقق مصالح الدول الإقليمية، شرط بقاء التموضع الجيوسياسي في الموقع المواجه للولايات المتحدة.
على الرغم من كل المؤشرات، التي تؤكد تغيير البيئة الإقليمية المحيطة بسوريا، على نحو يمكن أن يساعدها على الخروج من كارثتها، فإن هذا الخروج من الصعب تحقيقه قريباً، إن كان بفعل العوامل الإقليمية والدولية المتباينة، أو بفعل استمرار التعاطي مع المسائل السورية الداخلية، وفق الآليات نفسها، التي ساعدت على حدوث الاختراق الغربي بالحرب، الأمر الذي يدفع إلى البحث عن آليات جديدة في التفكير والعمل، وعبر أدوات قادرة على التغيير، في زمن ضاغط، قد لا يتيح القيام بذلك.