سوريا في حوار الأربعين ربيعاً: قلب فلسطين الَّذي لا يمكن إدارة الظهر له
يبرز من خلال شخصية السيد نصر الله أحد أهم الجوانب التي ميزت هذه المقاومة عن غيرها عبر التاريخ.
منذ مئات السنين على الأقل، تتعرض منطقتنا العربية لهجوم من قِبل قوى استعمارية خارجية طامعة تبتغي الاحتلال والهيمنة، ووضع اليد على الجغرافيا ومصادرة القرار السياسي، ونهب ثروات المنطقة الهائلة ومنع الشعب العربي من الاستفادة منها وتجييرها لمصلحة نهضته وتقدمه.
صحيح أنّ هذا الشعب لم يستكن يوماً، ولم يتوقف عن مقاومة كل تلك الاحتلالات ومقارعة تلك الوقائع القاهرة، وتقديم أثمن التضحيات اللازمة في سبيل حريته وسيادته ونهضته، لكننا لسنا نبالغ إذ نقول إن النقطة التي بلغتها المقاومة العربية المعاصرة في هذه المرحلة من عمر الأمة، وتحديداً المقاومة الإسلامية في لبنان - حزب الله، تُشكل علامة فارقة وجوهرية في تاريخ المنطقة العربية ومستقبلها.
نقول ذلك قياساً إلى مستويات الوعي والتنظيم ومواكبة التقدم العلمي وتطويعه لمصلحة الأهداف الكبرى، ومراحل التطور التي سلكتها هذه المقاومة بخطى ثابتة وراسخة، والتي مكنتها من تحقيق إنجازات ميدانية واستراتيجية غير مسبوقة أو متوقعة، جعلت حزب الله، في نظر العدو والصديق على السواء، قوة إقليمية يُحسب لها ألف حساب، ليس على مستوى الردع والإنجازات الميدانية في وجه العدو فحسب، بل على مستوى المشاركة في صنع وتقرير مصير المنطقة والعالم أيضاً.
ولأن هؤلاء الشبان المؤمنين الذين أسسوا حركة المقاومة هذه قبل 40 عاماً يؤمنون بالمعجزات، فإن المعجزة الماثلة الآن أننا نتحدث بهذه المفردات والمعاني عن قوة شابة وُلدت وتطورت وأنجزت انطلاقاً من نقطة جغرافية صغيرة تكاد لا تُرى على خريطة المنطقة، تقع جنوبي بلدٍ صغير اسمه لبنان، لا تزيد مساحته الكاملة على مساحة محافظة واحدة من محافظات العديد من البلدان العربية، التي فضّل حكامها تسليم مصيرهم وإرادتهم وثروات شعوبهم طواعية لكل قوي طامع يهز عصاه في وجوههم.
ولأن المعجزة هنا ليست حالةً غيبية مفاجِئة وغريبة، بل هي أفعال تراكمية مُضنية ومُكلفة ارتكزت على جهود العقل والقلب والروح، وعلى الحالة الإيمانية المقرونة بالعلم والعمل، فإن المفارقة هنا أيضاً، أنه وخلال مراحل عديدة من عمر الشباب هذا، كان هناك، في داخل وخارج هذا البلد نفسه الذي كان العدو يتبجح بقدرته على احتلاله بفرقةٍ موسيقية قبل 60 سنة فقط، من يُخاطب هؤلاء الشباب باعتبارهم العين العاجزة لا محالة عن مقاومة هذا المخرز الفولاذي الحاد، المتمثل بالعدو الإسرائيلي وراعيه المستعمر الأميركي وأدواتهما في الداخل اللبناني وعموم المنطقة.
ولعلَّ شخصية قائد هذه المقاومة، السيد حسن نصر الله، تعكس بذاتها الكثير من صور تلك الفرادة التي تمتعت وتتمتع بها هذه المقاومة، حيث الحضور الشخصي البهي والطاغي الذي يأسر الصديق والخصم والعدو على السواء، ويستحوذ على كل اهتمامهم عند كل ظهور إعلامي، ليواجهوا حالة فريدة من اتقاد الذهن وحضور المحاكمات العقلية المنطقية في كل جملة أو تصريح أو جواب، الأمر الذي جعل من الرجل مصدراً موثوقاً لدى قادة كيان العدو وقاعدتهم الاجتماعية قبل غيرهم، ليشكل بذاته وشخصه ما يُشبه إدارة حربٍ نفسية مكتملة الأركان، تعتمد على الصدق مع النفس ومع الآخرين قبل كل شيء.
وهنا يبرز من خلال شخصية السيد أحد أهم الجوانب التي ميزت هذه المقاومة عن غيرها عبر التاريخ، وهو صدق الخطاب والتواضع الجم والخلق الرفيع المقرون بالإنجازات النوعية على الأرض، وهو ما جعل الأمور أكثر صعوبة على أي عدو أو خصم لهذه المقاومة.
لهذا كله، وغيره الكثير من الأسباب الواقعية، تُعتبر إطلالات السيد حسن نصر الله الإعلامية حدثاً منتظراً لدى الجميع، وفي مقدمتهم السوريون، لأن سوريا حاضرة دائماً في حديث السيد، فهي حلقة أساسية من حلقات تلك المعجزة، منذ أن اعتبر الرئيس الراحل حافظ الأسد أنه أمام قوة مقاومةٍ من نوع جديد في المنطقة العربية، وأن دمشق الرسمية التي اختارت خطها السيادي التحرري المواجِه للاحتلال وكل محاولات الهيمنة وجدت بين صفوف المجتمع العربي مَنْ تتكامل معه في مشروع المقاومة، ومن أقام بنية ضاربة ومتينة في الأرض تجعل منه واجهةً ورافعة شعبية أكيدة يمكنها المساهمة بشكلٍ أساسي وجذري في تحقيق كل آمال الشعب العربي المستقبلية وتطلعاته التحررية.
ومن جهة موازية ومكملة، لأن هذه المقاومة كرست من خلال وعيها المتقدم وعملها الاستراتيجي وتضحياتها الجسيمة مبدأ وحدة المسار والمصير، حين أدركت أن استهداف سوريا هو استهداف للبنان ولفلسطين ولكل مقاوم وإنسان في هذه المنطقة، وأن سقوط دمشق يعني ضربة قاصمة لكل قضايانا العادلة، وعلى رأسها قضية فلسطين، وهو قضاء على أي أمل لبناء مستقبل عربي كريم يصنعه شرفاء هذه الأمة، بل ضياع لكل الجهود التي قدمتها سوريا والمقاومة في لبنان وفلسطين والمنطقة على مدى 40 عاماً، والتي بلغنا من خلالها معاً، ومعنا إخوتنا الإيرانيون، هذه النقطة الاستثنائية والمفصلية في تاريخنا، والتي نقف فيها على بعد خطوات قليلة من تقرير وكتابة مصيرنا المحترم لعشرات، وربما مئات الأعوام القادمة.
هذا الأمر هو الذي دفع حزب الله إلى الانخراط المباشر والعملي إلى جانب الجيش العربي السوري وقوى رئيسية في محور المقاومة في المنطقة، في مقاومة مشروع تدمير سوريا، والقتال على مختلف الجبهات السورية وتقديم خيرة قادته ومقاوميه على تلك الأرض، والمساهمة بشكل أساسي في دحر هذا المشروع الاستعماري والحفاظ على الدولة السورية وسيادتها، والعمل على الأرض لتحقيق هدف استعادة جميع الأراضي السورية المحتلة، وهو ما كرس معادلات جديدة في المنطقة، وجعل سوريا منطلقاً لحالة مقاومة جامعة ومتقدمة بشكل عملي وجديد أيضاً، تجاوزت كل حالات ومراحل التنسيق والعمل المشترك بين القوى المقاومة في المنطقة، وبلوغ مرحلة القتال كتفاً بكتف، والسير معاً في الميدان باتجاه حرب التحرير الموعودة، والتي بات الحديث عنها بعد تكامل قوى المقاومة على الأرض السورية واقعاً يخشاه العدو ويتصرف على أساسه.
من هذه المنطلقات كلها، كانت سوريا حاضرة بقوة في الظهور الإعلامي الأخير للسيد نصر الله، من خلال الحوار الذي أجراه معه الأستاذ غسان بن جدو على شاشة قناة "الميادين"، بمناسبة الذكرى الأربعين لانطلاقة مقاوَمة حزب الله.
ومن خلال الإجابة عن الأسئلة المهمة التي طرحها الأستاذ بن جدو، تطرق السيد إلى أهم قضايا الساعة التي تهم السوريين وعموم أهل المقاومة في المنطقة، وعلى رأس تلك القضايا الجهود التي يبذلها الحزب وشخص الأمين العام نفسه في سوريا والإقليم، بهدف لم شمل قوى المقاومة في المنطقة، وتحديداً ما يخص العلاقة بين الدولة السورية وحركة المقاومة الإسلامية في فلسطين - حماس.
لقد بيّن السيد بوضوح دور سوريا التاريخي والمؤثر في دعم حركات المقاومة في فلسطين والمنطقة، وعلى رأسها حماس، وتحدث عن المراجعة التي أجرتها قيادات الحركة مؤخراً، وإجماعهم على أهمية هذا الدور وضرورة المحافظة عليه، وحل أي مشكلة عالقة تحول دون إعادة العلاقة إلى ما كانت عليه قبل الحرب على سوريا.
إن الإخوة في حماس، بحسب السيد، مقتنعون بأن أحداً لا يستطيع إدارة ظهره لسوريا إنْ أراد استكمال الصراع مع العدو الإسرائيلي وصولاً إلى تحرير فلسطين، فليس هنالك نظام عربي قدم للفلسطينيين ومقاومتهم ما قدمته وتقدمه الدولة السورية وقيادتها على مدى عقود.
وبيَّن السيد انفتاح دمشق على هذا المسار، وحرصها على رص الصف المقاوم وتوحيد جهود قوى المقاومة جميعها في هذه المرحلة المهمة، وخصوصاً أن دمشق، كما حزب الله والعديد من قوى المحور، تتطلع إلى تحقيق إنجازات تاريخية في المستقبل المنظور، وذلك لإيمانها جميعاً بأننا قادمون على مواجهةٍ مع المحتل وقوى الاستعمار في المنطقة، قد تكون مفصلية على مستوى مستقبلنا كأمة حرة وسيدة وكريمة.
واعتبر السيد نصر الله أن مهمة تقريب وجهات النظر على هذا الصعيد هي واحدة من أولوياته القصوى شخصياً، وأن المسار الذي تسلكه جهوده وجهود إخوانه في الحزب ولدى الطرفين المعنيين هو مسار إيجابي جداً، وأن الظروف باتت مُهيأة وتقترب من تحقيق تقدم نهائي على هذا المستوى، سوف يتم إعلانه في الوقت المناسب عملياً وإعلامياً في دمشق وغزة.
والمهم جداً على هذا الصعيد، هو أن تصريحات السيد نصر الله هي إعلان رسمي من طرف أساسي في محور المقاومة، بل هو الطرف الذي يقود هذه المساعي ويعمل على هذا المسار بشكل مباشر، أي أننا بتنا قاب قوسين أو أدنى من إعادة توحيد صفوف محور المقاومة بشكل تام، ومتابعة العمل معاً على مشروع المستقبل القائم على التحرير القريب، وهذا يعني أيضاً أن كل الجهود التي بذلتها القوى المعادية للقضية الفلسطينية، والتي تآمرت على سوريا وعلى جميع قوى محور المقاومة ذهبت هباءً أمام صمود دمشق وحلفائها، الذي أظهر صواب المسار الذي سلكه هؤلاء على مدى "عشرية النار" التي عصفت بسوريا والإقليم.
مرة أخرى، يبث السيد نصر الله تفاؤله لأهل المقاومة في بلاد الشام والمنطقة العربية، ويعدهم بنصرٍ أكبر وأشمل يصنعه جميع المقاومين السائرين على درب فلسطين. يعلم السيد تماماً أننا نصدقه ونفهمه حين يخبرنا بأننا ذاهبون معاً، وفي المستقبل المنظور، نحو وضعٍ لم نعهده من قبل على مستوى المنطقة، نرى فيه معه جموع المحتلين والمستوطنين يتجهون بما تيسر من حقائبهم نحو المطارات والموانئ، ليغادروا أرضنا المحتلة إلى غير رجعة.
على مسارٍ آخر يهم السوريين كثيراً، وفي جواب عن سؤال يتعلق بإمكانية حدوث تسوية بين سوريا وتركيا، وخصوصاً بعد قمة طهران الثلاثية، والحديث عن مبادرة إيرانية على هذا الصعيد، اعتبر السيد نصر الله أن الظروف ليست مهيأة لمثل هذه التسوية في الوقت الراهن، خصوصاً أن أطماع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان واضحة في سوريا والعراق، وأن الأتراك عادوا إلى الحديث عن مرحلة ما قبل العام 1923، حيث كانت الدولة العثمانية تحتل بلدان المنطقة، وما يعتبره بعض المسؤولين الأتراك "حقوقاً" لهم في الأراضي العربية، وهي أطماع كان العمل جارياً على تحقيقها طوال السنوات العشر الأخيرة.
واعتبر السيد نصر الله أنَّ الرئيس التركي "ما زال يُراهن على بعض الأمور لتحسين موقعه"، وهي قراءة واقعية تعكسها التطورات الأخيرة في الشمال والشرق السوريين، كما في شمالي العراق. ولعلَّ القصف المتبادل بين الجيش السوري وجيش الاحتلال التركي في الشمال، بعد ساعات من حديث السيد، يعكس مدى صواب هذه المقاربة، ويُبين أنَّ دمشق وحلفاءها في المحور، وعلى رأسهم حزب الله وإيران، لا يعولون على أيّ وعود تركية في الوقت الحالي، بل إنهم ذاهبون إلى التعامل مع الوقائع الميدانية ومواجهة الأطماع والمشاريع التركية بالطرق اللازمة، وصولاً إلى تحرير الأرض السورية من جميع قوى الاحتلال الرابضة فوقها.
وهنا أيضاً، لم ينسَ السيد الحديث عن الأطماع الأميركية بسوريا والمنطقة، وسعي واشنطن لتفتيتها وسرقة مواردها، وخصوصاً النفط والغاز، ليؤكد ضرورة السعي الحثيث لمواجهة هذه المشاريع في سوريا ولبنان وعموم المنطقة، وسيطرة أهل الإقليم على ثرواتهم واستخراجها والاستفادة منها، وعدم الركون إلى المفاوضات الواهية التي تقصد واشنطن من خلالها إضاعة الوقت لما فيه مصلحتها ومصلحة كيان الاحتلال.
المؤكّد أنَّ هذا الحوار الذي أجراه الأمين العام لحزب الله على شاشة قناة "الميادين" لقي متابعةً واهتماماً سورياً كبيراً على جميع المستويات، لأنَّ هناك إيماناً راسخاً في الأوساط الرسمية والشعبية السورية بأنَّ صورة المقاومة التي يُمثلها السيد نصر الله هي انعكاس بهي وناصع لواقع هؤلاء السوريين وتطلعاتهم، وهي تُمثلهم خير تمثيل، لأنها منهم وهم منها، ولأن الدماء واحدة والآمال أيضاً، ولأننا بتنا في محور المقاومة حالةً واحدة.
هكذا ينظر إلينا المستعمر، وهكذا نرى أنفسنا. ومعاً، نسير نحو الوعد الذي ضحى الشعب والجيش والمقاومة في سوريا ولبنان من أجله، والذي أطلقه سيد المقاومة في هذا الحوار، حيث المستقبل القريب الذي نصنع فيه مصيرنا المشرف بأيدينا، وبثمار أزكى التضحيات وأنبلها وأثمنها.