"سلام يا مهدي".. أنشودة عشق وظاهرة اجتماعية
كيف أمكن لهذا النشيد أن ينجز، خلال شهرين، ما عجزت عن إنجازه مشاريع عالمية ضخمة؟
عشق الوجود وعطر الورود حبيب القلوب؛ إنه إمام الزمان والسيد القائد والحاج قاسم، وكل الشهداء المجهولي الهوية، حتى جميل العموري، وقد اعتلت صورته كتف بيروت، وهي تردد صدى سلامها عبر حشود الوعد الصادق، بعليل موسيقيّ عذب يأسر القلوب ويحفّز العقول لينتظم وهجها، وقد عبر الحدود واللغات وشتى الأجناس، من ملعب أزادي حتى جبال النبطية، مرورا بالترك والهنود والأفارقة، ليتجاوز دمعة الطفولة إلى تجاعيد الكهولة.
سلام تجاوز كل خطوط الشياطين الحمراء، نادت به شفاه الطفولة، وارتسم بانفعال الإنسانية، فتتحرك الأيادي وهي تشير إلى البعيد، كأن الجماهير تحفظه منذ صرخة الولادة الأولى، وتردّد وقع حروفه من دون صناعة اللقطات، في تماهٍ رمزيّ شاعريّ، يتسلّل بخفّة نحو دفء عالَم ربيعيّ بوجود الإمام، ليصبح في صلابة فكرة جيل واعد صامد، يتحفّز من أجل النهوض والقتال وطاعة القائد، عليّ هذا الزمان.
سلام يا مهدي، لم يَعُدْ، بهذا النشيد وهذا السياق، عقدةٌ تاريخية تستعصي على الفهم، ليتعجل هذا الجيل فَرَجَه. إنه اختصار إنسانيّ لكل مرويات الأمة بشأن المهدي، في جوهر رسالتها، باعتباره فارس عترة النبيّ، والذي تستنهضه دموع أبناء الشهداء، ليقود جموعها وقد تشكلت فيالقها لتنصره لا لينصرها، وقد ذابت في عشقه واستعدّت قَسَماً بالرب للفداء، في بعث إيجابيّ يرتقي بفكرة الغياب من الانتظار الهامشي إلى الفعل الثوريّ.
أكثر من ألف ومئة ونيّفٍ من الأعوام القهريّة، والأمة، في كل تياراتها ومذاهبها، تتهيأ لمهدي يرفع عنها الظلم ليبسط في ربوعها العدل، وقد طال فيها ليل الظالمين. مهديّ سبق أن وُلد أم لم يولد، لم يعد ذلك بهذا السلام المهدوي إشكالاً، ما دام ثمة جيل من الأشبال يندفع إلى الميادين العامة، وهو يخطّ دربه بنفسه معاهداً رمزية المهديّ، الدينية والتاريخية والعاطفية، ليحفظ النظام الإسلاميّ ويدافع عن قيم القاسم والعماد وبهشتي.
كيف أمكن لهذا النشيد أن ينجز خلال شهرين ما عجزت عن إنجازه مشاريع عالمية ضخمة، من الأعمال والغناء والمسرحيات والفكر وسفك الدماء؟! وهو نشيد بدا، للوهلة الأولى، رسمياً في عنوانه، ومذهبياً في رسمه، وقومياً في حروفه، لكنه تحرّر من كل ذلك، لتحتضنه الجماهير، في اختلاف مناحيها، وتكرّره الألسنة من دون تدقيق في حرفية الكلمات، لما هو إنسانيّة العبرات ورمزية الوجهة، وهي تمزج بين التراث الأصيل، أساساً للنهوض، وبين عذوبةِ الصوت في جاذبية موسيقية هادئة، وبين براءة الطفولة المحتشدة، وهي تعكس فطرتها العفوية بندى الشفاه، ورقصة الأيادي تبلل خدودها الوردية عيون دامعة وقسمات وجوه طامحة.
انساب سلام القائد في نسخته الإيرانية المترجمة إلى كل اللغات، فصارت لكل شعب نسخته. فالعراقي صاغه وفق أولوياته وطبيعته، واليمني أحدث في مبناه ما رآه، واللبناني رآه في عباس وراغب، لكنه المهديّ ظل روح النشيد وقسَم الوفاء، فكان هذا الانسياب بمثابة شلال عابر يغسل أدران الوجع عن أمة مقهورة منذ آهات الطف في صحراء كربلاء، ليندفع الأطفال والنساء والشيوخ والشبان وهم يردّدون السلام، وقد صار ملحمة شعرية اجتماعية، وشعراً بلا قافية الشعراء، واجتماعاً ليس فيه سقف للعائلات، وسلاماً لا يصلح خلف الجدران الإسمنتية ولا عبر خشبات مسرحية. وحدها الجماهير المحتشدة بالطفولة وكل الأعمار، تعلو به حناجرها بسلاسة، فيصبح نغمة موحدة في جرس موسيقيّ مهيب، يأسر كل مستمع فينضم طوعاً، متجاوزاً ما يعترضه حتى في غربة اللهجات.
ليس سحراً هذا السلام "الفارمندهي"، وفق التعبير الفارسي، ولا هو مشروع مموَّل بالملايين، ولا هو مؤامرة مذهبية، ولا هو تعصب قومي، ولا صنمية للقائد الفرد. إنه، بكل بساطة، مفاجأة بيانية، وأثر فكري دينيّ ثوري، بحسب تعبير السيد علي خامنئي، الذي يوجَّه إليه هذا السلام ابتداءً، باعتباره "الفارمندهي"، أي القائد، وقد عدّه دليلاً عملياً على تمسك الأجيال بالدين، وانقيادها إلى علماء الدين، وعشقها للشهداء وللفكر الثوري، الذي يمثله هؤلاء الشهداء.
ليس صدفة أن تهفو قلوب الناس نحو عمل فنيّ في واقع إسلاميّ منضبط، يراه كثيرون واقعاً مقيّداً بقوانين دينية صارمة؛ واقعاً تظهر فيه قوافل من النساء والصبايا والبنات المحجبات، على اختلاف أعمارهن الوردية، بما يزيد في احتشامهن المهيب جمالُ الصوت جمالاً يترقرق في محيّاهن غير المخدوش بصنعة الماكينة الغربية وتشوهاتها النفسية والجلدية، وهو يعيد إلى الفطرة الإنسانية مكانتها بعد طول ندوب غائرة طالت عظم أجيال خلت، منذ جال الفرنسي في رقاب شعوب مستعمراته يختطف الجماجم ليتفاخر بها كمنجز فنّي في متحف اللوفر، ومنذ اخترق الأميركي ذهنية الشرقيّ، حتى في قَصّة المارينز لشعر ضباطه العابرين بحارنا على أطلال قيمنا الجمالية.
إنها الفطرة الشرقية وقد نهضت، سلاماً من المهدي وإليه، من عمق تراثنا وإليه، ليعيد هذا السلام، في وعده الصادق، تصويبَ بوصلتنا، نفسياً وجمالياً، وقد رسخت كظاهرة اجتماعية تعيد ترميم نسيجنا الشرقي، غير آبهة بعمر أو جنس أو مذهب أو لون أو عرق، لما هو حالة نهوض مطرَّزة بحروف الذات العليّة، وهي تظلل أمة متعطشة إلى السلام بعد طول احتراب.