سدّ النهضة الإثيوبي: تطوّر الأزمة وأفق الحل

ترى الخرطوم أن هذا السد شُيد قرب أراضيها، وسيقدم لها الخدمة ذاتها التي يقدمها السد العالي لمصر، ويحقق لها أهدافاً استراتيجية.

  • يُعتبر سد النهضة أكبر محطة للطاقة الكهرومائية في أفريقيا، والسابع على مستوى العالم، بسعة تبلغ 6500 غيغاواط، وبكلفة بلغت نحو 4.8 مليار دولار.
    يُعتبر سد النهضة أكبر محطة للطاقة الكهرومائية في أفريقيا، والسابع على مستوى العالم، بسعة تبلغ 6500 غيغاواط، وبكلفة بلغت نحو 4.8 مليار دولار.

شهدت أزمة سد النهضة الإثيوبي تطوراً جديداً في 20 شباط/فبراير الجاري، حين قام رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بتدشين المرحلة الأولى من مشروع إنتاج الكهرباء من هذا السد الّذي لازمت مراحل بنائه المختلفة أزمات بين إثيوبيا المالكة لمشروع السد المقام على النيل الأزرق، والذي يعد أحد أهم مصادر نهر النيل، ودولتي المصب السودان ومصر.

وبعد قيامه يوم الأحد الماضي بالضغط على زر تشغيل توربينات المرحلة الأولى من المشروع، سعى رئيس الوزراء آبي أحمد إلى طمأنة الدولتين إلى أن بلاده لا ترغب في الإضرار بمصالح أحد، وأنَّ مصلحة دولة إثيوبيا الأساسية هي تأمين الكهرباء لنحو 60% من سكانها الذين يعانون الظلام، وتوفير جهد الأمهات اللائي يحملن الحطب على ظهورهن للحصول على الطاقة.

إزاء هذه الخطوة، أعلن السودان رفضه كلّ الإجراءات الأحادية الجانب التي اتخذتها إثيوبيا، والمتمثلة بملء السد في العامين السابقين، ثم عملية بدء الإنتاج الكهربائي التي تعتبر مرحلة من مراحل تشغيله بشكل أحادي بعيداً عن الاتفاق بين الدول الثلاث، والذي ظلَّ مطلباً ملحاً من دولتي المصبّ.

وقال بيان الحكومة السودانية الّذي صدر يوم الإثنين 21 شباط/فبراير الجاري إنَّ الإجراءات الإثيوبية تتنافى مع روح التعاون، وتشكّل خرقاً جوهرياً للالتزامات القانونية الدولية، وتخالف في الوقت عينه اتفاق إعلان المبادئ الموقع بين الدول الثلاث في آذار/مارس 2015. وجدّدت الحكومة السودانية موقفها الداعي إلى إبرام اتفاق قانوني ملزم بين الدول الثلاث ينظّم عمليات ملء السد وإدارته وتشغيله.

من جانبها، رأت الحكومة المصرية أنَّ عملية تدشين المرحلة الأولى من مشروع إنتاج الكهرباء التي قام بها رئيس الوزراء الإثيوبي تُعد انتهاكاً جديداً لاتفاق إعلان المبادئ الموقع بين الدول الثلاث. وفي السياق ذاته، قال الخبير المصري في الشأن الأفريقي، صلاح حليمة، إنَّ الرد المصري واضح في ظلِّ السياسة الأحادية وفرض الأمر الواقع من جانب إثيوبيا في ملء سد النهضة وتشغيله. واعتبر أن الخطوة الإثيوبية رمزية أيضاً، لكنَّ دلالتها تشير إلى أنها ما زالت ممعنة ومستمرة في التصرفات الأحادية وفرض الأمر الواقع، ما سيؤدي إلى أضرار جسيمة سيتعيَّن على مصر والسودان تجنبها بكل الطرق، بعد أن استنفدت المحاولات السلمية والدبلوماسية.

يُذكر أنَّ إثيوبيا بدأت بالتفكير في بناء سد الألفية الذي تحوَّل اسمه إلى سد النهضة منذ نحو 60 عاماً، وذلك لإنتاج الكهرباء، فاختارت إقليم بني شنقول الذي اقتطعه الاحتلال الإنكليزي من السودان، وأضافه إلى الجغرافيا الإثيوبية في العام 1902.

وتم اختيار أكثر المواقع انخفاضاً على مجرى النهر في الهضبة الإثيوبية، ليكون موقعاً لهذا المشروع الذي يبعد عن الحدود السودانية نحو 20 كلم، في مكان تحيط به تضاريس صعبة وقاسية، كما تحيط به الجبال من معظم الاتجاهات، ما يجعل انحدار الماء في مجرى النيل الأزرق داخل السودان انحداراً عنيفاً وطبيعياً لا يمكن تغيير مساره، بسبب طبيعة المنطقة وتضاريسها المعلومة التي تجعل نقل المياه من هذا المسار الطبيعي إلى أيّ مسار آخر في الأراضي الإثيوبية أمراً أقرب إلى المستحيل، ولا جدوى اقتصادية له، بسبب عدم توفر أراضٍ زراعية في منطقة السدّ يمكن ريّها منه.

وبسبب عدم توفر أراضٍ زراعية في الأراضي الإثيوبية بشكل عام، وفي المنطقة التي بُني فيها بصفة خاصة، فقد صُمم السدّ من أجل إنتاج الطاقة الكهربائية التي تعتبر واحدة من أهم مطالب النهضة في إثيوبيا. 

ويُعتبر سد النهضة أكبر محطة للطاقة الكهرومائية في أفريقيا، والسابع على مستوى العالم، بسعة تبلغ 6500 غيغاواط، وبكلفة بلغت نحو 4.8 مليار دولار، توفرت من دولة الصين ودولة عربية خليجية.

وقد ساهم المواطنون الإثيوبيون في وطنهم وخارجه في توفير التمويل، من خلال مشروع سندات الألفية الَّذي أطلقته الحكومة الإثيوبية وقدَّمته لمواطنيها بوصفه مشروعاً قومياً يتأكَّد عبره الولاء الوطني، فتدافع المواطنون إلى المساهمة عبر هذه السندات للتعبير عن وطنيتهم وولائهم لبلدهم، وارتبطوا بالمشروع ارتباطاً وثيقاً.

اكتملت الأعمال الإنشائية للسد بنسبة 80%، واكتمل الملء الثاني لبحيرة السد في 19 تموز/يوليو 2021، إذ بلغ حجم المياه المخزنة بعد الملء الثاني نحو 13 مليار متر مكعب من أصل 74 مليار متر مكعب تمثل أقصى سعة لتخزين المياه فيها. 

وسبق ذلك توقيع إثيوبيا والسودان ومصر اتفاقاً إطارياً منح الأولى الحق في بناء هذا السد، ورسم ملامح الإطار العام الذي ينظم العلاقة بين الدول الثلاث في كل ما يتصل به. وقد مُهر هذا الاتفاق بتوقيع رؤساء الدول الثلاث في الخرطوم في شهر آذار/مارس 2015. وبموجب ذلك، انطلقت جهود البناء الإثيوبية.

عندما أعلنت إثيوبيا عزمها على البدء بالملء الأول لبحيرة السد، والذي حددت له شهر تموز/يوليو 2020، اعترضت دولتا المصب السودان ومصر على ذلك، وطالبتا إثيوبيا بالتوقيع على اتفاق قانوني ملزم لملء السد وتشغيله. سبق ذلك خلاف بين الدول الثلاث على سنوات ملء بحيرة السد، فأضيف هذا البند المهم جداً ضمن البنود المقترحة للاتفاق القانوني الذي تتهرب إثيوبيا منه.

حينها، لجأت دولتا المصب إلى الولايات المتحدة الأميركية والبنك الدولي، وطلبتا التدخل لدى إثيوبيا لإيجاد حلّ لمعضلة الاتفاق القانوني، فاستضاف الرئيس الأميركي ترامب مباحثات بين الدول المعنية خلال الفترة الممتدة من 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2019 وحتى 28 شباط/فبراير 2020، وأعدت الوساطة الأميركية مسودة اتفاق وقعت عليها مصر، ورفضها السودان وإثيوبيا، بحجة عدم استيفائها شواغلهما وعدم تضمنها مطالبهما. 

منذ ذلك الحين، تمضي إثيوبيا في استكمال البناء. وقد أكملت الملء الثاني غير عابئة بالمشاغل الموضوعية لدولتي المصب، ومن دون اعتبار للمطالب المشروعة التي طرحتاها بشأن موضوع ملء السد وتشغيله، باعتبارها القضية الرئيسية المطروحة على طاولة المفاوضات والوساطات.

أما في ما يتصل بموقف الدولة السودانية من سد النهضة، فقد ظل ثابتاً في حقبة الحكم الماضي وحقبة الحكم الانتقال الحالي، إذ ترى الدولة أن هذا السد شُيد قرب أراضيها، وسيقدم لها الخدمة ذاتها التي يقدمها السد العالي لمصر، ويحقق لها أهدافاً استراتيجية، نذكر منها:

-   انتظام تدفّق المياه طول العام، وبمنسوب واحد، في النيل الأزرق، ومن ثم في نهر النيل، بدلاً من تدفقها خلال 3 أشهر فقط في العام، كما هو الحال الآن، الأمر الذي يمكن السودان من الاستفادة من كامل حصته من مياه النيل المبرمة بينه وبين مصر في العام 1959، والتي تبلغ 18.5 مليار متر مكعب، مقابل 55.5 مليار متر مكعب لمصر.

-   زيادة الرقعة الزراعية والاستفادة من الأراضي الصالحة للزراعة، والتي لم تتم زراعتها بسبب عدم توفر المياه الكافية، وزيادة عدد الدورات الزراعية من دورة زراعية واحدة في العام إلى 3 دورات زراعية، الأمر الذي يسهم بشكل كبير في تحقيق الأمن الغذائي السوداني والأمن الغذائي العربي، ويسهم بالتالي في تحقيق الأمن القومي العربي، وتحويل شعار السودان "سلة غذاء العرب" إلى حقيقة ملموسة.

-   زيادة إنتاج السودان من الطاقة الكهربائية التي تُنتجها السدود السودانية وانتظام عمليات الإنتاج التي كانت تتراجع قبل قيام سد النهضة خلال فصل الصيف بسبب قلة إيرادات النيل، كما كانت تتراجع خلال فصل الخريف بسبب تدفّق الطمي من إثيوبيا محمولاً على مياه النيل إلى السدود السودانية.

-   حماية السدود السودانية التي تهددها الكميات الكبيرة من الطمي المتدفقة من الهضبة الإثيوبية، وحماية قنوات الري المختلفة من هذه الكميات، وتوفير أموال طائلة كانت تنفق لحماية السدود وتطهير بحيراتها وتطهير قنوات الري في المشروعات الزراعية الكبيرة.

-   زيادة إيراد نهر النيل بمقدار 10 مليار متر مكعب كانت تتبخر في أعلى النهر وفي أسفله عند بحيرة السد العالي، علماً أن اتفاقية مياه النيل قضت باقتسام أية زيادة تحدث في إيرادات النهر بين السودان ومصر مناصفة بينهما، مثلما قضت بتحمل الطرفين أي نقصان يحدث في الإيراد بالتساوي بينهما، لا وفقاً لنسبة نصيب كلّ طرف من المياه.

-   انتظام النقل النهري من أقصى شمال وادي النيل حتى جنوبه طوال العام، الأمر الذي يوفر فرصة للتواصل الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وبأقل التكاليف المالية، إذا ما قورن بتكاليف النقل البري أو الجوي.

وعلى الرغم من حرص السودان على فوائد سد النهضة، فإنّه يعلق هذه الفوائد على إبرام اتفاق قانوني بين الدول الثلاث ينظم عملية الملء في الظروف العادية، والملء في أوقات الجفاف، والملء في أوقات الجفاف الطويل الممتد، وينظم عمليات التشغيل وتبادل البيانات والمعلومات ذات الصلة.

وفي سياق الحديث عن المخاوف التي يبديها البعض من قيام هذا السد، يؤكّد الخبراء من خلال معطيات السد الفنية والتصميمة، ومن معطيات جغرافيا السد، أنَّ من غير الممكن عملياً حجز المياه عبر هذا السد إلا في حدود السعة التخزينية لبحيرة السد، والبالغة 74 مليار متر مكعب، نظراً إلى طبيعة المنطقة التي بُني فيها السد، ولاعتبارات أخرى تتصل بعدم قدرة إثيوبيا على الاستفادة من أيِّ مياه تتجاوز السعة التخزينية للبحيرة، وبسبب افتقار منطقة السد والمناطق القريبة منها إلى الأراضي الزراعية، وبسبب عدم الجدوى الاقتصادية من نقل المياه إلى أيّ موقع آخر داخل إثيوبيا.

وبالتالي، لا يؤثر قيام السد سلباً في حصص مياه نهر النيل، إذ إنَّ النيل الأزرق الذي أقيم عليه السد تمر عبره 53% من المياه المتدفقة من إثيوبيا إلى نهر النيل، و47% من المياه المتدفقة من إثيوبيا إلى نهر النيل لا تمرّ عبر النيل الأزرق، إنما تمر عبر روافد أخرى معروفة، فضلاً عن عدم قدرة إثيوبيا على التأثير في حصص المياه الواردة من النيل الأبيض الذي ينبع من بحيرة فكتوريا في يوغندا، والذي يقترن بالنيل الأزرق الذي ينبع من بحيرة تانا في إثيوبيا في الخرطوم، ليشكلا سوياً نهر النيل العظيم، مع التأكيد أنَّ ملء بحيرة السد خلال فترة قصيرة يحدث تأثيراً سالباً في إيرادات النيل من المياه خلال فترة الملء، وتشغيل السد بشكل أحادي يؤثر سلباً في السدود السودانية.

ولهذا، يُلح الجانبان السوداني والمصري على ضرورة إيجاد معالجة بين الدول الثلاث لهذه المخاوف، وهو الأمر الذي لم يجد تجاوباً من إثيوبيا، ربما لأسباب تتعلَّق بالفائض المؤقت من نصيب السودان من مياه النيل، والذي لم يتمكّن من استخدامه بسبب تدفق كامل الحصة خلال 3 أشهر فقط، ولعدم توفر مواعين تخزين بحجم كامل حصته. وقد تعود الأسباب كذلك إلى الزيادة الكبيرة التي طرأت على إيرادات نهر النيل، والتي رفعت الإيراد من 80 مليار متر مكعب إلى نحو 110 مليار متر مكعب، يُضاف إليها 10 مليارات متر مكعب سيوفرها سد النهضة حين اكتماله.

لهذا، إنَّ حلّ أزمة سد النهضة رهن بإبرام اتفاق قانوني ملزم بين الدول الثلاث ينظم عمليات ملء وتفريغ بحيرة السد، وينظم عمليات تشغيله المختلفة، وعمليات الإدارة كافة، واستبعاد فكرة إعادة اقتسام الحصص، واستبدال فكرة التعاون المنتج بها، من خلال تأسيس شراكة تتقاسم فيها الأطراف الثلاث منافع النيل الكثيرة والعظيمة (الثروة السمكية، النقل، السياحة، الإنتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني).

مع كلّ ذلك، لا بدّ من تنفيذ نص المادة الخامسة من الاتفاق الإطاري الذي وقّعه الرؤساء الثلاثة في العام 2015، والتي تنصّ على تشكيل آلية تنسيقية من الوزارات المختصة في الدول الثلاث لضمان استمرارية التعاون والتنسيق حول تشغيل سد النهضة مع خزانات دولتي أدنى النهر. 

وفوق كلّ ذلك، لا بدَّ من أن تلتزم الدول الثلاث بعدم تمكين أي طرف رابع من الاستفادة من مياه النيل أو من المنافع التي يوفّرها، وهو الَّذي يجب أن تعمل من أجله النخب والشعوب الحريصة على مقدراتها وثرواتها وسيادتها واستقلالها.