سبع دقائق.. حكاية كافكا مع الشهيد حسين مسالمة
أَفرج الاحتلال عن مسالمة في شباط/فبراير 2021. ومنذ الإفراج عنه، مكث في مستشفى "هداسا" الإسرائيلي، حتّى نُقِل مؤخَّراً إلى المستشفى الاستشاري في رام الله،.
حسين، سأروي الحقيقة.. أعتذر!
حكاية حسين بدأت مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000. انخرط الأسير مسالمة في العمل النضالي ومقاومة الاحتلال، حتّى اعتُقل في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2002. خاض معركة قاسية استمرت ثلاثة شهور داخل أقبية التحقيق لدى الاحتلال، ليحكم عليه الأخير بعد عامين بالسَّجن مدةَ عشرين عاماً. ومنذ تاريخ اعتقاله، تنقَّل مثل سائر الأسرى بين عدة سجون، عاش فيها أحلامه وخيباته وآماله.
كانت محطتُه الأخيرة سِجنَ النقب الصحراوي. بدأت في هذا السجن تناوشه الأوجاع المتعدِّدة مدة عامين، ماطلت خلالهما إدارة السجون في نقل حسين إلى المستشفى من أجل العلاج، وليتبيَّن بعد الفحوص أنه مصاب بسرطان الدم، "اللوكيميا". وفي مرحلة متقدِّمة من المرض، تمّ نقله إلى مستشفى "سوروكا" الإسرائيلي، ليصبح حسين تحت بند الإهمال الطبي، والذي يتوغّل فيه الاحتلال في أجساد الأسرى، ويحرمهم حقَّهم الإنساني في العلاج، ويضع فوق الجرح ملحاً، ويضغط بذلك الملح، عبر كل إرهابه.
أَفرج الاحتلال عن مسالمة في شباط/فبراير 2021. ومنذ الإفراج عنه، مكث في مستشفى "هداسا" الإسرائيلي، حتّى نُقِل مؤخَّراً إلى المستشفى الاستشاري في رام الله، وبدأ السرطان ينهش جسد حسين، كما ينهش فلسطينَ نوعٌ آخر من السرطان، هو سرطان الاحتلال، استعمارياً وثقافياً وسياسياً... وفي عام 1993، بحثنا عن علاج "أوسلو" لهذا السرطان، لكن لم يكن العلاج ملائماً للمرض. ونحن، اليومَ، نبحث عن علاج ليعالج علاجنا الفاسد. هذا السرطان التي نتحدَّث عنه يمكن حله عبر انتهاء الاحتلال الذي عليه إدراك أن فلسطين ليست بلد المن والسلوى له، بل هي مكان لتناول السمك المتعفِّن.
السرطان بات يعشّش في الدم الذي يجري في عروق حسين، ليُقيم الأولُ مستعمرة داخل جسده، كما يقيم الاحتلالُ مستعمراته التي تنهش الأرض الفلسطينية التاريخية. إن جسد حسين ليس بعيداً عن فلسطين، بل هو يشبه، على نحو دقيق، خريطة فلسطين: هنا حاجز؛ هنا جندي للاحتلال يُطلق الرصاص على طفل؛ هنا قنبلة غاز داخل مدرسة لفتيات الأطفال؛ هنا مستوطنة في جبل بيتا، في مدينة نابلس المحتلة؛ هنا احتلال يتغلغل في فلسطين منذ أكثر من سبعين عاماً.
يبلغ عدد الأسرى المرضى قرابة 550، بينهم 10 مصابون بالسرطان وبأورام ذات درجات متفاوتة، وضمنهم الأسير فؤاد الشوبكي (82 عاماً)، وهو أكبر الأسرى سنّاً. ويعيش جزء من الأسرى المرضى في مستشفى "الرملة"، الذي يُعرَف بين الأسرى بالمسلخ. وكعادته، لا يقدِّم الاحتلال إلى هؤلاء الأسرى سوى المسكّنات، وخصوصا مسكن "أكامول". ومن خلال تجربتي في الاعتقال، عايشت جزءاً من هذه الحالات، وبدأت أدرك أن هذه المسكِّنات ليست لتخفيف الألم، بل لإطالة عمره أطولَ فترة زمنية ممكنة. إن هذا الظلم في العلاج، واللاإنسانيةَ في تنفيذه، أمران لا يمكن إنكارهما.
عاش حسين مع الألم في السجن كأنه يعيش في مستوطنة العقاب التي حدَّثنا عنها كافكا. وعلى الرَّغم أن عينَيِ حسين مُغلَقتان، فإنَّ عينَيِ الاحتلال القلقتَين تُواجهانه، وأجهزته تحاصره من كل مكان، كما يحاصر القفصُ العصفورَ الحر؛ كما يحاصر الاحتلال فلسطين. كان حسين يدرك أن آلةَ العقاب سوف تطبَّق يوماً ما على الاحتلال، وستنفّذ عبرها المقاومة المراحل الثلاث لآلة العقاب؛ "المسحاة، والمرقد، والمصمم". ولن تبلغ المقاومة الحكم على الاحتلال، فلسوف يعرفه الأخير بدنياً، حين تطبَّق عليه عمليات المقاومة، وستغرز الإبر _ إبر الثأر _ في جسد الاحتلال، وترسم عليه وشم "النصر أو الشهادة".
حكاية حسين ليست حكاية حزينة، بل حكاية يمكن تلطيفها. أن نقول، مثلاً، إن حسين كان يحتضر، ولا شيء يلازم الاحتضار سوى الخوف. لكن، ربما يسأل الإنسان: الخوف من ماذا؟ الموت! لقد بات الموت ذروة الأمل في حالة حسين. إن حسين كان لا يشعر بشيء، ويعيش رافضاً القشّة، معلناً من فوق سريره: سأصارع البحر. أصبح من السهل على حسين أن يصبح صيّاداً للحيتان، أو ربما رُبّاناً يقود سفينته وسط العاصفة. إنه الآن يزحف عكس التيار، وسيذهب هو وربّه ويقاتلان.
إن أصعب أنواع الدموع تلك الدموع التي تقف على الصراط، لا تسقط ولا تنجو. هكذا كانت حال عينَيِ أُمّ الأسير حسين مسالمة، عندما حاورتها الصحافية نسرين سلمي في تقرير صحافي يتناول زيارتها التي سمح بها الاحتلال لابنها الأسير، عند نقله إلى مستشفى "سوروكا"؛ زيارة لمدة سبع دقائق، بات فيها الزمن احتلالاً من نوع آخر: احتلالاً نفسياً. عينان تمتلكان القوة، وتُخَبّئان القهر، كأنهما قبرٌ، عليه وردٌ من الخارج، وفي الداخل يدفن في ترابه أجسادَ مَن نُحبّ. ويبقى السؤال في ذهن سُهيلة مسالمة: متى أقبّل حسين، إنْ لم يكن الآن؟
إن ما ينقص حسين اليوم، وقبل اليوم وبعده، هو الحب. كانت روح حسين تُلقي علينا قصيدة محمود درويش "أنا لست لي": "ولي جَسَدي المُؤَقَّتُ، حاضراً أم غائباً... مِتْرانِ من هذا التراب سيكفيان الآن... لي مِتْرٌ و75 سنتمتراً ... والباقي لِزَهْرٍ فَوْضَويّ اللونِ، يشربني على مَهَلٍ". ويُنهي بمقطع آخر من قصيدة "لاعب النرد" لدرويش أيضاً: "ومن حسن حظِّيَ أَني أنام وحيداً.. فأُصغي إلى جسدي.. وأُصدِّقُ موهبتي في اكتشاف الألمْ.. فأنادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر دقائق.. عشر دقائق تكفي لأحيا مُصَادَفَةً.. وأُخيِّب ظنّ العدم.. مَنْ أَنا لأخيِّب ظنَّ العدم؟".
يقول الشهيد باسل الأعرج: "هل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد؟"، وحسين أصبح شهيداً.