ريح الأوراس
لكل ذلك، أُدرجت الجزائر ضمن بنك الأهداف في المنظومة الإمبريالية – الصهيونية– الرجعية والعثمانية الجديدة، وعبر أكثر من أداة من أدوات القاتل المتسلسل.
ظلت الجزائر في عين العاصفة، سواء من الحراك الملوّن المشبوه بقواه الليبرالية والانفصالية والرجعية، أم من تيارات سياسية افتقدت التمعّن فيما يخطَّط للجزائر، واستثمار ما تراكم من ترهّل للدولة في أجندة خارجية لقوى الهيمنة الإمبريالية.
ولم تكن مقاطعة الانتخابات الأخيرة مجرد رسالة أو تعبير شعبي مشروع، بقدر ما عكست ظلال سيناريوهات خطرة تتربّص بالجزائر، وتذكّرنا بعشرية "الربيع العربي" السوداء، وما انتهت إليه من فوضى عارمة، وتدمير للبنى التحتية والهويات الجامعة.
أما لماذا الجزائر؟ فلأنها مع العراق وسوريا ومصر شكلت أكبر قوس سياسي – اجتماعي – اقتصادي – عسكري – ثقافي – حضاري عربي، وذلك بتاريخها وتقاليدها الوطنية واستقلالها السياسي وتنوعها الاجتماعي، وإمكانياتها الاقتصادية الكبيرة، بما فيها النفط والغاز والمعادن والزراعة ومجمّعات الحديد والصلب والبتروكيماويات، وكذلك مساحتها وعدد سكانها وجغرافيتها المتوسطية التي تربط بين أوروبا وأفريقيا، فضلاً عن عمق ارتباطها، سواء بآسيا العربية أم الإسلامية.
لكل ذلك، أُدرجت الجزائر في بنك الأهداف في المنظومة الإمبريالية – الصهيونية – الرجعية والعثمانية الجديدة، من خلال أكثر من أداة من أدوات القاتل المتسلسل:
1- الجماعات الأصولية الإرهابية عبر العشرية الدموية المعروفة، التي سبقت ما شهدته سوريا والعراق وليبيا، وكانت في جزء منها محصّلة ونتيجة لما بات "موديلاً" في أكثر من بلد. فما إن يرحل هذا القائد السياسي الوطني الكبير أو ذاك، حتى يحل محله جنرال سرعان ما يشرّع الأبواب ويفتحها أمام جماعات الإسلام الأطلسي، التي تبدأ بخطابات ناعمة وتنتهي بقطع الرقاب (السادات بعد عبد الناصر، الشاذلي بعد بومدين، وهكذا).
2- سياسات الانفتاح الاقتصادي عبر البنك وصندوق النقد الدوليين وإعادة هيكلة القطاع العام والجيش ورفع الدعم عن السلع والخدمات الاجتماعية الأساسية، وكما كشف أحد خبراء البنك الدولي، بيركنز، في كتابه "اعترافات قاتل اقتصادي"، فإن هذه السياسات كانت دوماً جزءاً من استراتيجية الابتزاز عبر الديون والهيكلة وصناعة الدول الفاشلة.
3- إعداد القوى المضادة من أطراف مختلفين جرى إعدادهم لهذه الغاية: ليبراليون وإسلاميون وناشطون وشباب الفيسبوك، ولا سيما ممّن جرى تدريبهم في معهد كانفاس "الآتبور" في بلغراد، المُدار من قبل الاستخبارات الأميركية.
4- يُضاف إلى كل ما سبق، في ما يتعلق بالجزائر، خصوصيتها وتركيبتها الاجتماعية والإثنية، وكذلك محيطها السياسي المغاربي والأفريقي وإشكالاته المعروفة؛ فمن جهة، ثمة فسيفساء وحّدتها الوطنية الجزائرية من دون أن تمنع اختراقها بين الحين والحين، على غرار ما شهدته قبل سنوات مدينة غرداية (إباضية ومالكية)، وما شهدته أكثر من مرة مناطق عديدة عبر أشكال مختلفة من اللعب على (الظهير البربري)، وآخرها الحركة المعروفة بحركة "ماك" بزعامة فرحات مهنا، التي تتخذ من باريس مقراً لها منذ عام 2001، وتتقاطع مع حركة "رشاد" الأصولية في مواقع عديدة، والمتهمة بالتعامل مع الاستخبارات التركية.
ومن جهة ثانية، فإن المحيط المغاربي حول الجزائر ليس محيطاً مستقراً، لا في التجربة السياسية ولا في المعطيات الجديدة وخلفياتها:
- غرباً، الاختراق الصهيوني الكبير في المغرب، والذي وصل حدّ الاتفاق العسكري، الذي قد تكون الجزائر أحد أهدافه، إضافة إلى الإطلالة اللوجستية على المحيط، وموقع البوليساريو في المشكلة القائمة مع المغرب حول الصحراء.
- شرقاً، ليبيا المفتوحة على كل الاحتمالات مع تعاظم النشاط الإرهابي فيها، ودعمه من قبل أطراف عديدين، أخطرهم الطرف التركي.
- جنوباً، الصحراء الكبرى، أعظم الطرق التجارية الأفريقية القديمة للذهب والملح، والتي باتت اليوم مرتعاً للجماعات الأصولية التكفيرية وعلاقاتها التاريخية مع الاستخبارات البريطانية والأميركية.
- شمالاً، البحر المتوسط بكل تنوّعه على حدّ تعبير برودويل، إضافة إلى القضية الشائكة كما بقية جيرانها (مهاجرو القوارب وتجّار البشر والمخدرات).
ومن قبل ومن بعد، الدار الكبيرة، على حدّ تعبير الروائي محمد ديب، وما تختزنه من ذاكرة وقضايا وتحولات جسّدها أيضاً القاصّ والروائي الطاهر وطار، سواء في بعدها الاجتماعي أم الديني.
وتكتسي الملاحظات السابقة أهمية مضاعفة بالنظر إلى ما يمكن تسميته بالدولة القارّة، شعباً وتاريخاً وثقافة وإمكانيات؛ فبقاء الجزائر قوية موحّدة ومزدهرة، يحوّلها إلى (كرة ثلج) جاذبة لكل جيرانها كما للقارة الأفريقية، فضلاً عن الدور المحوري الذي حفره أحمد بن بيلّا وبومدين وقادة التحرير الآخرون، وأرادوه من خلال القضية الفلسطينية والتموضع في قلب حركة التحرر العربية، رافعةً لهوية وحضور كبيرين ينقلان الجزائر من دوائرها الضيقة إلى واحد من اللاعبين الكبار، بين المشرق والمغرب وأفريقيا والمتوسط.
وهو الأمر الذي لا يروق العديد من القوى الدولية والإقليمية، وبشكل خاص:
1- الإمبريالية الفرنسية التي لم تغادر ثقافة وعقلية المتروبول والمركز الاستعماري، التي تسببت في مقتل عشرات الآلاف من الجزائريين خلال التجارب النووية الفرنسية في صحراء الجزائر، فضلاً عن مليون ونصف مليون شهيد خلال حرب التحرير، وذلك مقابل محيط أفريقي تابع تجري تغذيته بأنماط ثقافية تجعل من الفرَنكفونية هوية بديلة لمجتمع مشظّى وليست تنوعاً مع جيرانها في المتوسط الجنوبي. وليست التجربة الفرنسية مع الضواحي الباريسية للمهاجرين، ومنهم الوسط الجزائري، سوى حالة مصغّرة لهذه السياسة.
2- العدو الصهيوني، الذي يرى في الجزائر حاضنة مبكرة للمقاومة الفلسطينية، ولقوى عربية عرف خطورتها عليه عن قرب في كل محطات الصراع العربي الصهيوني.
3- تركيا الإردوغانية، التي ترى في الجزائر الصاعدة منافساً كبيراً لها على الصعيد الإقليمي، وكذلك في ما يخصّ أوروبا والشرق والصراع على خطوط النفط والغاز وأسواقهما، كما تسعى إلى تقزيم الجزائر وتمزيقها وإلحاقها بها مجدداً، ورؤيتها كولاية للدايات والبايات العثمانيين أيام السطوة العثمانية الإقطاعية. ومن المؤكد أن إطلاق تسمية الريّس عرّوج على إحدى السفن التركية، ليس من باب التكريم والاعتراف بفضل أمراء البحر الجزائريين في الذود عن السلطنة القديمة كلما تعرّضت للخطر، بل من باب التعامل مع هؤلاء الأمراء كجزء من التاريخ العثماني.
4- وبالمثل، موقف الإمبريالية الأميركية وامتداداتها ومقارباتها التوسعية العنصرية، إزاء كل قوة إقليمية تحصّن نفسها ومصالحها بالكرامة والسيادة، ونتذكر هنا الصدام التاريخي للأسطول الأميركي مع أمراء البحر الجزائريين.
كما تذكر دراسة لمازن الصالح (قضيتي) نقلاً عن بن فليس، أن التحالف الأميركي – الصهيوني – الرجعي اشترط لدعم بوتفليقة رئيساً في المرة الأولى ولوقف دعم التحالف للأصوليين الإرهابيين، أن تقوم الجزائر بإيداع أربعين مليار دولار من عائدات النفط والغاز في البنوك الأميركية.
لكل ما سبق، لن تتوقف قوى الشر الإمبريالية والصهيونية والرجعية عن التكالب على الجزائر عبر أشكال مختلفة، من الجماعات التكفيرية إلى الثورات الملونة والقوى الانفصالية، لكن (الدار الكبيرة) جارة البحر والجبال والصحراء العظيمة وبلد المليون شهيد، عصيّة على هؤلاء، وقادرة دوماً على الإمساك بزمام المبادرة والتقدم إلى الأمام.