دمشق وكردها... مخاطر الحوار المنقطع

هناك شبه إجماع على عدم القابلية للأخذ بالمشروع الكردي، باعتبار أن الغالبية من السوريين تراه من حيث المضمون والواقع فيدرالية حقيقية، ولكن بقوى عسكرية لا توجد في دول الاتحاد الفيدرالي.

  • دمشق وكردها... مخاطر الحوار المنقطع
    دمشق وكردها... مخاطر الحوار المنقطع

ضاقت السُبل بالسوريين، بعد توقّف الرهانات على الانفتاح العربي، وإمكانية انعكاس آثار العلاقات المأمولة ببدء تدفّق استثمارات التعافي المبكر، الضرورية لعودة اللاجئين من دول الجوار، والانطلاق نحو إعادة الإعمار الجزئي، بما يخفّف من مصاعب الحياة الضاغطة بقسوة عليهم، وما يمكن أن يترتّب على ذلك من سياسات ذات مستوى عالٍ من المخاطر. 

ولا سيما بعد أن انتهى الاجتماع الأخير بين دمشق وكردها إلى قطيعة، بفعل المطالب الأقرب للشروط القاسية، التي تقدّم بها قادة الكرد المفاوضون، بالشكل الذي لا يمكن القبول به، وخاصةً بعد أن تمّ إبلاغهم من قبل ممثّل الولايات المتحدة نيكولاس غرينغر، بأن قوات بلاده باقية بشكل دائم وطويل في منطقة شرق الفرات.

على الرغم من حاجة السوريين جميعاً للتغيير الجذري العميق الهادئ، في بنيتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعلى مستوى تصوّرهم للهوية الوطنية الجامعة لهم، فإن طبيعة المطالب التي تمّ طرحها، لا تستطيع حتى القوى المعارضة لدمشق القبول بها، وخاصةً ما يتعلق باللامركزية السياسية، والحفاظ على البنية العسكرية لقوات "قسد"، ضمن إطار الجيش السوري، مع الحفاظ على مساحة واسعة من الاستقلالية. 

هذا إضافة إلى حصة وازنة من الثروات النفطية والغازية، ما دفع لتأجيل الحوار حول هذه المسائل بين مجلس سوريا الديمقراطي "مسد" وبعض المعارضة إلى المرحلتين الثانية والثالثة من حوارهما واتفاقهما.

من الواضح أن الخلاف على النقاط الثلاث بين الطرفين، هو أمثل تعبير عن المزاج العام لأغلبية السوريين، رغم التباين الواضح بين جميع قوى المعارضة، وعدم انبثاق مشروع سياسي واضح المعالم، مقابل مشروع سياسي عسكري واضح المعالم، ومحدّد الأهداف والآليات للقادة الكرد. ولكن هناك شبه إجماع على عدم القابلية للأخذ بهذا المشروع الواضح، باعتبار أن الغالبية تراه من حيث المضمون والواقع فيدرالية حقيقية، ولكن بقوى عسكرية لا توجد في دول الاتحاد الفيدرالي.

على الرغم من العلاقة المميّزة بين دمشق وكردها الأوغلانيّين، منذ أن قَدِمَ عبد الله أوغلان إلى سوريا عام 1979، وأقام في كنفها حتى عام 1998، وغادرها طوعاً لحماية سوريا من الاجتياح التركي، فإن هذه العلاقة استمرّت، رغم ما أصابها في زمن الانفتاح السوري التركي، فإن الطرفين لم يقطعا التواصل بينهما، بعد اندلاع الحرب في سوريا، وكانت هناك أوجه من التعاون بينهما في كل المراحل.

هذا رغم حالات التباين بالمواقف، إن كان بطبيعة الاصطفاف بين الشرق الذي اختارته دمشق، وبين الغرب الذي اختاره القادة الكرد كحلّ يأملون فيه لقضيتهم، وخاصةً العلاقة مع الولايات المتحدة، التي تمنحهم فرصة الحصول على أكبر قدر من المطالب لن تمنحهم إياها، بحكم وجود قوتها غير الشرعية في منطقة الجزيرة السورية.

والأمر لا يتوقّف على التباين في الاصطفاف السياسي والعسكري، بل يذهب إلى الاختلاف المتضاد بالرؤية لمستقبل سوريا السياسي، حيث تُصرّ دمشق على بقاء البنية السياسية والاقتصادية لما قبل عام 2011، وأن التغيير المطلوب تحقيقه هو ضمن هذه البنية، وليس في سياق بنية جديدة مختلفة لا تُعرف مآلاتها الخاصة والعامة لأطراف النسيج السوري المتنوّع، وهذا يتعارض مع ما يطمح ويعمل عليه الكرد عامةً، والأوغلانيون خاصةً.

يضيق الخناق على السوريين بفعل اشتداد العقوبات الأميركية والغربية والعربية على سوريا، وهي المرشّحة للمزيد بعد البدء بتطبيق ما يعرف بـ "قانون الكبتاغون" الذي أقرَّه الكونغرس، بمنحى جديد لتطبيق قرار مجلس الأمن الدولي 2254، بما يحفظ المصالح الاستراتيجية العالمية للولايات المتحدة. 

وقد تضافرت السياسات الاقتصادية الداخلية مع العقوبات بشكل متآزر، مما تسبّب بانهيار متسارع للقدرة على تحدّي المصاعب المعيشية، بما يقلّل من خيارات دمشق بالحركة، ويُضيّق من هوامشها الضيقة أصلاً، ولن يبقى أمامها سوى خيارات محدودة جداً، قد يكون أحدها وأهمها هو الاندفاع عسكرياً نحو شرق الفرات، بالشراكة مع روسيا وإيران، لتحرير مصادر الطاقة، بشكل ينعكس على السوريين مباشرة، ويستفيد منه حلفاؤها بإخراج الولايات المتحدة من غرب آسيا.

يُعتبر هذا الخيار وهو الأصعب والأغلى ثمناً، بمثابة إنهاء قطعي للعلاقات بين الطرفين، لا رجعة عنه بين دمشق وكردها، رغم حرص الطرفين الشديد على عدم إراقة الدماء، ولكن الخيارات السياسية في اللحظات الوجودية لا مردّ لها، وتسقط أمامها كل رهانات الماضي.

والطرفان يحتاجان للتعاطي وفق قواسم مشتركة، مبنية على طبيعة التهديدات الجامعة لهما من جهة، وحجم التعويل عليهما في المرحلة المقبلة، فكل طرف منهما لا يمكن إلغاؤه في المشاركة بصناعة مستقبل سوريا، فلا اللامركزية السياسية غير قابلة للحياة والاستمرار، ولا الاستقلال العسكري يمكن أن يُقبل في نظام سياسي، بغياب الدعم الأميركي الحقيقي، وكثرة الخصوم الإقليميين، ولا إمكانية للعودة بسوريا إلى صيغة ما قبل عام 2011.

الأمر يتطلّب الواقعية بالطموحات، فما لا يدرك كلّه، لا يُترك جُلّه، وقد تكون معادلة رابح-رابح هي الأفضل للسوريين جميعاً، وليس لطرفين محدّدين، وقد يكون ما قاله عبد الله أوغلان لمحاميه في تركيا عن وضع الكرد فيها، بتاريخ 28 كانون الثاني/يناير2009 "إن القومية ليست هي الحل"، بمثابة بوصلة لطبيعة التوجّهات لكل السوريين.

"يمكن لجميع الشرائح العيش معاً وحلّ مشاكلها الخاصة فيما بينها. جميع الفئات، العرب، الكرد، الأتراك، السنة، العلويون، الأيزيديون، باختصار، كلّ الثقافات والمعتقدات تمثّل نفسها داخل هذا الجهاز وتجد الفرصة لتمثيلها. الشيء الرئيسي هو الديمقراطية، الديمقراطية ثروة، الديمقراطية الحقيقية تجلب الثروة وتجلب السلام وتجلب معها بيئة صحية. إنه الشيء نفسه بالنسبة للنساء. يمكن للشعبين التركي والكرديّ العيش معاً، وهذا صحيح وتاريخي وعادل"، وهذا ليس ببعيد عن السوريين، في معادلات النظام الدولي الجديد قيد الولادة.