خيارات المقاومة في مواجهة "الصهيونية الدينية"
هل ستجد المقاومة الفلسطينية نفسها مضطرة إلى تفعيل طاقة جمهورها وتحالفاتها في الخليج والمغرب وتركيا والأردن، على سبيل المثال، لتوجيه ضربات أمنية إلى أذرع المحتل الخارجية؟
بقدر ما تبدو خيارات السلطة محدودة بهوامش ضيقة، تبعاً لالتزاماتها السياسية، فإن خيارات المقاومة تحظى بهامش أوسع نسبياً، في مواجهة مستجدّ الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، وما تمخّض عنها من صعود "الصهيونية الدينية"، واتفاقاتها الائتلافية مع نتنياهو، والتي صادق عليها الكنيست، على نحو يضع الضفة الغربية مع القدس المحتلة في قبضة غلاة المتطرفين الصهاينة بزعامة الثنائي، بن غفير وسموتريتش.
خيارات المقاومة الممهورة بالعرق والألم والدم، تبدو مع هذا الصعود أكثر شرعية، وتجلّت في أنصع صورها في المجموعات الفدائية التي أخذت تتوالى على امتداد الضفة الغربية، وخصوصاً في شماليّها، وأبرزها كتيبة "جنين" و"عرين الأسود"، وقد أسندتا ظهريهما إلى سرايا القدس وكتائب الأقصى، وعشرات الشبّان الغاضبين من وحشية المحتل.
ويُرجَّح أن تقف السلطة عاجزة عن توسيع هامش خياراتها، نظراً إلى طول أمد مراهنتها على الأميركي. وهي، في أحسن أحوالها، مضطرة إلى مغادرة مربعها الراكد منذ عقدين من الزمن، لتنسجم مع ما تمخّض عن تطور الانتخابات الأخيرة في الكيان العبري، لتواجهه في عقر دارها بين مقر المقاطعة وقيادة بيت إيل، وبينهما مخيم الجلزون كشاهد وشهيد، في تعبير رمزي عن طبيعة المأساة السياسية الراهنة.
أمام هذه المعطيات، أين تقف المقاومة، وما هي خياراتها؟ والمقاومة هنا ليست غزة، بقيادة كل من حماس والجهاد حصراً، وإن كانت عنوانها الأبرز، بسبب ما تمتلكه من قوة صاروخية وبنية تنظيمية، بل ينسحب عليها كل نبض يواجه المحتل، حتى لو تمثّل بذئاب منفردة كالشهيد عدي التميمي، أو بنية تحتية منظمة، كالخلية التي نجحت في تفجير القدس المزدوج عن بعد في نهاية الشهر الماضي.
تتضافر خيارات المقاومة في أبعادها الميدانية والسياسية والعسكرية، كما المعيشية والإنسانية، وهي منفتحة ومتداخلة، تبعاً لفكرة المقاومة، باعتبار مواجهة المحتل جوهر وجودها. لذا، فهي خيارات تتسع بمقدار تنوعها، وإن ظلت المواجهة الميدانية جوهرها، وهي تخرج عن طبيعتها كمقاومة في حال حصرت تنوعها في العامل السياسي أو المعيشي، على الرغم من أهميتيهما.
وفي حال حافظت المقاومة على صلابة الموقف السياسي، وعدم الارتهان للعامل المعيشي، فهي قادرة، في ظل الفعّالية الميدانية، على صياغة معادلة عصية على الانكسار، وهذا من شأنه أن يتيح للمقاومة أن تندفع إلى مواكبة هذا التطور عبر خيارات مستجدّة. فما هي هذه الخيارات المتوقعة؟
قد تجد المقاومة نفسها مدفوعة نحو هوامش أمنية وميدانية لم تملأها من قبلُ، فتضطر إلى تفعيل جبهة الداخل مثلاً، بحيث إن العلاقة بين المقاومة وتيارات سياسية فاعلة هناك، علاقة متينة، وكثير منها ينتمي إلى المدرسة الفكرية السياسية ذاتها، وهي جبهة مؤلمة للمحتل. ورأينا تداعياتها خلال معركة "سيف القدس"، وقد اهتزت قليلاً، وكيف عدّها المحتل أخطر من صواريخ غزة التي كانت تملأ الأفق.
وهناك جبهة الإقليم، بما فيها دول التطبيع، بحيث رأينا حرس الثورة الإيراني مثلاً، كيف ضرب مراكز الموساد في كردستان العراق، عندما تجاوز الكيان العبري خطوط الميدان الحمراء، فهل ستجد المقاومة الفلسطينية نفسها مضطرة إلى تفعيل طاقة جمهورها وتحالفاتها في الخليج والمغرب وتركيا والأردن، على سبيل المثال، لتوجيه ضربات أمنية إلى أذرع المحتل الخارجية؟
وعند النظر إلى خريطة المواجهة مع غزة، وتحويل كل مواجهة إلى حرب، فإن المقاومة قد تُضطر إلى التنازل عن الهدوء النسبي الراهن، وإلى اعتماد ما هو مشاغلة ميدانية محسوبة. وليس بعيداً عنا حادث القتل الفردي من مسافة صفر لأحد قنّاصي جيش الاحتلال الإسرائيلي في العام الماضي، عقب مجزرة المتظاهرين السلميين على السلك، أو مناوشات هنا وهناك عقب كل توغل لجرافات الاحتلال، وهي توغلات دائمة، على نحو يجعل حياة مستوطني الغلاف جحيماً لا يطاق. وفي حالة تحوّلها إلى حرب فإن هامش المقاومة بالتسلل عبر الأنفاق أو عبر البحر، نحو تجمعات المستوطنين ومعسكراته، ما زال مجهول الحال بالنسبة إلى المحتل، ومفتوحاً على احتمالات شتى.
وفي وقت تبدو خيارات المقاومة في الضفة الغربية أوسع هامشاً للوهلة الأولى، سواء عبر الجسم السري الرئيس لقوى المقاومة، أو عبر المجموعات الفدائية العلنية في شماليّها، بسبب طبيعة انفتاح الضفة على معظم مراكز التأثير في الكيان، وهو انفتاح يحاول المحتل خنقه من جنين، عبر تعزيز الحواجز العسكرية، نظراً إلى عدم وجود مستوطنات حول جنين، بخلاف سائر المناطق، لذا قد تجد المقاومة نفسها مندفعة في اتجاه استحضار تجربة انتفاضة الأقصى، وهو ما يتردّد حالياً في الإعلام العبري بصورة واسعة، وهي تجربة وضعت الطرفين في توازن رعب طوال أعوام ثلاثة متصلة، في الفترة 2002-2004.
قد تجد المقاومة نفسها، من دون تنظيم مسبّق، أو عبر ردود فعل تُفرزها حواضن المقاومة بصورة غير مباشرة، مندفعةً نحو توجيه ضربات على شاكلة ما وقع في رمضان وشعبان المنصرمين، وخصوصاً في ظل عدم القدرة على إيقاع خسائر بشرية كبيرة في صفوف قوات الاحتلال، دائمة التوغل، والتي تسبّبت بخسائر فلسطينية واسعة، على نحو يدفع المقاومة ربما نحو الانكفاء المحسوب، الأمر الذي يسمح لها بأن تباغت قوات الاحتلال، أو تُوْقعها في كمائن، بحيث يكون اختفاؤها وظهورها محسوبين بعوامل ميدانية، بعيداً عن وهج مبدأ التصدي الحصري الشامل والدائم.
ويبقى خيار المقاومة الأقوى، والذي قد تُضطر إلى الاندفاع نحوه، وخصوصاً إذا جاءت حماقات الكيان تبعاً لعقلية بن غفير وسموتريتش، المتحفزة تجاه الضفة وغزة، وتبعاً لطموحات نتنياهو وتهديداته الانتخابية السابقة تجاه إيران ولبنان، هو توحّد جبهات المقاومة وعدم السماح باستفراد المحتل بجبهة من دون أخرى، وخصوصاً جبهة الضفة، التي تقاتل فيها جنين عبر مساحة لا تتجاوز 3 كم، منذ عام ونصف عام، وهو توحّد طال انتظاره، وبات يلحّ على جمهور المقاومة وكوادرها، في وقت انتظمت حبّات المحور واشتدّ عودها، و"الرماح تأبى إذا اجتمعن تكسّراً، وإذا افترقن تكسّرت آحادا".