خواطر في ذكرى هزيمة الـ67

ما إن انتهى عبد الناصر من كلمته حتى وجدت نفسي وسط طوفان من البشر يهرول من دون هدى صائحاً "حنحارب..حنحارب".

  • في ذكرى هزيمة يونيو 1967، المجد للشعوب المقاومة الرافضة للهزيمة.
    في ذكرى هزيمة يونيو 1967، المجد للشعوب المقاومة الرافضة للهزيمة.

ما تزال ذكرى حرب 1967 محفورة في وجداني كأنها حدثت بالأمس القريب، رغم مرور 55 عاماً على وقوعها. كان عمري وقتها 20 عاماً، وكنت قد انتهيت من أداء امتحان السنة النهائية في قسم العلوم السياسية بكلية التجارة جامعة الإسكندرية، وعدت بالفعل إلى القرية التي تقيم فيها أسرتي في محافظة البحيرة، وفي اليوم التالي، اندلعت الحرب. 

ولأنني كنت في هذه السن المبكرة متحمساً للرئيس جمال عبد الناصر، ومؤمناً بمشروعه الوطني والقومي، ومقتنعاً بجدارته في قيادة مصر والأمة العربية، فقد كان لدي ميل طبيعي إلى تصديق كل ما يقال في وسائل الإعلام الرسمية عن نتائج المواجهة العسكرية المحتملة مع "إسرائيل"، ولم يكن يخالجني أي شك في نصر حاسم وسريع إن وقعت الحرب، لكن ما جرى في ميدانها كان صادماً لدرجة لا تصدق. وقد أصابني ذهول حقيقي أثناء استماعي إلى الرئيس عبد الناصر وهو يتحدث فجأة عن تحمّله المسؤولية الكاملة عما جرى، ويعلن في الوقت نفسه قراره بالتنحي عن أي منصب رسمي.

ومع ذلك، ما إن انتهى الرئيس من إلقاء كلمته الصادمة حتى وجدت نفسي محشوراً وسط طوفان من البشر، يهرول من دون هدى نحو الشوارع، ويصرخ مطالباً برفض الهزيمة ومواجهة التحدي، صائحاً بأعلى ما تسعفه الحناجر "حنحارب..حنحارب". أظن أن وقتاً ليس بالقليل مر قبل أن تبدأ مشاعري في العودة التدريجية إلى حالتها الطبيعية، ويتمكّن عقلي من استرداد قدرته على التفكير الهادئ، وبدأ يلحّ على ذهني طوفان من الأسئلة المشروعة حول حقيقة ما جرى، وكيف أمكن التغرير بالشعب إلى هذا الحد.

أدت الهزيمة المروعة التي لحقت بمصر في حرب يونيو 67 إلى اهتزاز صورة عبد الناصر ونظامه في ذهني، وانتابتني بعدها حالة من عدم اليقين والشك في كل ما يدور حولي، وظللت على هذا المنوال شهوراً طويلة، رحت خلالها أبحث لنفسي ذات اليمين وذات اليسار عن بوصلة فكرية وسياسية تهديني وترتاح إليها سريرتي، إلى أن رست سفينتي الحائرة أخيراً على قناعات لم تتبلور بوضوح كامل في ذهني إلا حين أدركت أهمية وضرورة التمييز بين مشروع عبد الناصر الفكري، من ناحية، ونظامه السياسي، من ناحية أخرى. 

فبينما راحت قناعاتي تترسخ من جديد حول سلامة الأسس التي بنى عليها عبد الناصر مشروعه الفكري، المتمحور حول أهداف الاستقلال والتحرر الوطني ورفض التبعية والوحدة العربية والعدالة الاجتماعية ومقاومة المشروع الصهيوني، بدأ يجتاحني في الوقت نفسه غضب عارم على كل ما كان يمثله نظام عبد الناصر السياسي، المتمحور حول عبادة الفرد وغياب الديمقراطية والمستهين بحقوق الإنسان.

وحين توصلت إلى نتيجة مفادها أن نظام عبد الناصر السياسي، وليس مشروعه الفكري، هو الذي تسبب في الهزيمة، بدأت أستعيد توازني النفسي، خاصة وأن عبد الناصر بدأ يتحدث بوضوح عن حاجة مصر الماسة إلى نظام سياسي جديد فور تمكنها من إزالة آثار العدوان. غير أن إرادة الله شاءت أن يرحل الزعيم الذي أحبه الشعب قبل أن يتمكن من تحقيق أي من الهدفين اللذين سعى إلى تحقيقهما في سنواته الأخيرة، وهما: إزالة آثار العدوان وتأسيس نظام ديمقراطي يقوم على المؤسسات واحترام القانون.

كنت قد قررت السفر إلى فرنسا لاستكمال دراستي العليا في العلوم السياسية في صيف  1970، ووصلت إلى باريس في آب/ أغسطس من العام نفسه، ومن هناك رحت أتابع ما يجري في مصر، ولم تكد تمر أسابيع قليلة حتى سمعت الخبر الذي اهتزت له الدنيا كلها وأصابني بحزن عميق، وهو خبر وفاة عبد الناصر. ولأن التاريخ السياسي للسادات، من منظوري الشخصي على الأقل، لم يوحِ بالكثير من الثقة، فقد رحت أتابع خطوات رئيس مصر الجديد بقدر كبير من الحذر وعدم اليقين. غير أن ذلك لم يمنعني من التصفيق له والإعجاب الشديد به حين اتحذ قراره الشجاع بخوض الحرب في 6  تشرين الأول/أكتوبر 1973، وهي الحرب التي حقق فيها جيش مصر إنجازاً ضخماً، إذ بدا السادات في ذلك الوقت وكأنه نجح في تحقيق ما عجز عبد الناصر نفسه عن تحقيقه.

ومع ذلك، ما لبث أن عاودني الشعور بعدم الثقة والشك في نيات هذا الرجل، خاصة مع تطور أحداث "الثغرة" والتلهف الذي أبداه للتقارب مع الولايات المتحدة إبان جولة كيسنجر المكوكية في المنطقة، وسرعان ما تبين أن شكوكي تجاهه كانت في محلها. فما إن تمكّن السادات من تثبيت وقف إطلاق النار على الأرض، بإبرام الاتفاق الأول للفصل بين القوات المتحاربة، حتى شرع على الفور في تفكيك إرث المشروع الناصري خطوة خطوة، رغم أنه محسوب على ثورة يوليو وكان عضواً مؤسساً في تنظيم الضباط الأحرار، وهو الرجل الذي وقع عليه اختيار عبد الناصر شخصياً ليكون نائباً له. 

كان تقديري أن السادات تغير تماماً بعد حرب أكتوبر 73، وبدا لي وكأنه شخص آخر مختلف لا هم له إلا مطاردة شبح عبد الناصر، والأرجح أنه ظهر أخيراً على حقيقته التي كان قد استطاع إخفاءها طوال هذه الفترة. 

وهكذا بدأت مصر الساداتية مسيرة مختلفة كلياً عن تلك التي شهدتها مصر الناصرية عقب نجاح ثورة يوليو 1952، ولم يكن بوسع أحد أن يتوقع، ولو في أحلك كوابيسه سواداً، أن يصل التخبط بخليفة عبد الناصر إلى اتخاذ قرار بزيارة القدس، ثم التوقيع على معاهدة "سلام" منفردة مع "إسرائيل"، لينتهي الأمر باغتياله شخصياً في واحد من أكثر المشاهد عنفاً في تاريخ الحياة السياسية المصرية. فقد كان لافتاً للنظر أن يتم الاغتيال على يد أفراد من القوات المسلحة المصرية، وفي يوم 6 تشرين الأول/ أكتوبر 1981، ذكرى الاحتفال بالنصر الذي حققته هذه القوات عام 1973! وقد شاءت الأقدار أن يكون وصولي إلى مصر، عائداً من فرنسا بعد إتمام دراساتي العليا، قبل أيام قليلة جداً من زيارة السادات للقدس.

لذا، فقد تابعت وقائع هذا الحدث المثير في تاريخ الأمة والمنطقة مذهولاً عبر شاشات التليفزيون، وأعترف أنني لم أستطع أن أمنع نفسي وقتها من الانخراط في نوبة بكاء حارق، كما تابعت من المكان نفسه أيضاً وقائع حدث بدا أكثر إثارة، جسدته لحظة اغتيال السادات نفسه وهو يشاهد العرض العسكري بمناسبة احتفالات أكتوبر، وهو الحدث الذي بدا وقتها وكأنه يطوي صفحة بائسة من تاريخ مصر.

حين بدأت أمارس عملي الأكاديمي في جامعة القاهرة، مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، بدت لي المعاهدة الموقعة بين مصر و"إسرائيل" عام 1979 وكأنها الموضوع البحثي الأولى بالرعاية والاهتمام في مقتبل حياتي المهنية، إذ راح يلح على ذهني وقتها سؤال يدور حول ما إذا كان بمقدور هذه المعاهدة أن تفضي إلى تسوية حقيقية ودائمة للصراع العربي الإسرائيلي، وقادني البحث إلى نتائج شرحتها في كتاب نشره مركز دراسات الوحدة العربية عام 1984 تحت عنوان "مصر والصراع العربي الإسرائيلي: من الصراع المحتوم إلى التسوية المستحيلة".

وكما يتضح من عنوان هذا الكتاب، فقد كانت النتيجة الأساسية التي توصلت إليها هي استحالة أن تؤدي هذه المعاهدة إلى سلام حقيقي بين العرب و"إسرائيل"، وإن مصير المنطقة سيتوقف في نهاية المطاف على محصلة موازين القوى بين الأطراف المعارضة لهذه الاتفاقية والأطراف المؤيدة لها، وذلك على مختلف الصعد المحلية والإقليمية والدولية، أي في مصر و العالم العربي وبين القوى العالمية المتنافسة على النفوذ في منطقة الشرق الأوسط.

اليوم، وبعد 43 عاماً من إبرام هذه المعاهدة، قد تبدو الصورة ملتبسة في أذهان البعض. فمن الواضح أن مصر الساداتية لم تعد تقف وحيدة في ساحة المطبعين، إذ تلاحقت من بعدها تباعاً موجات التطبيع مع "إسرائيل": ففي موجة ثانية التحقت الأردن بركب المطبعين، عقب إبرامها لاتفاقية وادي عربة عام 1993، وتبعتها منظمة التحرير الفلسطينية، عقب إبرامها لاتفاقية أوسلو عام 1994. وفي موجة ثالثة، بدأت تضرب المنطقة عقب إعلان ترامب عن "صفقة القرن" عام 2018، انضمت إلى قافلة المطبعين مع "إسرائيل" دول عربية جديدة، مثل الإمارات والبحرين ثم المغرب..الخ. 

ورغم أن هذه الصورة قد توحي في ظاهرها بأن التيار الساداتي انتصر في النهاية، وأن قطار التطبيع انطلق ولن يكون بمقدور أحد وقفه، لكن ما يجري في الأعماق شيء آخر. فرغم قطار التطبيع المتحرك، أو حتى المنطلق، لم يتحقق السلام في المنطقة حتى الآن، بل ولم يكن أبعد مما هو عليه الآن.

والواقع أن كل ما جرى ويجري في المنطقة حتى الآن يؤكد، من ناحية، أن "إسرائيل" لا تريد السلام وإنما تبحث عن الهيمنة على كامل المنطقة، وأن بعض الأنظمة العربية مستعدة للتعايش مع هذه الهيمنة أو حتى الرضوخ لها، إما خوفاً من إيران أو استسلاماً للإرادة الأميركية، لكن ما جرى ويجري في المنطقة يؤكد، من ناحية أخرى، أن الشعوب العربية، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني، لن تقبل بهذه الهيمنة، بل وتصر على مقاومتها وإلحاق الهزيمة بالمشروع الصهيوني، مهما طال الزمن وعظمت التضحيات.

ورغم كل الخلافات القائمة بين التيارات والفصائل السياسية في العالم العربي، ومنها التيارات الفلسطينية، ما زال بعض هذه الفصائل يحمل السلاح ويصر على المقاومة المسلحة، بل واستطاع تحقيق إنجازات لا يمكن الاستهانة بها، ما يجعل الأمل في النصر حياً مهما طال الزمن.

في ذكرى هزيمة يونيو 67، المجد للشعوب المقاومة الرافضة للهزيمة.