خلافة أبي مازن: خطر داهم أم فرصة تاريخيّة؟!

على الرغم من اتخاذ قيادة السلطة الفلسطينية الاحتياطات لاحتمال خلافة محمود عباس من خلال تغييرات وإجراءات غير معلنة تضمن انتقالاً سلساً إلى حدٍ ما، فإنَّ عوامل واعتبارات عدة قد تحول دون انتقال كهذا.

  • خلافة أبي مازن: خطر داهم أم فرصة تاريخيّة؟!
    خلافة أبي مازن: خطر داهم أم فرصة تاريخيّة؟!

مع مرور الوقت، تتواتر التقارير المتضاربة حول مصير السلطة الفلسطينية وحركة فتح بعد خروج رئيس السلطة والحركة محمود عباس من المشهد السياسي، والذي يتوقعه الكثيرون في وقت قريب أو مفاجئ، ربطاً بحالته الصحيّة غير المستقرة وتقدّمه في العمر (88 سنة).

وعلى الرغم من اتخاذ قيادة السلطة والحركة الاحتياطات لمثل هذا الاحتمال، من خلال تغييرات وإجراءات (غير معلنة) ترتبط بخلافة أبي مازن وتضمن انتقالاً سلساً إلى حدٍ ما، فإنَّ عوامل واعتبارات عدة فلسطينية وخارجية قد تحول دون انتقال كهذا، ربما يتحوّل إلى مشكلة كبرى للشعب الفلسطيني في الضفة وغزة، كما يسعى الكيان الإسرائيلي، من خلال أساليبه التقليدية أو المستحدثة، حتى يأمن "شرّ" المقاومة المتصاعدة ضده في الضفة وغزة... وصولاً إلى الخطر الأكبر المتمثل بتنامي محور المقاومة في المنطقة عموماً.

وبناءً عليه، إن فصائل المقاومة ربما تكون أمام خطر داهم أو تحدٍ خطر ينبغي أن تحوّله، بدعم من محور المقاومة، إلى فرصة تاريخية، من أجل توحيد الصفوف وتفعيل خيار المقاومة في آن، ولإفشال الأهداف أو الأماني الإسرائيلية في تحويل مسألة خلافة أبي مازن إلى فخ للشعب الفلسطيني.

خلال السنوات الأخيرة وحتى الأمس القريب، نُشرت تقارير كثيرة حول السيناريوهات المتوقعة لما بعد أبي مازن من وجهات نظر فلسطينية وإسرائيلية وأميركية على وجه الخصوص، وتراوحت بين انتقال سهل لأحد أبرز المرشّحين لرئاسة السلطة، أي حسين الشيخ أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير والقيادي البارز في حركة فتح (و"ثقة" محمود عباس)، أو ماجد فرج رئيس جهاز المخابرات  الفلسطينية العامة، أو جبريل الرجوب أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح والقيادي البارز في السلطة، أو ثلاثتهم معاً ضمن تقاسم وظيفي مسبق للأدوار في ما بينهم، وسيناريو تسلّم رئيس المجلس الوطني روحي فتوح المسؤولية بشكل مؤقت حتى "انتخاب" رئيس جديد للسلطة، أو حدوث فراغ وفوضى سياسية قد تتحول إلى فوضى أمنية، بما يؤدّي في النتيجة إلى إضعاف الوضع الفلسطيني كلّه، في مقابل تعزيز السياسات الإسرائيلية الاستيطانية والتهويدية على مستوى الضفة الغربية وفلسطين عموماً.

وبعيداً من التوقعات حول هويّة رئيس السلطة المقبل، فإن ما ينبغي التوقف عنده في هذا الإطار هو تغييب رأي الشعب الفلسطيني في هذه المسألة المصيرية.

ومن خلال ما تدّعيه السلطة من أنَّها سلطة منتخبة ديمقراطياً، يمكن الافتراض بأنَّ الدعوة إلى الاحتكام لرأي الناس في فلسطين والشتات في مسألة اختيار خليفة لرئيس السلطة هي دعوة منطقية وموضوعية، ولا ينبغي لأيّ جهة فلسطينية التملّص منها بدواعي الظروف الاستثنائية وغيرها.

لكن على أرض الواقع تبدو الصورة مغايرة، حيث الحسابات الفئوية والحزبية والشخصية، بموازاة التدخلات الإسرائيلية والأميركية والعربية التي لن تسمح باعتماد الخيار الديمقراطي لحلّ هذه القضية، كما تدّعي وتؤكد في كل مناسبة.

لقد زعم القيادي في حركة التحرير الوطني "فتح"، عزّام الأحمد، أنَّ "ملف خلافة عباس غير قابل للنقاش، ولم نناقشه ولا مرّة واحدة"، وأضاف: "اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير هي من سيختار الرئيس المقبل الذي هو أوتوماتيكياً رئيس الدولة الفلسطينية".

لكنَّ الأحمد لم يلحظ أن منظمة التحرير لم تعد تمثّل سوى شرائح معيّنة ومحدودة من الشعب الفلسطيني، وأن لجنتها التنفيذية لا تمثّل كل الفصائل الفلسطينية الفاعلة والوازنة حالياً، وبالتالي فإن انتخابها خليفة لرئيس السلطة لن يكون انتخاباً شرعياً وتمثيلياً، فضلاً عن مغزاه السياسي السلبي، لناحية أنه سيشكّل استمراراً لنهج أبي مازن الذي فشل في الدفاع عن الشعب الفلسطيني وتحصيل حقوقه المشروعة باعتماده مسار التفاوض العقيم والتنسيق الأمني مع العدو، الذي تحوّل بسرعة إلى سلاح فتّاك في وجه الفصائل الفلسطينية المقاومة.

وفي هذا الصدد، ينبغي التوقف ملياً عند ما أشارت إليه صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية، في تقرير لها حول حسين الشيخ، بوصفه "الرجل النبيل في رام الله". ونقلت عن دبلوماسي غربي سبق أن التقاه قوله إن "الشيخ رجل فلسطيني حقيقي، وهو نوع من الفلسطينيين يمكن للإسرائيليين والأميركيين التعامل معه"، مع الإشارة إلى أنَّ الشيخ كان قد التقى مسؤولين أميركيين كباراً في إدارة جو بايدن مطلع تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي.

في المقابل، يقول شركاء الشيخ إنَّ إنجازاته العديدة تشمل الحصول على عشرات الآلاف من التصاريح من السلطات الإسرائيلية لطلبات لمّ شمل الأسر الفلسطينية. تتيح هذه الممارسة للفلسطينيين المقيمين في الخارج لمّ شمل عائلاتهم في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد حصولهم على بطاقات الهوية الفلسطينية.

ويتمتّع الشيخ بشبكة علاقات داخلية واسعة على مستوى أقاليم حركة فتح في الداخل والخارج، ويُجري بشكل دوري لقاءات مع أمناء سر أقاليم حركة فتح داخل فلسطين وخارجها، ما عزّز حضوره القوي داخل الحركة ورفع رصيده التنظيمي.

وفي ظلّ وجود منافسين أقوياء للشيخ داخل "فتح" وخارجها، مثل جبريل الرجوب ومحمود العالول وماجد فرج، فضلاً عن محمد دحلان، مع عدم حسم رئيس السلطة مسألة خلافته، ونظراً إلى هشاشة الأوضاع الفلسطينية السياسية والأمنية والاجتماعية في الضفة وغزة على وجه الخصوص، يبدو أنَّ اعتماد خيار العودة إلى الجماهير التي تقدّم التضحيات الجسام على مدار الساعة، هو الخيار المناسب الذي ينبغي لكل الفصائل الفلسطينية بحثه بجديّة، بهدف انتخاب رئيس للسلطة لديه قاعدة شعبية واسعة وصلاحيات مستمدة من هذه القاعدة، كما من الدستور، وفي إطار سياسي وتنظيمي جديد يكون مُلزماً للجميع.

وما لم تبادر حركة فتح (والسلطة) وحركة حماس وبقية الفصائل إلى حوار شامل ومعمّق بشأن هذه المسألة التي قد تتصدّر الأحداث بشكل مفاجئ، فإنّ الخيارات الأخرى لن تصبّ في مصلحة أي منها، أياً كانت الشخصية التي ستخلف محمود عباس، لأنَّ هذه الشخصية لن تستطيع الخروج من دائرة القيود الإسرائيلية – الأميركية المفروضة على السلطة منذ توقيع اتفاق أوسلو المشؤوم وما تلاه من اتفاقيات بأبعادها السياسية والأمنية والاقتصادية والمالية الخطرة.

إن إجراء انتخابات عامة، رئاسية وتشريعية، حتى في ظل الاحتلال، بات مطلباً مُلحاً من أجل إعادة بناء المؤسسات التي يُفترض أن تمثّل مختلف أطياف الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وفي طليعتها منظمة التحرير والمجلس الوطني، بحيث يتم انتخاب رئيس السلطة بشكل ديمقراطي بالفعل في إطار المنظمة، وبما يؤدّي إلى انتظام عمل المؤسسات والأجهزة التابعة للسلطة في مناطق سيطرتها، وحتى في غزة، التي ستشكّل مكوّناً أساسياً في السلطة الجديدة المفترضة.

أما في حال استمرار كل طرف على موقفه، وربطاً بما يجري في فلسطين والمنطقة من أحداث ومتغيرات، واستناداً إلى موازين القوى التي باتت تميل إلى مصلحة محور المقاومة، فإن الواقع الفلسطيني في مرحلة ما بعد عباس قد لا يشهد تغييرات جوهرية تتناسب مع المعادلات الإقليمية الجديدة، وتصب في مصلحة الشعب وقضيته العادلة، إنما مراوحة قاتلة في مربّع الاحتلال والفساد والأزمات المتلاحقة أو سقوط في أتون فتنة داخلية لن يسلم من شرّها أحد.

وتكفي قراءة عامة للتقارير الإسرائيلية والأميركية حول السيناريوات المتوقعة لما بعد عباس لتلمّس مدى مراهنة حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، وكذلك إدارة بايدن المنحازة إلى الكيان بشكل سافر، مهما تبدّلت سياساته، على الاستثمار السلبي في قضية خلافة رئيس السلطة الحالي وتحويلها من فرصة تاريخية للشعب الفلسطيني لإعادة توحيد صفوفه إلى تهديد وجودي لهذا الشعب بسبب حالة الفوضى والاقتتال الداخلي الذي يسعى الإسرائيليون والأميركيون لتجسيده واقعاً على الأرض بعيد غياب أبي مازن، مع العمل على ضبطه، رغم مزاعمهم المتكررة حول الخوف الشديد من الفوضى المرتقبة في الضفة الغربية على "الأمن القومي" الإسرائيلي، وليس على أمن الشعب الفلسطيني ومصالحه بالطبع.

وتَعتبر "إسرائيل" التعامل مع المرحلة التي تلي غياب عباس مسألة مهمة جداً بالنسبة إليها ومعضلة أيضاً، فهي تنظر إلى مستقبل السلطة الفلسطينية بعده باعتبارها قضية استراتيجية تؤثّر فيها، وليست شأناً فلسطينياً داخلياً فقط.

وطيلة مراحل حكومات نتنياهو المتعاقبة، تسود في "إسرائيل" النظرة إلى عباس بوصفه عبئاً وكنزاً في الوقت نفسه. هذه النظرة تعود إلى أنه استمرَّ في منظومة التنسيق الأمني مع "إسرائيل" رغم كل الأزمات التي مرّت بين الطرفين، لكنه بدأ في الوقت نفسه بمسار تدويل القضية الفلسطينية والانضمام إلى المؤسسات الدولية ومحاولة عقاب "إسرائيل" في هذه المؤسسات.

إنَّ الحكومة الإسرائيلية يهمّها في المقام الأول حالة الأمن في الضفة، سواء بقي الرئيس عباس أو رحل، والرسالة المهمة التي خلص إليها جهاز "شاباك" أخيراً ألا تتحوّل الضفة إلى جهنّم في إطار سيناريو قديم يتجدد في صورة محددة، وهو حدوث حالة فوضى حقيقية تضطر معها "إسرائيل" إلى التدخل وإعادة قواتها إلى مدن الضفة، أو على الأقل المدن الاستراتيجية، مع إعادة تطبيق القانون الإسرائيلي على بعض المناطق الفلسطينية خارج سياق ما يُعرف بمناطق ج، أي عدم الالتزام بنصوص أوسلو التي انتهكت "إسرائيل" كامل عناصرها، في إشارة إلى أنها تتأهب لما هو آتٍ من تطورات.

أما في الجانب الفلسطيني، فإن مسألة اختيار سلمي وسليم لرئيس السلطة مع التحضير الدقيق والهادئ لها، قد لا ترتبط بالضرورة بلزوم حسم مسألة الاختيار بين نهجي المقاومة المسلّحة والمقاومة "السلمية"، لأنَّ كلا النهجين يمتلك قاعدته الشعبية العريضة والمشتبكة مع الاحتلال بطريقة أو بأخرى، ولكن تبيّن أن من شبه المستحيل التوفيق بينهما، كما كشفت لقاءات الفصائل وحركة فتح الأخيرة في مصر، وكذلك تغلّب أحدهما على الآخر.

وهنا تكمن شجاعة قادة الحركات والفصائل الفلسطينية وحكمتها، وفي طليعتها حركتا فتح وحماس، في اجتراح الحلول الإبداعية للمأزق الحالي، بدءاً من انتخاب رئيس للسّلطة على أسس جديدة؛ رئيس يكون منسجماً مع تطلعات الشعب الفلسطيني، ويحفظ مكتسباته التاريخية في السياسة والميدان، وفي طليعتها خيار المقاومة المسلّحة الذي بات مؤيَّداً ومحتَضَناً من أكثرية شعبية معتبرة على امتداد الأراضي الفلسطينية المحرّرة والمحتلة وفي الشتات.