حكومة تحارب "جيشها"
أبت الحكومة الإسرائيلية على تحويل اجتماعاتها إلى كمائن يتم فيها اصطياد قائد "الجيش"، حصل هذا مرات عدة وبشكل متواتر، خاصة بعد قرار "الجيش" تكليف شاؤول موفاز التحقيق في الإخفاقات غداة السابع من أكتوبر.
يحصل في الكيان الإسرائيلي الآن، حكومة تحارب "جيشها" بلا تردد، منذ "السيوف الحديدية" الإسرائيلية التي غاصت في الأجساد الغضة لأطفال غزة ونسائها، إنها حكومة اليمين المتطرف في "إسرائيل"، وهي تعيش عزلتها عن العالم، لم يتبق لديها طرف تحاربه إلا "جيشها" المنهك في رمال غزة، والمتردد قبالة لبنان، هل يحدث هذا بالفعل؟ وكيف يعقل أن يقع؟
يتصدر وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، موجة الهجوم الأخيرة ضد "الجيش"، وهو سياسي رصين، ولكنه فقد رباطة جأشه وهو يصرخ بأعلى صوته، أن هيئة أركان "الجيش" الراهنة جلبت واحدة من أعظم الكوارث في تاريخ البلاد، و"الجيش" يغوص في فشل عملياتي وتكتيكي، وينشغل عن أولوية تحقيق النصر في غزة.
ولا يخفى تأييد نتنياهو الضمني لهذه الحملة التي أطلقها سموتريتش، وتبعه فيها صنوه وزير الأمن الداخلي؛ إيتمار بن غفير، ضد قرار رئيس هيئة أركان "الجيش" الإسرائيلي؛ هرتسي هليفي بترقية 52 عقيداً في "الجيش" الإسرائيلي، بعضهم لمناصب حساسة تتصل بخلفية التعامل مع هجوم السابع من أكتوبر، مثل ضابط مخابرات القيادة الجنوبية في "الجيش"، ورئيس إدارة التنسيق والارتباط، المسؤول عن إدخال المساعدات إلى غزة.
ويزعم سموتريتش أن غالبية قتلى "الجيش" منذ السابع من أكتوبر، تنحدر من الوسط اليميني المؤيّد لخطه السياسي والأيديولوجي، لذا يعدّ عدم ضمّه إلى عضوية مجلس الحرب عاراً أخلاقياً. ومن هذا المنطلق، ونظراً إلى أنه يعدّ نفسه نصف وزير حرب، لما في يديه من حقائب رسمية ضمن سلطة "الجيش" في الضفة الغربية، فقد سارع إلى رفض التعيينات التي أعلن عنها رئيس هيئة أركان "الجيش".
وفي الوقت الذي قرر نتنياهو إحالة قضية تعيينات هليفي إلى الكابينت، فإن الأخير أمضى هذه التعيينات ولم يأبه بالاعتراضات، رغم اعترافه بالمسؤولية عن الفشل في السابع من أكتوبر، مع مطالبته الملحّة، كما وزير "الجيش" يوآف غالنت، بأولوية تجنيد الحريديم المنشغلين منذ إقامة الكيان بالتعليم التوراتي والتكاثر البشري.
اعتراض سموتريتش تجاوز مجرد مطالبة رئيس الحكومة نتنياهو بالتدخل، إلى ما هو تجريد هليفي من صلاحياته الرسمية، باعتباره المسؤول عن هزيمة السابع من أكتوبر، وأن هذه التعيينات تمس عملية تطوير "الجيش" مستقبلاً، وتؤسس لوضع "الجيش" في المستقبل القريب.
تتجاوز حملة الحكومة الإسرائيلية الراهنة، ضد "جيشها"، قضية التعيينات المزمعة، لما هو تحويل كل إخفاقاتها بما فيها السياسية والاستراتيجية والأمنية نحو "الجيش"، الذي أصبح كبش الفداء الإسرائيلي الدائم، خاصة إذا رجعنا إلى بداية الحرب صبيحة نشر نتنياهو تغريدته التي أعلن فيها صراحة؛ تحميل الأجهزة الأمنية من مخابرات الشاباك إلى استخبارات "الجيش" (أمان)، مسؤولية فشل السابع من أكتوبر، قبل أن يضطر إلى حذف هذه التغريدة، والاعتذار لاحقاً.
دأبت الحكومة الإسرائيلية على تحويل اجتماعاتها إلى كمائن يتم فيها اصطياد قائد "الجيش"، حصل هذا مرات عدة وبشكل متواتر، خاصة بعد قرار "الجيش" تكليف شاؤول موفاز التحقيق في الإخفاقات غداة السابع من أكتوبر، عندما أعدّت الحكومة كميناً سياسياً لقائد "الجيش" في اجتماعها، بحسب وصف المعارض ليبرمان، عندما تعرض هليفي للصراخ والشتائم في جو من الفوضى، وهو ما دفعه إلى إلغاء قراره، وقد تبيّن لاحقاً تورط نتنياهو في التحضير لهذا الكمين، خاصة بعد أن ظهر وهو يشكر الوزيرة المكلفة بالملف.
وكان نجل نتنياهو، يائير، وهو الأقرب إلى نبض المطبخ السياسي الحكومي الذي يبدأ من بيت والديه، قد نشر على حسابه في تليغرام منشورات عديدة، ألقى فيها اللوم على "الجيش" الإسرائيلي والشاباك والمحكمة العليا في الإخفاقات التي أدت إلى هجوم السابع من أكتوبر، وتمادى وهو يعبّر عن إعجابه بمنشور اتهم فيه قائد "الجيش" صراحة، بالقول إنه: "في 7 أكتوبر كنا في خضم انقلاب عسكري بقيادة هرتسي هاليفي، الذي لم يبلغ رئيس الوزراء بالهجوم الذي كان على وشك الحدوث صباح يوم سيمحات توراة. الانقلاب لم ينته ولم يكتمل. قائد الجيش ووزير الدفاع يمنعان وزير الأمن الداخلي من دخول قاعدة عسكرية. إنه انقلاب حقاً".
ولا يترك وزراء الحكومة ورئيسها فرصة إلا وتتم الإحالة على "الجيش"، ما جعل رئيس المعارضة يائير لابيد يقول إن حكومة نتنياهو تعمل ضد "الجيش"، وعملها هذا سواء قبيل انطلاق الحرب البرية، أو الآن قبيل الهجوم على رفح، حيث ما زالت حكومة الاحتلال تحيل، بالتصريح أو التلميح، حالة التلكؤ والتسويف نحو الهجوم على خطط "الجيش"، متجاهلة الانسداد السياسي السابق واللاحق للحرب في كل مراحلها المتعثرة، في وقت تعجز هذه الحكومة عن التصدي لسؤال "الجيش" الدائم: ماذا عن اليوم التالي للحرب؟
سؤال اليوم التالي للحرب؛ إذ يتقاسم فيه "جيش" الاحتلال مع المستوى السياسي أحلاماً وردية بالقدرة على تحقيق أهداف الحرب، فإن "الجيش" في اضطراره الميداني إلى الخروج من كل منطقة تشتعل في مواجهة زحف دباباته، فهو إذ ينسحب تعيد المقاومة ترميم بنيتها العسكرية والتنظيمية، والأهم التصدي لتنظيم ورعاية الشأن العام، ما يعني انعدام غاية "الجيش" الهجومية بإسقاط حكم حماس، ودفع السكان إلى تنظيم حياتهم عبر أشكال يرضى عنها الاحتلال، ولعل هذا ما يفسر عملية اغتيال عميد الشرطة فايق المبحوح، وهو المسؤول عن توزيع ما يصل من مساعدات، في الهجوم الواسع المتجدد على مجمع الشفاء.
أزمة حكومة الاحتلال الدائمة مع "جيشها" تعكس في مجملها مستوى الاحتقان الداخلي، وهو احتقان بدأ مع التغلب اليميني على القضاء، وبلغ الذروة أفقياً وعمودياً مع هزيمة أكتوبر، وما تبعها من ضياع استراتيجي يحول دون خروج الكيان برمته من قاع الحفرة، بحسب وصف رئيس الموساد، وهي حفرة تخفي في أعماقها بركاناً هائلاً، تتشكل عبر حممه "إسرائيل" ما بعد "الطوفان".