حرب تموز: النصر والهجمات المرتدة

المراقب للحرب الناعمة ضد حزب الله بعد حرب تموز يلاحظ جهداً إضافياً بذل من أجل "إقناع" اللبنانيين بمسألتين تتعلقان بتحميل حزب الله مسؤولية خسائر الحرب المباشرة والكارثة الاقتصادية التي انفجرت في العام 2019.

  • حرب تموز: النصر والهجمات المرتدة
    حرب تموز: النصر والهجمات المرتدة

إذا استعنا بالاستعارات التشبيهية "الجيولوجية" التي كان يلجأ إليها المؤرخ الشهير هوبزباوم في قراءته وتفسيره للأحداث التاريخية، فإن حرب تموز تصح مقارنتها بـ"الحدود الفاصلة" التي يفترض تحليل أسبابها ونتائجها المباشرة وغير المباشرة، وربط بعضها ببعض على نحو متكامل فتكون الحصيلة صورة نابضة بالحياة لحدث لا يزال حاضراً ومدوياً.

وهذا ما قام به بالفعل عدد من مراكز الدراسات والأبحاث في الغرب، إذ أكثرت من الدراسة والتحليل ووصلت إلى مجموعة خلاصات أبرزها أن حرب تموز حوّلت حزب الله إلى "لاعب إقليمي ذي سمعة بطولية، وإلى الرمز العربي الوحيد للمقاومة العسكرية الناجحة ضد الاحتلال الإسرائيلي "وتحوّل السيد نصر الله إلى "زعيم عربي يوازي جمال عبد الناصر الذي أسهم نصره في علاج صدمة العام 1967".

لأجل ذلك، لم يأخذ أعداء المقاومة استراحة محارب. أيقن هؤلاء أن مخاوف الأميركيين وأدواتهم اللبنانية بهذا الشأن قد أصابت. عكست وثائق ويكيليكس الأجواء التي سادت أثناء الحرب، فقد نقل عن فيلتمان، السفير الأميركي في لبنان أثناء الحرب قوله بعد لقاء وفد من 14 آذار "إنهم يخشون أن تخفق إسرائيل وبدأوا بموضعة أنفسهم لواقع لبناني لم يرغبوا به يوماً، إذ دخل حزب الله بسبب فضيلة النجاة بكل بساطة كلاعب أكثر قوة في بلد منهك".

وبالفعل، فبعد انتهاء العمليات العسكرية في العام 2006 "وقع حزب الله تحت وطأة جهود إعلامية إقليمية منظمة وغير مسبوقة بذلتها الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها"، كما ورد في كتاب "ما بعد القتال حرب القوة الناعمة بين أميركا وحزب الله"، للدكتور حسام مطر.

وانسجاماً مع تعليمات جوزيف ناي بشأن أهمية تأطير القضايا، بحسب ما ورد في كتابه الشهير حول "القوة الناعمة": "اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، تتصارع الدول على قوة تعريف المعايير وتأطير القضايا".

يشير مطر في كتابه إلى مساع بذلها الأميركيون لوضع حزب الله ضمن "ثلاثة تأطيرات أساسية تكاد تكون مماثلة لتلك التي في الخطاب الأميركي" وهي: "إطار المذهبية وإطار وكيل إيران وإطار الميليشيا".

وإذا كانت هذه المحاولات تهدف إلى تشكيل تصورات عربية تجاه حزب الله، فإن المراقب للحرب الناعمة ضد الحزب بعد حرب تموز يلاحظ جهداً إضافياً بذل من أجل "إقناع" اللبنانيين بمسألتين تتعلقان بتحميل حزب الله مسؤولية خسائر الحرب المباشرة والكارثة الاقتصادية التي انفجرت في العام 2019. مع التذكير هنا بنقطتين: الأولى أن "الإقناع" هو واحدة من الوسائل الثلاث التي تعمل من خلالها القوة الناعمة بحسب ناي، الذي يؤكد أن هذه الوسيلة "لا تكون عبر الأدلة بل عبر الدعاية".

الثانية: أن هذه الجهود تلتقي إلى حد التطابق مع الاستراتيجيات التي لجأت إليها "إسرائيل" بعد الحرب. في كتاب "هل يمكن قطع رؤوس الهيدرا؟ معركة إضعاف حزب الله" لداني بركوفتش والصادر في العام 2007 يوجه الكاتب نصيحة لإضعاف ما يسمّيه "قوة التجذر الشعبي للمقاومة" من خلال تبني "إسرائيل" لمجموعة سياسات تؤدي إلى أن "يكره المجتمع مقاومته وينبذها ويحملها مسؤولية تدهور أحواله المعيشية".

من أجل هذا الهدف، تركزت الدعاية بعد حرب تموز على مسألتين وفي مرحلتين متباعدتين:

أولاً: في مرحلة ما بعد الحرب مباشرة، انطلقت جوقة ضمّت وسائل إعلام وسياسيين وناشطين لتسليط الضوء على الضحايا والتدمير والخسائر الاقتصادية، والتركيز على الأثمان التي دفعت والكلفة العالية للحرب في محاولة لإقناع الناس بأن "النصر" لا يمكن الحديث عنه في ظل العدد الكبير من الضحايا والتدمير والخسائر الاقتصادية. وتم التركيز بشكل ممنهج ومكرر على الأثمان التي دفعت.

شاهد اللبنانيون سياسيين يذرفون الدموع ويتباكون على ذكريات الناس وصورهم التي أصبحت تحت ركام البيوت. وبدل تحميل العدو مسؤولية جرائمه انصبت الجهود على تحميل المقاومة وزر ما ارتكبته "إسرائيل" من جرائم.

وفي اللحظة التي تتطلب مسؤولية وطنية وتاريخية وقراءة دقيقة للحظة ومعانيها ودلالاتها الكبرى كما اعترف العدو نفسه، انطلقت حملة تثبيط الهمم وضرب معنويات الناس التي أدركت بفطرتها ووعيها وتجربتها أن ما حصل كان نصراً كبيراً تصغر أمامه التضحيات، خاصة أن المقاومة لم تترك الناس، وأطلقت حتى قبل انتهاء الحرب مشروع إعادة الإعمار والإيواء الذي عدّ أيضاً محطة ناصعة إضافية في حرب تموز.

يجهل الذين انخرطوا في هذه الحملة الدعائية التضليلية أو يتجاهلون أن الهزيمة والنصر لا يقاسان بحجم الخسائر إنما بتحقيق الأهداف، وأن فشل العدو في تحقيق الهدفين الأبرز المعلنين حينها أي سحق المقاومة وولادة الشرق الأوسط الجديد لم يتحققا، وبالتالي فإن "المقاومة انتصرت ولم تسحق ولبنان انتصر ولم يهزم" بحسب ما ورد في الخطاب الأخير للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله.

كما أن مشروع الشرق الأوسط سقط في لبنان في هذه الحرب، واستكمل سقوطه في فلسطين والعراق وسوريا وإيران، بحسب السيد نصر الله.

ولبنان في هذه الحالة ليس استثناء. فالتدمير الذي لحق بالمدن والعواصم الأوروبية في الحرب العالمية الثانية والأثمان البشرية والاقتصادية الباهظة التي دفعت لم تمنع أوروبا من إعلان انتصارها في الحرب العالمية الثانية، ولا غيّرت في النتائج الاستراتيجية والمباشرة للحرب.

كما أن الأثمان الباهظة التي دفعها الاتحاد السوفياتي في الحرب نفسها وسقوط 25 مليون روسي والخسائر والدمار لم تكن تتناقض مع حقيقة انتصار الاتحاد السوفياتي. وهو انتصار لا تزال الأجيال تفتخر به وتحتفل به بعد مرور كل هذه العقود.

ثانياً: الجولة الثانية من هذه الحرب أتت في العام 2019 مع أحداث 17 تشرين الأول والانهيار الاقتصادي الكبير الذي شهده لبنان. مرة جديدة تم العمل على وضع حزب الله ضمن إطار جديد هو إطار "المسؤولية عن الأزمة" والأخطر هو دفع الناس في اتجاه إنكار حصول الانتصار بحجة الكارثة الاقتصادية.

مرة جديدة انبرت وسائل إعلام وسياسيون وناشطون وجيوش إلكترونية للتبخيس من قيمة الانتصار. الملاحظ أن هذه السردية تتكثف في الفضاء العام بالتزامن مع ذكرى حرب تموز أو التحرير أو الانتصار على الإرهاب التكفيري. وتركز على دفع الناس إلى عدم إحياء هذه المناسبات وإفراغها من معناها ومن دلالاتها بحجة أن الناس جائعة.

وهذا ما يتناقض مع تجارب العديد من الشعوب، فالأزمة الاقتصادية الكارثية التي ضربت روسيا في تسعينيات القرن الماضي لم تؤثر في الشعور الوطني. كان الروس في عز الأزمة يحيون يوم النصر في أيار من كل عام، فيشارك قدامى المحاربين بكل فخر وتستحضر الأجيال الروسية المناسبة بكل اعتزاز. ولعل هذه الروح هي التي ساعدت وساهمت في تخطي الروس تلك الأزمة التاريخية. 

وهنا، مكمن الخطر فيما يتعرض له اللبنانيون.

فعلى الرغم من إبداء بيئة المقاومة حصانة في مواجهة هذه الحرب الناعمة كما يؤكد كثير من الاستحقاقات وأبرزها الاستحقاق الانتخابي في العام 2022، والذي أظهرت فيه بيئة المقاومة التزاماً كبيراً بمشروعها وتأييداً ترجم في صناديق الاقتراع، فإن جزءاً من اللبنانيين تجاوب مع هذه الدعاية.

يتعاطى هؤلاء مع حرب تموز كما مع كل ما له علاقة بإنجازات المقاومة بنوع من الإنكار والتجاهل وعدم التقدير. فعيد المقاومة والتحرير الذي أعلن عيداً وطنياً بعد 25 أيار 2000 سرعان ما حذف من لائحة العطل الرسمية في إحدى حكومات فؤاد السنيورة. كما يغيب الاهتمام الإعلامي عن هذه المناسبات، ويتم التركيز على سرديات تعزز التصورات والمعاني والتفضيلات المعادية للمقاومة.

كل هذا يساهم في إضعاف المناعة الوطنية وخلخلة مقومات الهوية الوطنية المشتركة، فالمناسبات الوطنية والإنجازات التاريخية تلعب دوراً حاسماً في تكوين صورة واضحة ومتسقة للمجتمع وتشكيل الانتماء الوطني، وهو ما يشكل حاجة ماسة للبنان، وإلا فإن البديل هو مواصلة تقويض ما تبقى من وحدة وطنية وفقدان للهدف المشترك.

يقول هوبزباوم في معرض كلامه عن التحديات التي تواجه العالم في الألفية الثالثة إن "شعوباً فقدت ماضيها ستفقد القدرة على معرفة إلى أين ستقودها الرحلة".