جريمة مرفأ بيروت: المطلوب محقق شجاع
البيطار الذي لم ينجز تحقيقاً يمكن إقناع اللبنانيين بتماسك مضمونه، لا يخجل من نفسه فيتنحى، إفساحاً في المجال أمام غيره للقيام بما عجز عن القيام به.
مع حلّ الجزء الثاني من الأزمة الوزارية باستقالة الوزير جورج قرداحي، عادت النقاشات لتركز على الجزء الأول المتمثل بأداء المحقق العدلي في جريمة مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار.
واللافت في هذا الملف أن "البحث السياسي عن مخارج قانونية" ما زال يركز على حصانة النواب والوزراء وتحديد الجهة المخولة بالتحقيق معهم ومحاكمتهم، كأن شيئاً لم يتغير منذ بضعة أشهر إلى اليوم، فيما الوقائع المتراكمة في الأسابيع القليلة الماضية تؤكد أن المآخذ لم تعد ترتبط بالاستنسابية المفضوحة أو باختراع رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود أعرافاً ونظريات جديدة لحماية أداء المحقق العدلي، لا علاقة لها بالقانون أو العدالة من قريب أو بعيد.
بعد كل ما نشرته قناة "الميادين" من وثائق، وما تبع ذلك من تعليقات لأهالي شهداء فوج الإطفاء، وما نشر من وثائق إضافية في مواقع التواصل الاجتماعي تم التثبت من صحتها، لم تعد القضية قضية استنسابية أو صلاحيات أو حصانات، إنما قضية ملف فارغ: هل يريد اللبنانيون فعلاً تحقيقاً واضحاً وشفافاً في كيفية وصول النيترات إلى بيروت أم لا؟ هل يريدون تحديد الجهات المسؤولة عن إفراغ النيترات رغم المعرفة بخطورتها أم لا؟ هل يريدون تحديد الجهات التي كان لديها الصلاحية والقدرة على إنقاذ مدينتهم أم لا؟ هل يريدون تحديد المسؤول المباشر وغير المباشر عما أوصل الأمور إلى انفجار الرابع من آب/أغسطس أم لا؟
هل يريدون الحقيقة كاملة وواضحة وشفافة أم يريدون المزيد من المهاترات الإعلامية والسياسية التي يديرها القاضي طارق البيطار لإبعاد الأنظار عن الملف الفارغ، نتيجة جبنه وعجزه عن القيام بواجباته في تكوين ملف قضائي متكامل، يشمل تحقيقات مفصلة بكل صغيرة وكبيرة منذ لحظة إقلاع النيترات وحتى انفجارها؟ مع العلم أن رئاسة الجمهورية تواصل التشديد منذ تكليف أول محقق عدلي على وجوب إنجاز التحقيقات بأسرع وقت ممكن. ومع ذلك، إن البيطار الذي لم ينجز تحقيقاً يمكن إقناع اللبنانيين بتماسك مضمونه، لا يخجل من نفسه فيتنحى، إفساحاً في المجال أمام غيره للقيام بما عجز عن القيام به.
وما بات مؤكداً في هذا السياق أن مكاشفة اللبنانيين بحقيقة ما حصل إنما يمثل إدانة فاضحة للفريق السياسي الذي سارع إلى اتهام حزب الله. ولذلك، قرر سهيل عبود وطارق البيطار إخفاء الحقيقة المتمثلة بالتقرير الفني والرواية الكاملة لوصول النيترات وإفراغها وتخزينها في العنبر رقم 12، والاستعاضة عن ذلك كله باستعراضات سياسية وإعلامية. ولا يفترض بالتالي بالنقاش اليوم أن يعود إلى حيث توقف قبل شهرين، وخصوصاً أن عبود وبيطار انتقلا من الفرعنة الكاملة قبل بضعة أسابيع إلى زاوية الزاوية اليوم، نتيجة 4 عوامل:
أولها، فشل الماكينة الإعلامية المناوئة لحزب الله في تقديم رواية مقنعة للرأي العام عن علاقته بنيترات الأمونيوم، مستندة إلى وقائع أو وثائق أو مستندات. وقد تلاقت هذه الماكينة مع عبود والبيطار في منتصف الطريق أو أكثر، عبر أدائهما الاستنسابيّ الكيديّ وتسريباتهما للصحافة وسكوتهما عن حفلة الاستغلال السياسي، لا بل تذكيتهما لنارها بوسائل مختلفة، انسجاماً مع توجهاتهما السياسية التي لم تعد مخفية.
لكنّ القاضيين اللذين كانا يعتقدان أن هذه الماكينة الإعلامية قادرة على منحهما حصانة مطلقة يكتشفان اليوم أن الرأي العام اللبناني بكل تعدديته يحتاج إلى رواية مقنعة ومتماسكة لا يملكان ولو جزءاً بسيطاً منها. ولم يعد بوسع ماكينة الكذب وتلفيق شهود الزور لتضليل الرأي العام أن تقدم لهم ما يخرجهم من ورطتهم مع الملف الفارغ.
ثانيها، تبلور معطيات واضحة عن معرفة منظمة الملاحة العالمية بوجود نيترات الأمونيوم الخطرة على متن السفينة، وكذلك قوات البحرية في اليونيفيل، والأجهزة الأمنية اللبنانية بجميع ارتباطاتها الاستخباراتية، وهيئة القضايا في وزارة العدل حين كان أشرف ريفي الوزير، وقضاة العجلة يتقدمهم القاضي جاد معلوف، ومدعي عام التمييز السابق القاضي سمير حمود.
هؤلاء جميعاً ما كانوا ليسكتوا عن السفينة ونيتراتها لو كان لحزب الله أو سوريا أي علاقة بهما من قريب أو بعيد. أما سكوتهم جميعاً، وبحثهم جميعاً أيضاً عن أعذار لعدم التخلص من النيترات، سواء عبر تسليمها لصاحبها الذي كان يطالب بها بإلحاح، أو بناء على مراسلات الجمارك وجهاز أمن الدولة، فهو ما كان يفترض بالتحقيق أن يبين أسبابه.
لكن تحقيقات "ديتليف ميليس 2" أو ما يوصف بطارق البيطار، لم يقترب من قريب أو بعيد من ذلك كله، لأنه لا يخدم أجندته السياسية، وهو ما أصاب تحقيقاته بمقتل لا يمكن القيامة منه. وأياً كان رأي سهيل عبود و"بيطاره"، فإن أي تحقيق لا يقدم أجوبة جدية على مسؤولية الأفرقاء الخمسة السابق تعدادهم، لن تكتب له أية مصداقية، حتى لو طبّلت له وزمّرت جميع وسائل إعلام العالم.
ثالثها، عجز البيطار عن مواصلة عمله في الأمد المنظور بعد نجاح المدّعى عليهم بإيجاد ثغر قانونية تتيح كفّ يده، ولم يستطع سهيل عبود معالجتها خلافاً للأصول، كما فعل في ثغر كثيرة أخرى، مع العلم أن جزءاً كبيراً من الجسم القضائي كان يراعي عبود بداية، باعتباره رجل قانون. أما وقد تأكّد هؤلاء أن طموحاته سياسية رئاسية، لا علاقة لها بالقانون والعدالة وإحقاق الحقّ، فإنهم بدأوا يجاهرون بملاحظاتهم القانونية على استخفافه المعيب بالقانون والأصول وجنوحه نحو أداء مذهبيّ وسياسي انتقامي وغير مسبوق.
وإذا كانت بعض الجهات الرسمية ما زالت تراعي عبود، فإنها في واقع الأمر تجمع المعطيات وتتأكد منها وتقاطع معلومات كثيرة، استعداداً لمصارحة شاملة مع الرأي العام، ولن يبقى لعبود من بعدها ذرة كرامة يخبر عنها، فهو أساء إلى الثقة الممنوحة له، ونكث بالعهود، وتنكّر لكلّ مبادئ العدالة والاستقلالية والشهادة للحق.
رابعها، انتقال بعض أهالي شهداء المرفأ المؤيدين حتى الساعة لبيطار من التأييد المطلق من دون جدال أو نقاش إلى طرح أسئلة محرجة له ولكل من يقف خلفه، إذ أشار الناطق باسم أهالي شهداء الدفاع المدني، وليم نون، إلى أن "الجيش اللبناني وافق على دخول الشحنة، رغم معرفته بأنها تحمل مواد خطرة وسامة، ثم رفض مكتب العماد قهوجي إتلافها أو سحبها من المرفأ" (وكان بوسعه طلب مساعدة اليونيفيل بهذا الخصوص طبعاً)، مع تشديد نون على وجوب معرفة دور استخبارات الجيش في المرفأ ووظيفتها، إذا لم تكن معنية بأطنان النيترات التي تهدد بيروت، إضافةً إلى وجوب إعلامها فوج الإطفاء أقلّه بوجود هذا الخطر قبل طلب إطفاء الحريق منهم، وهو ما يمثل مضبطة اتهام هائلة من أهالي شهداء المرفأ، المقربين من البيطار، بما يرفض الأخير نفسه التحقيق بجدية فيه، لمسِّه بالمحرّمات.
أما الأسوأ من سكوت البيطار على تلقين الإعلامي مرسيل غانم لأحد شهور الزور على الهواء مباشرة ما يفترض به قوله لتضليل التحقيق والرأي العام، فهو ما بدأت عائلات بعض الموقوفين بتسريبه، لجهة تعامل البيطار بفوقية هائلة مع موظفين تقاعدوا قبل سنوات من الانفجار، وذهبوا إلى التحقيق بدل الهروب أو التهرب، لثقتهم الكبيرة بالعدالة، وإذا به يتعامل بأقل جدية ممكنة مع إفاداتهم، ويسخّف كل ما يحاولون قوله، ويتهكّم عليهم خلال التحقيق كأنه يقدم أحد البرامج الفكاهية.
واللافت أن البيطار الذي يفترض به أن يشكل نموذجاً في احترام القوانين، لحماية مصداقية عمله أولاً، يصرّ على مخالفة إجراءات التبليغ ومطالعات النيابة العامة التمييزية ودعاوى الاستئناف، كأنه يقول إنه أعلى من كل القوانين، وهو ينفذ ما في رأسه، سواء وُجدت نصوص قانونية لذلك أو لا، وهو لا يكتفي بالتقصير الفاضح في تقديم رواية كاملة ومتماسكة عن كيفية وصول النيترات وإفراغها والإصرار على تخزينها كل هذه السنوات، إنما يفتقد كل المهنية المطلوبة منه كمحقق عدليّ، منتهكاً القوانين من جهة، ومبدأ سرية التحقيق من خلال التسريبات المدروسة لأهداف سياسية من جهة أخرى، في ظل تأكيد التسريبات أنه يقرر مسبقاً توقيف فلان وعلان قبل الاستماع إلى شهاداتهم ليبني على الشيء مقتضاه.
والخلاصة أن الشكوى من الاستنسابية يفترض أن تكون من الماضي. إن التحقيق في انفجار مرفأ بيروت يحتاج إلى محقق عدليّ يقوم بعمله، لا بحملات سياسية. التحقيق يحتاج إلى محقق، لا إلى بطل إعلاميّ أو سياسيّ. التحقيق يحتاج إلى عمل تراكمي يقارب بشجاعة جميع المسؤوليات من دون استثناء، لا عمل انفعالي لا يتوقف عند مسؤولية اليونيفيل وبعض المسؤولين الأمنيين عن إدخال النيترات ومسؤولية بعض قضاة العجلة عن إفراغ النيترات وعدم السماح لأصحاب الشحنة بتخليص بضاعتهم. التحقيق يحتاج إلى محقق عدليّ جديّ، لا إلى مرشح إلى رئاسة الجمهورية فوق أنقاض مرفأ بيروت.
"الكراكيز" في الحياة السياسية والإعلامية اللبنانية كثر، ولا يحتاج الشعب اللبناني إلى "كركوز" إضافيّ. لا يحتاج إلى مرشحين إضافيين إلى رئاسة الجمهورية فوق أنقاض أوجاع الناس، كما يفعل رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود اليوم.
التحقيق في جريمة المرفأ، كما غالبية اللبنانيين، يحتاج إلى قاضٍ شجاع يستفيد من الوثائق الكثيرة المتوفرة ليبدأ التحقيق من حيث يجب، من اليونيفيل والأجهزة الأمنية والقضائية وكل من كان لديه الصلاحية والقدرة على فعل شيء، ويواصله من هذا الأساس مع الجميع من دون استثناء.