جبهات الشمال السوري تشتعل والقوى الراعية للفصائل تطلب الهدنة
يتضح من سير العمليات على عموم جبهات الشمال، لجهة كثافتها وتصاعدها يوماً بعد يوم، أن القيادة العسكرية السورية اتخذت قراراً بضرب القدرة العسكرية الرئيسية للفصائل المسلحة في إدلب وأريافها.
بينما كانت صواريخ الجيش العربي السوري ومدفعيته تدكّ مواقع التنظيمات المسلحة على مختلف محاور ريف حلب الغربي، وتحديداً جبهات تقاد وتديل وبخفيس وكفرعمة وكفرتعال والهباطة وبشنكيرة ومواقع في محيط بلدة دارة عزة، كان أكثر من 50 صاروخاً ثقيلاً من طراز "بركان" و"فيل" يتساقط على مواقع تنظيم "هيئة تحرير الشام" الإرهابي ("النصرة" سابقاً) على محور بلدة الفطيرة في منطقة جبل الزاوية في ريف إدلب.
وخلال ذلك، كانت وزارة الدفاع السورية تعلن مقتل 111 مقاتلاً وجرح 80 من أعضاء التنظيمات الإرهابية في إدلب، وذلك رداً على محاولة الخرق الأخيرة التي أقدمت عليها تلك الجماعات على محور بلدة الملاجة يوم 26 آب/أغسطس الفائت.
منذ أكثر من 3 أسابيع، وتحديداً منذ محاولة تنظيم "أنصار التوحيد" الإرهابي تفجير نفق تحت موقع لقوات الجيش العربي السوري في بلدة الملاجة في الريف الجنوبي لمحافظة إدلب المتاخم لريف اللاذقية الشمالي، والذي أدى إلى سقوط شهداء وجرحى بين قوات الجيش، لم تهدأ جبهات أرياف إدلب وحماه وريف حلب الغربي أبداً، بل هي في تصاعد يومي منذ ذلك الحين.
لقد رفدت وزارة الدفاع السورية جبهة ريف اللاذقية بتعزيزات جديدة ونوعية، لتبدأ قوات الجيش على الفور هجوماً بالمدفعية والصواريخ على مواقع التنظيم المذكور ومواقع "هيئة تحرير الشام" و"الحزب الإسلامي التركستاني" في مناطق كنصفرة ودير سنبل جنوبي إدلب، وعلى مواقع في مجدلية والبارة والموزرة، قابله قصف مدفعي مركز من القوات السورية العاملة في ريف حلب على موقع في أطراف قرية كفرنوران في ريف حلب الغربي.
تأتي أهم أسباب ومقدمات التصعيد الميداني الأخير على جبهات الشمال من محاولات أبو محمد الجولاني، زعيم تنظيم "هيئة أحرار الشام" الإرهابي، لتصدير أزمته الداخلية العميقة والخطرة باتجاه الجبهات، وعلى كل المحاور، مع الجيش العربي السوري، ومن محاولات مستميتة منه لتحقيق أي تقدم أو "نصر" يُثبت موقعه وموقفه أو يلهي القيادات المنافسة له أو التي "تتآمر" عليه من الداخل بمعارك تشغلها وتشغل المحازبين والمناصرين عن الصراع الداخلي المحتدم الذي بلغ حدود التصفيات والاعتقالات والتغييب والملاحقات الدائمة في الأسابيع الأخيرة، وخصوصاً بعد اكتشاف الجولاني، عن طريق الاستخبارات التركية وبمساعدتها، وجود اختراقات استخبارية بالجملة للقيادات والعناصر القريبة منه، وتلك المُكلفة بمهام حساسة، سواء داخل مكاتب التنظيم أو على الجبهات.
وأيضاً، في محاولة منه لمتابعة مشروع تصفية الجماعات والفصائل الأخرى الموجودة في المنطقة، والتي لا تأتمر بأمره بشكل تام، وذلك بدفعها نحو الجبهات مع الجيش السوري أو التقدم فوق أنقاضها لفرض نفسه كقوة وحيدة في الساحة الشمالية؛ قوة لا يمكن تجاوزها من الأطراف الدولية المنخرطة في الصراع.
وقد بدت عمليات "هيئة تحرير الشام" والفصائل الموالية لها والمنضوية معها تحت عنوان "قوات الفتح المبين" في الفترة الأخيرة نوعية وغير مسبوقة في الشكل والمضمون في بعض هجوماتها واعتداءاتها، إذ أدخلت أسلوب الاستهداف بالطيران المسير بكثافة، وهاجمت طائراتها المسيرة (تركية الصنع) بلدات وقرى آمنة في الداخل السوري، في أرياف حماة واللاذقية خصوصاً، ومواقع للجيش العربي السوري، وقاعدة "حميميم" الروسية الواقعة في ريف مدينة جبلة الساحلية.
ودشّن التنظيم، بالتعاون مع فصائل "الفتح المبين"، عمليات "انغماسية" وانتحارية جديدة على مواقع الجيش في ريف اللاذقية خصوصاً، ومنها عمليات "جبل النبي يونس" و"الملاجة"، بحيث اعتمدت على مجموعات على مستوى عالٍ من التدريب تتسلل تحت جنح الظلام إلى مواقع الجيش، وتظهر في وسط الموقع بعد أن تستهدف أفراد الحراسة بكواتم الصوت.
وقد حقّقت نجاحاً جزئياً في العملية الأولى "قمة النبي يونس"، إذ تمكنت من إسقاط عدد من الشهداء، قبل أنْ يستعيد الجيش زمام المبادرة ويقضي على جميع أفرادها، واستطاعت تفجير نفق على أطراف معسكر "الملاجة" بهدف السيطرة على التلة الاستراتيجية التي تُشرف على مناطق واسعة من بلدات وقرى ريف إدلب الجنوبي، بالتزامن مع هجوم مكثف شنته تلك المجموعات على مشارف بلدة "كفر نبل" الاستراتيجية في ريف إدلب الجنوبي، واشتبكت فيه مع قوات الجيش العربي السوري في المنطقة، والتي استطاعت أن ترد المهاجمين على أعقابهم، بعدما كبدتهم خسائر فادحة.
ومنذ تلك اللحظة، لم تتوقف عمليات الجيش على طول جبهات أرياف إدلب، بحيث تتعرض مواقع التنظيمات المسلحة في تلك المناطق لقصف متواصل، سواء عن طريق المدفعية والصواريخ الموجهة أو لهجمات من الطيرانين السوري والروسي. وتتحدث المصادر هناك عن تحليق لطيران الاستطلاع السوري والروسي على مدار الساعة، لرصد مواقع المسلحين وأماكن تجمعاتهم قبل الإغارة عليهم بالطيران أو استهدافهم بالقصف المدفعي المركز.
وحول خريطة الاشتباكات والاستهدافات، فقد بدأ التصعيد المضاد باستهداف مدفعية الجيش السوري وطيرانه لعموم مواقع المسلحين في مناطق جبل الزاوية ومحيط مدينة سرمين وبلدة آفس في الريف الشرقي، فيما طال الاستهداف في ريف إدلب الغربي مواقع للفصائل في قرى سفوهن وكفرعويد والبارة والموزرة والفطيرة وطريشا وكنصفرة ومجدليا وكفربينين، كما طالت مدفعية الجيش مواقع على أطراف سهل الغاب في ريف محافظة حماه.
وقد حقق هجوم الجيش إصابات كبيرة في العديد والعتاد بين صفوف المسلحين الذين حاولوا الرد بقصف مواقع الجيش وقرى محاذية على طول الجبهة الممتدة من أطراف مدينة سراقب وصولاً إلى ريف اللاذقية الشمالي.
وكان مصدر عسكري سوري قد ذكر أنَّ المجموعات المسلحة واصلت خلال الأسبوع الثاني من التصعيد الاعتداء بقذائف الهاون والمدفعية وصواريخ "م. د" الموجهة إلى مواقع عسكرية تابعة للجيش، ناهيك بالطائرات المسيرة التي حاولت مراراً الإغارة على قرى ريفي اللاذقية وحماه، والتي جرى إسقاط الغالبية العظمى منها على خطوط التماس في ريف إدلب الجنوبي.
يتضح من سير العمليات على عموم جبهات الشمال، لجهة كثافتها وتصاعدها يوماً بعد يوم، أن القيادة العسكرية السورية اتخذت قراراً بضرب القدرة العسكرية الرئيسية للفصائل المسلحة في إدلب وأريافها.
وقد حققت بالفعل نتائج كبيرة على هذا الصعيد، ويُستدل على ذلك من ردود أفعال القوى والجهات الإقليمية والدولية الراعية والداعمة لهذه الفصائل، فقد عملت أنقرة خلال الأيام الأخيرة بجهدٍ كبير لدى موسكو وطهران لإقرار هدنة بين الدولة السورية والفصائل.
وفي حين تحدثت بعض المصادر في الشمال السوري عن إقرار هذه الهدنة بالفعل قبل يومين من الآن، إلا إن استهداف الجيش لمواقع الفصائل المسلحة لم يتوقف حتى اللحظة، كما لم ترشح أي معلومات سورية بشأن هذا الأمر.
وقد سبق ذلك بيان لما يُسمى "الائتلاف الوطني السوري"، أصدره قبل تعيين رئيسه الجديد هادي البحرة بالاتفاق بين الراعيين التركي والأميركي يوم الثلاثاء الفائت، دان فيه ما سمّاه "التصعيد من قبل النظام وروسيا" على مناطق جبل الزاوية وريف حلب الغربي، متحدثاً عن "الخطر" الذي يُشكله هذا التصعيد على المدنيين، ومستعيداً لغة التخويف من موجات لجوءٍ جديدة، فيما لم يتطرق بيان الائتلاف إلى الاعتداءات المكثفة التي شرعت بها الفصائل الإرهابية المسلحة، والتي أدت إلى هذا التصعيد ضدها.
من جهة أخرى ترتبط مباشرةً بهذا الملف، فقد عاد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى الحديث عن "التطبيع" بين تركيا وسوريا، وعن ضرورة استجابة دمشق وقبولها الجلوس إلى الطاولة من دون شروط مسبقة، ملقياً اللوم عليها في عدم تحقيق تقدم على هذا الصعيد، من دون أنْ يتطرق إلى موقف بلاده من المطالب الوطنية السورية ومدى استعدادها لتنفيذها.
ومن المؤكد أن الوضع المستجد على جبهات إدلب دفع الرئيس التركي إلى إعادة إثارة هذا الموضوع أكثر من مرة خلال الأسبوع الأخير.
وختاماً، إن محاولات الجولاني الهرب نحو الأمام والدفع بالفصائل والمقاتلين نحو الجبهات لن تتوقف قريباً، فالوضع الداخلي لـ"إمارة الجولاني" في أصعب حالاته منذ سنوات، وخصوصاً مع تزايد الاعتقالات التي يقوم بها فريقه الأمني المقرب بين صفوف القيادات والعناصر والناشطين، وخصوصاً أيضاً بعد الحديث مؤخراً عن اكتشافه محاولة انقلابٍ عليه من الداخل أدت إلى اعتقال أكثر من 50 شخصاً من قيادات التنظيم وأفراده، واعتقال متمولين ورجال أعمال يديرون شبكة الجولاني التجارية القائمة على عائدات معابر التهريب على جبهات الشرق مع "قسد"، وعلى الإتاوات وعوائد المحاصيل الزراعية التي سيطر عليها الجولاني.
وتتحدث الأخبار الواردة من إدلب عن حالة شك وخوف يعيشها الرجل في الفترة الأخيرة دفعته نحو زيادة الاحتياطات الأمنية حوله، والشك في جميع القيادات الأمنية والعسكرية التابعة له. يحدث هذا وسط حالة فلتان أمني تشهدها المناطق التي يسيطر عليها، وحالة سخط شعبي من الحرمان الذي أفرزته سيطرة الجولاني وجماعته على جميع موارد الحياة في تلك المناطق.