تشبُّث نتنياهو بالبقاء في "فيلادلفيا".. هل يقود العلاقات مع القاهرة نحو الاضطراب؟
على الرغم مما تم رصده من اضطرابات في العلاقات ما بين الإدارة المصرية وحكومة الاحتلال، فإنّ الجانبين، كما يبدو، حريصان على كبح جماح تلك الحالة وعدم ترك المجال لكي تصل الأمور إلى عتبة فسخ العلاقات.
على مدار الأسبوع الماضي، قفزت العلاقات بين القاهرة و"تل أبيب" خطوة جديدة إلى الوراء، وذلك على أثر تصريحات رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو حول استمرار بقاء القوات الإسرائيلية في محور فيلادلفيا الملاصق للحدود المصرية، مع الإشارة إلى أن تلك المنطقة لم تكن آمنة بالقدر الكافي، ما سمح للأسلحة التي تستخدمها فصائل المقاومة بالعبور من شبه جزيرة سيناء إلى قطاع غزة.
هذا التعنّت من جانب نتنياهو، الذي يقود حكومة تمثّل النسخة الأكثر صلافة من اليمين الإسرائيلي، أثار غضب الدولة المصرية التي تطرح نفسها باعتبارها الطرف الأكثر حرصاً على استقرار المنطقة وسلامتها، وهي تسعى من خلال ذلك لاكتساب مكانة لدى الأطراف الدولية الفاعِلة، أو بصيغة أدق لدى العواصم الغربية، وبالتالي فقد ساءَها تحديداً حديث "إسرائيل" حول حصول حركة حماس على السلاح من مصر أو عبرها.
بيان الخارجية المصرية ذاته أشار، بصيغة دبلوماسية غير مباشرة، إلى أن الزجّ باسم مصر في خطاب رئيس الحكومة الإسرائيلية كان محاولة منه للإفلات من الضغوط الداخلية الناجمة عن عجزه عن الوصول إلى هدفه المتمثل في استرداد الرهائن والمحتجزين، وبالتالي سعى "لتشتيت انتباه الرأي العام الإسرائيلي"، كما أكدت القاهرة أن ما يجري من قبل نتنياهو كفيل بعرقلة جهود الوساطة، وأن "تل أبيب" تتحمّل عواقب تأزيم الموقف، وتستهدف تبرير السياسات العدوانية والتحريضية.
الأمر الذي ساعد الدولة المصرية على اتخاذ ذلك الموقف هو الدعم الذي تلقته من عدد من الأطراف العربية والإقليمية، مثل الأردن وقطر والسعودية والإمارات وتركيا، إضافة إلى ارتفاع أصوات المعارضين داخل "إسرائيل"، من ضمنهم قائد "الجيش الإسرائيلي" السابق بيني غانتس، الذي أعلن عدم حاجة إسرائيل إلى الاحتفاظ بقوات في منطقة الحدود الجنوبية لقطاع غزة، وأن إصرار نتنياهو على البقاء في "محور فيلادلفيا"، ومنعه التوصل إلى صفقة سياسية، سيؤدي إلى مقتل المزيد من الأسرى، وأن هناك خطة لإغلاق أنفاق "حماس" تحت الأرض بحاجز؛ لكنها تعطلت بفعل رئيس الحكومة.
وجود رفض لسياسة نتنياهو في ما يتعلق بمحور فيلادلفيا تكامل مع مشهد المتظاهرين الإسرائيليين الذين احتشدوا بأعداد كبيرة يوم الأحد الفائت، استجابةً لدعوة عائلات الأسرى واتحاد نقابات العمال الإسرائيلي، على خلفية مقتل 6 من الرهائن في غزة واستلام جثثهم، مطالبين بالتوصل إلى اتفاق عاجل لاسترداد 101 رهينة ما زالوا محتجزين لدى المقاومة من دون أن يعني ذلك امتلاك معارضي الحكومة الإسرائيلية أجندة سلمية؛ فعلى العكس، طالب أكثريتهم بتوجيه ضربات أعنف ضد حزب الله، مع المزايدة على الإدارة الإسرائيلية بسبب تراجع مساحة التصعيد ضد إيران.
زيارة رئيس أركان الجيش المصري لتفقد الحدود مع غزة.. هل تعني شيئاً؟
خلال يوم الخميس الماضي، ومع اقتراب أسبوع التوتّرات المصرية/الإسرائيلية من نهايته، قام رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية الفريق أحمد خليفة بزيارة مفاجئة لتفقد الأوضاع الأمنية وإجراءات التأمين على الحدود مع قطاع غزة، وكشف عن هذه الزيارة المتحدث باسم القوات المسلحة المصرية العقيد أركان حرب غريب عبد الحافظ.
زيارة الرجل الثاني في القوات المسلحة المصرية لتلك المنطقة في هذا الظرف بالغ الحساسية لا بد من أن تتضمن العديد من الرسائل للداخل والخارج. المناصرون لسياسات الدولة في مصر رأوا أن الهدف منها إثبات جاهزيّة الجيش المصري للدفاع عن حدود البلاد وحماية أمنها القومي وحدودها الجغرافية، وأن ثمة خطوطاً حمراً لا يمكن السماح بتخطّيها، وأن الاستفزازات الإسرائيلية يمكن أن يقابلها تصعيد مصري في حال استدعت الأمور ذلك، إضافة إلى هدف آخر يتمثّل في رفع الروح المعنوية للضباط والجنود الموجودين هناك.
لكن على الجانب الآخر، اعتبر خبراء وسياسيون أن الزيارة هدفها بالأساس الردّ على الادعاءات الإسرائيلية المتعلّقة بتهريب الأسلحة من شمال شرق مصر إلى داخل غزة، وإثبات قدرة الجيش على تأمين تلك المنطقة، ونفي أي شبهة تعاون مع المقاومة الفلسطينية أو تسهيلات تجري لمصلحتها عمداً أو نتيجة التقصير، وبالتالي تركزت توصيات رئيس الأركان المصري على قضية "الحرب على الإرهاب وتجفيف منابعه"، وعلى مسألة "عدم الانصياع للشائعات والأحاديث التي تهدف إلى النيل من الدولة".
منذ نحو 3 أعوام تقريباً، في تشرين الثاني/نوفمبر 2021، أنجزت القاهرة تعديلات في البنود الأمنية لاتفاقية "السلام" التي كان أنور السادات قد أبرمها مع حكومة الاحتلال، واستهدفت زيادة عدد قوات حرس الحدود وإمكاناتها بالمنطقة الحدودية في رفح، وقد تم التوصل إلى تلك التعديلات بناءً على اجتماع مع الجانب الإسرائيلي. وكانت القوات المصرية قد ارتفعت أعدادها ومساحة وجودها بالفعل على مدار سنوات في سياق الحرب التي شنّتها الدولة المصرية على التنظيمات المتطرفة المرتكزة في الشق الشمالي من شبه جزيرة سيناء.
اليوم، تحرص القاهرة على ذلك المكسب المتمثل في تعديل اتفاقية "كامب ديفيد"، وربما تشعر بالقلق بسبب تصريحات نتنياهو المتكررة حول وجود أنفاق ومسارات لتهريب السلاح إلى غزة، وانعكاس تلك الملابسات الإدارة الأميركية التي تحرص الدولة المصرية على العلاقات الجيدة معها، في سياق قريب لا يغيب عن بال الإدارة المصرية المخططات الإسرائيلية التي استهدفت تهجير مئات الآلاف من أهالي غزة إلى سيناء مع بداية العدوان العسكري الذي أعقب عملية "طوفان الأقصى" منذ نحو 11 شهراً.
محور فيلادلفيا: أهميته وإشكالية "كامب ديفيد"
الممر المعروف أيضاً باسم محور صلاح الدين أو محور فيلادلفيا، كما تطلق عليه حكومة الاحتلال، هو شريط حدودي داخل قطاع غزة ملاصق للحدود المصرية، ويمتد لمسافة 14 كم، من معبر كرم أبو سالم حتى شاطئ البحر الأبيض المتوسط. وبموجب شروط معاهدة كامب ديفيد للسلام عام 1979، فإنه يكون مسموحاً أن تنشر "إسرائيل" قوة محدودة في هذه المنطقة الحدودية.
لكن عام 2005، مع انسحاب "جيش" الاحتلال من قطاع غزة تم توقيع بروتوكول مع مصر أُطلق عليه "بروتوكول فيلادلفيا"، وفيه يتم السماح لمصر بنشر 750 جندياً لمكافحة الإرهاب والتسلل عبر الحدود، ولا يكون لـ"إسرائيل" إمكانية الوجود داخل قطاع غزة. الإشكال هنا أن بنيامين نتنياهو عازم على التصعيد، ولا يأنف بالبروتوكولات التي تم توقيعها، وهو يرى خطأ قرار رئيس الوزراء الأسبق أرئيل شارون بإخلاء محور فيلادلفيا عند الانسحاب من قطاع غزة.
خلال الأشهر الأربعة الماضية، قامت القوات الإسرائيلية بتدمير مئات المباني القريبة من محور فيلادلفيا في عمليات هدم وغارات جوية، وكذلك باستخدام الجرافات، كما تم إزالة كاملة للقرية السويدية التي تقع قرب الحدود المصرية على ساحل البحر المتوسط، وتشير الصور الأخيرة إلى أن جيش الاحتلال بات يستخدم تلك المنطقة كقاعدة عسكرية، كما يقوم حالياً برصف طريق على طول المحور.
وتكمن أهمية السيطرة على محور فيلادلفيا بالنسبة إلى اليمين الإسرائيلي في أنها تضمن إحكام الحصار على قطاع غزة، وضمان سدّ جميع المنافذ أمام المقاومة الفلسطينية، كذلك ثمّة انتصار معنوي سيشعر به الإسرائيليون في حال نجحوا بإعادة احتلال قطاع غزة بعدما كانوا قد انسحبوا منه منذ نحو عقدين بفضل عمليات المقاومة، لكن على الصعيد الآخر هناك من يرى داخل "إسرائيل" أولوية التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، ومنهم وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت، وعدد من قادة "جيش" الاحتلال الآخرين الذين يؤكدون أن الجنود الإسرائيليين سيكونون بمنزلة صيد سهل للمقاومة في تلك المنطقة.
ما فرص حدوث صدام عنيف بين القاهرة و"تل أبيب"؟
على الرغم مما تم رصده من اضطرابات أو توترات في العلاقات ما بين الإدارة المصرية وحكومة الاحتلال، فإنّ الجانبين، كما يبدو، حريصان على كبح جماح تلك الحالة وعدم ترك المجال لكي تصل الأمور إلى عتبة فسخ العلاقات، بالشكل الذي يُفضي إلى أن تخسر "إسرائيل" الدولة العربية الأولى التي انخرطت معها في اتفاقيات لإقامة علاقات سياسية واقتصادية وأمنية.
في السياق ذاته، فإن القاهرة تشعر بأنها مثقلة بالكثير من الأعباء الاقتصادية والسياسية الداخلية، في ظل تراجع القيمة الشرائية للعملة المحلية، والارتفاع المطّرد في أسعار السلع والخدمات، وشعور المواطنين بالضيق، هذا كله يدفع الحكومة المصرية للتركيز على الشأن الداخلي وتجنب خوض صراعات "خارجية"، وخصوصاً أن ثمة تنامياً في معدلات الديون بشكل يرهق ميزانية الحكومة أكثر فأكثر كل عام.
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بلورت القاهرة سياستها في 3 مُحدداتٍ:
الأول، العمل على وقف المجازر التي يتم ارتكابها بحق أبناء القطاع، والسعي إلى عودة الهدوء إلى الشارع الغزّي.
الثاني، ضمان عدم توسيع مساحة القتال بالشكل الذي يُفضي إلى اشتعال منطقة الشرق الأوسط ككل، ما يؤدي إلى تصاعد التحديات الاقتصادية.
الثالث، رفض فكرة تهجير الفلسطينيين كلياً، لما في ذلك من أضرار تتعلق بالأمن القومي المصري داخل سيناء.
هذه الرؤية المصرية التي تبدو "بسيطة" و"عقلانية" و"متزنة"، وأحياناً متعارضة مع سياسات "تل أبيب"، تبدو في الوقت ذاته غير عابئة بقضية المقاومة أو غير معنية بها أو بتوفير كل ما يلزم لاستمرارها، بل إن فصائل غزة المسلحة ستكون وفقاً لهذا الترتيب جزءاً من التيار الذي يلجأ إلى "التصعيد العنيف" الذي سترفضه وتحاصره القاهرة الباحثة عن "تحقيق السلام"!
وهذا تحديداً ما تعيه حكومة الاحتلال جيداً، وهو وحده كافٍ لمنع تصاعد الصدام بين مصر و"إسرائيل"، من دون أن يعني ذلك التهوين من الأزمة القائمة.