تركيا تعزّز العلاقات مع الإمارات وعينها على السعودية
الدافع الأساسي وراء التحوّل التركي نحو أبو ظبي والرياض هو الحاجة إلى تعويم الاقتصاد التركي، في ظل التنافس بين السعودية والإمارات، حيث تدرك الإمارات تفوّق الاقتصاد السعودي على اقتصادها من حيث الحجم، وهي ليست بصدد التنافس مع السعودية على حجم الاقتصاد.
تتمحور أولوية الرئيس التركي على إنقاذ الاقتصاد التركي المتدهور، بعد أن انخفضت قيمة الليرة بنسبة 18.5 في المئة، وتجاوز الدولار 26 ليرة واليورو 28 ليرة. المشكلة الرئيسية اليوم في تركيا بالطبع هي الاقتصاد وتكاليف المعيشة التي ستؤثّر حتماً في الانتخابات المحلية 2024. ووفقاً لغرفة تجارة إسطنبول يبلغ التضخم السنوي 108 في المئة، يسعى الفريق الاقتصادي الجديد لإردوغان ليعمل على تخفيض التضخم الذي تعيشه البلاد والتوجّه الى دول الخليج بعد أن أصبحت آفاق تحسين العلاقات مع الغرب قاتمة.
سيذهب الرئيس رجب طيب إردوغان إلى الإمارات العربية المتحدة لإدارة الوضع، وتوقيع اتفاقات على استثمارات بأكثر من 25 مليار دولار. تميّز اليوم لغة الاقتصاد والاستثمارات العلاقة بين أنقرة وأبو ظبي، زار جودت يلماز نائب الرئيس قبل أسبوعين الإمارات، أما وزير الخزانة محمد شيمشك الذي لم يستطع توفير قروض من الغرب، فهو يتولى التنسيق من خلال وزارته، وقطع شوطاً طويلاً في العمل الفني الخاص بالاتفاقيات مع دولة الإمارات العربية حيث تعمل الوفود التركية والإماراتية معاً، بانتظار مجيء الرئيس مع وفد من أنقرة.
كان محمد بن زايد، أول الزعماء العرب الذين وصلوا إلى تركيا بعد فوز إردوغان، الذي يسعى من خلال زيارته إلى التوقيع على عدة اتفاقيات، وخاصة في مجال الطاقة والصناعات الدفاعية والاستثمارات طويلة الأجل، ومنها تمويل الطاقة المتجددة والنقل (الموانئ والمطارات والبنية التحتية)، وأعمال إعادة الإعمار في المناطق التي ضربها الزلزال.
يطغى الاقتصاد على المشهد على نحو كبير، قياساً بالمسار السياسي السابق، يعوّل إردوغان على أبو ظبي ودول الخليج لجلب الاستثمارات، والحصول على دعم مالي بعد أن أصبحت الإمارات مقرضاً رئيسياً للبنوك التركية، ترى الإمارات أنّ العلاقات المتينة في هذا المسار ستؤدي إلى علاقة سياسية جيدة، وهي تستند على تحقيق الاستقرار الاقتصادي، الذي سيؤدي إلى استقرار وتفاهمات سياسية مهمة.
فتركيا مهمة من الناحية الجيوسياسية، كذلك دورها النشط في سياسات الشرق الأوسط وأفريقيا، فالإماراتيون يسعون عبر الاقتصاد إلى تعميق الشراكة الجيوسياسية الجديدة مع أنقرة في المنطقة، الأمر الذي يقوّي موقعها الإقليمي.
وتعتبر العلاقة التركية الإماراتية جزءاً من عملية خفض تصعيد إقليمي، يفرضها الواقع الجديد في المنطقة في ظل التحوّلات من أجل تشكيل النظام الإقليمي، وفي ظل الرؤية السياسية التي ترى أن الولايات المتحدة لم تعد لاعباً أساسياً، ولا سيما في مجال الأمن.
المتغيّرات الإقليمية وموقع تركيا في التنافس الإماراتي السعودي
الدافع الأساسي إذاً وراء التحوّل التركي نحو أبو ظبي والرياض هو الحاجة إلى تعويم الاقتصاد التركي، في ظل التنافس بين البلدين أي السعودية والإمارات، حيث تدرك الإمارات تفوّق الاقتصاد السعودي على اقتصادها من حيث الحجم، وهي ليست بصدد التنافس مع السعودية على حجم الاقتصاد، إلا أنها تحرص على البقاء كمركز لإدارة الأعمال في المنطقة.
وفيما تتصاعد أجواء التنافس الاقتصادي السعودي الإماراتي، تقترب السعودية من عمان لفتح الباب لتحوّل جيوسياسي أوسع من مجرد التعاون الاقتصادي. وبينما تنظر الإمارات بقلق لهذه الديناميكية السعودية العُمانية، ترى أن التنافس الاقتصادي ليس معزولاً عن الهيمنة الجيوسياسية في الخليج. حيث يشمل أبعاداً أوسع من الاقتصاد، مع الحفاظ على علاقات التعاون القائمة، فهما لا تزالان في إطار تعاون استراتيجي على المستويين الإقليمي والدولي.
كانت الحاجة بالنسبة للإماراتيين والسعوديين، تدور حول كسب بلد مثل تركيا في منافستهم مع إيران، وهذا الأمر شكّل حافزاً إضافياً لإعادة تطبيع العلاقات مع أنقرة. لكن مع انحسار التوترات الخليجية الإيرانية، يطرح السؤال حول ما قد يتغيّر في مجالات المنافسة التي تهم أنقرة. فبالنسبة لإردوغان، من المهم جداً ألا تنقطع الاستثمارات الإماراتية والسعودية، في وقت يتزايد فيه الاضطراب الاقتصادي المحلي.
أما بالنسبة للمملكة العربية السعودية، فيمكن أن توفّر المصالحة مع إيران بيئة أكثر أماناً للمملكة لمتابعة أجندة التنمية الخاصة برؤية 2030. من ناحية أخرى، فإن المنافسة الاقتصادية السعودية المتزايدة مع الإمارات قد تتيح لتركيا فرصاً جديدة في علاقاتها التجارية. يمكن لانخفاض التوترات العربية الإيرانية بعد الانفتاح الإيراني السعودي أن يؤدي إلى ظهور خطط ربط الخليج بتركيا عبر إيران. وسيكون في مصلحة تركيا وإيران إقامة علاقات سعودية مميزة مع كل منهما. الجانب الإيراني، يرى في الاتفاق سبيلاً أمثل لتقليص نفوذ الولايات المتحدة واحتواء تدخّلات "إسرائيل"، وتخفيف التوترات مع جيرانها العرب بما فيهم السعودية.
لكنّ الاقتصاد أيضاً في قلب التفكير الإيراني، فالصعوبات الاقتصادية تزيد من حوافز الإيرانيين للتقارب مع السعودية. ويمكن للتعاون بين الرياض وطهران أن يسيطر على أسعار النفط، حيث يُشكّلان معاً 35.5% من احتياطيات أوبك النفطية، لذا يُعَدُّ استقرار الأسعار أمراً حيوياً لاقتصادَيْ البلدين.
كانت تركيا والسعودية حليفتين في سوريا وعملتا معاً على تشكيل "جيش الفتح" عام 2015 وانتزاع السيطرة على منطقة إدلب الشمالية من الحكومة السورية. وبعد خلاف وقطيعة دامت سنوات اجتمع الطرفان بعد مصالحة قادها إردوغان عام 2022.
قد ينعكس التقارب الإيراني السعودي أيضاً على المعادلة السورية. فالعلاقات القريبة بين السعودية وروسيا ومع الإمارات سهّلت عودة سوريا إلى الحاضنة العربية... لكن في إطار المنافسة التركية الإيرانية قد تحاول تركيا تأدية دور مع السعودية للحد من النفوذ الإيراني، إلا أنّ الاتصالات السعودية المتزايدة مع الروس توفّر فرصة لاستعادة التوازن من دون الحاجة إلى الصراعات. وفي إطار التطبيع العربي السوري، تؤدي كلّ من السعودية والإمارات أدواراً في دفع سوريا للتطبيع مع تركيا بعد أن حاولت إيران وروسيا الدفع بهذا الاتجاه.
تستعمل أنقرة الورقة الجيوسياسية والاقتصادية في العلاقة مع السعودية والإمارات في ظل التنافس المعلن بين الطرفين. ولن تفضّل دولة على أخرى في سعيها لإنقاذ الاقتصاد التركي، حتى لو كان الثمن تقاسم النفوذ من ليبيا إلى أفريقيا وحصد المكتسبات. أما الإمارات فهي تراهن على تركيا كدولة من شأنها أن تفتح الباب لأسواق جديدة من خلال الخدمات اللوجستية وسلاسل الإمداد، وهي تريد الاستفادة من الاستثمارات التركية الضخمة وبالأخص مع أفريقيا.