تداعيات الابتسامات العربية في سوريا: حملات غضبٍ واحتفاء بالحشود الأميركية

 لقد جرى تضييق خناق الحصار بشكل أكبر، وتعرَّضت البضائع السورية للتلف على الحدود العربية تحت ذرائع واهية وغير مقبولة إنسانياً.

  • تداعيات الابتسامات العربية في سوريا: حملات غضبٍ واحتفاء بالحشود الأميركية
    تداعيات الابتسامات العربية في سوريا: حملات غضبٍ واحتفاء بالحشود الأميركية

بينما كان السوريون يشيعون شهداءهم العسكريين الذين سقطوا في نقطة قمة النبي يونس الواقعة في ريف محافظة اللاذقية، إثر تسلل مجموعة تكفيرية تابعة لـ"حركة أحرار الشام" الإرهابية التي يرعاها ويدعمها نظام الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، كانت صواريخ كيان الاحتلال الإسرائيلي تتساقط على مواقع في ريف العاصمة السورية دمشق، مخلفةً شهداء آخرين من قوات الجيش العربي السوري والمواطنين المدنيين.

 ورغم أنَّ الحادثتين تُشكلان اعتداءً صارخاً على الدولة السورية ومواطنيها وأرضها ومؤسساتها، فإنَّنا لم نسمع كلمة إدانة واحدة من "الجامعة العربية" أو من أي مسؤول عربي كبيرٍ أو صغير، بل على العكس من ذلك، فقد تزامن الاعتداءان مع حملة إعلامية عربية في مواقع التواصل الاجتماعي بشكل خاص بدت مُنظمة وممنهجة.

كانت الحملة تتحدث عن "غضبٍ" عربي عارم على دمشق، وعن "فرملةٍ" لكل الخطط العربية، الخليجية منها على وجه خاص، التي كانت ترمي إلى "إنقاذ سوريا" ومساعدة "الشعب السوري الشقيق"، كما أوردت الخطابات العربية قبل ما يقارب 3 أشهر، وعن توقفٍ للعمل في السفارة السعودية في دمشق، التي قيل منذ ذلك الحين إنَّ ورشة إعادة تأهيلها وتجهيزها بدأت بنشاطٍ كبير، وعن مطالب عربية لم تستجب لها دمشق أو تلبيها. لذلك، وجب الغضب وإعادة الحسابات من نقطة الصفر وربط ذلك بالدعوة السعودية لمواطني المملكة بمغادرة لبنان فوراً.

 وتروج هذه الحملة أيضاً خططاً أميركية جديدة وعاجلة تهدف إلى إسقاط الدولة السورية، مع روايات احتفالية عن حشود أميركية وأساطيل تتجه إلى السواحل السورية واللبنانية، وإلى القواعد الأميركية في دول الخليج، واحتفاء العديد من الصفحات العربية في مواقع التواصل الاجتماعي بأخبار وتقارير تتحدث عن وضع الأسطول الخامس الأميركي في حالة التأهب القصوى، وإعلان البنتاغون أن أكثر من 3000 جندي من مشاة البحرية الأميركية "المارينز" عبروا باتجاه الشرق الأوسط، تواكبهم سفينة إنزال وسفينة هجوم برمائية وغواصة هجومية من نوع "يو إس إس فرجينيا".

وقد ترافق ذلك مع دعاية ركيكةٍ تفيد بأنَّ الهدف من هذا كله هو بدء هجوم "كاسح وشامل" سيفضي خلال أيام أو ساعات أو دقائق إلى القضاء على الدولة السورية، ومعها قوى محور المقاومة كلّها دفعةً واحدة، ثم تعيش المنطقة "بسلام وأمان وسعادة" تحت النعلين الأميركي والإسرائيلي.

منذ 7 أيار/مايو الماضي، أي منذ إعلان إعادة مقعد سوريا في الجامعة العربية إلى أصحابه، وما تلا ذلك من خطابات وتصريحات عربية ولقاءات بين مسؤولين سوريين وعرب، وإشاعة حالةٍ من التفاؤل الدعائي حول عزم العرب على إنهاء معاناة السوريين المعيشية والاقتصادية، من خلال ضخّ الأموال والاستثمارات وتفعيل التبادل التجاري البيني وتسهيل حركة التجار السوريين وصادراتهم عبر الحدود، منذ ذلك التاريخ بالذات، شهد المواطن السوري أصعب فترة معيشية يختبرها منذ بدء مشروع تخريب سوريا وتدميرها عام 2011.

 لقد جرى تضييق خناق الحصار بشكل أكبر، وتعرَّضت البضائع السورية للتلف على الحدود العربية تحت ذرائع واهية وغير مقبولة إنسانياً، ومن ذلك على سبيل المثال أن شاحنات سورية تحمل خضاراً وفواكه أوقفت لأيام طويلة على الحدود السعودية، بذريعة عدم مطابقة الشاحنات (وليس الخضار والفواكه) للمواصفات التي تسمح لها بالسير على طرقات المملكة، وذلك على الرغم من معرفة "الأشقاء" -ومشاركتهم الفاعلة- بوجود عقوبات وحصار منع سوريا من استيراد السيارات أو الشاحنات أو حتى قطعة غيار واحدة منذ العام 2011.

كما تدهور سعر الليرة السورية في مقابل العملة الأجنبية بشكل متسارع وغير مسبوق خلال فترة "الانفتاح العربي" هذه، وذلك بفعل التضييق على حركة القطع الأجنبي باتجاه الداخل السوري وتعقيد أي إجراءات تتعلق بالاستيراد أو التصدير بين تلك الدول وسوريا.

وعلى الرغم من كلّ تلك الروايات والتصريحات عن اتفاقيات اقتصادية وعقود استثمار لشركات عربية في مجالات عديدة، أهمها قطاعات الكهرباء والطاقة والصناعة والإسكان، فإنَّ مشروعاً واحداً لم يوضع فيه حجر، كما لم تُنفذ أي من الاتفاقيات أو الوعود الكثيرة التي قال بعض العرب حينذاك إنهم قادرون على السير بها وتفعيلها رغم وجود العقوبات الأميركية.

والآن، يعلن بعض العرب غضبهم، لأن سوريا لم تقم بـ"خطوتها" التي تقابل خطواتهم الكثيرة التي تزيد على 10 صور فوتوغرافية مع المسؤولين السوريين، وما يفوق 5 مقاطع فيديو تتضمن ابتسامات عربية في وجوه السوريين المعذبين.

وباستثناء المساعدات الإغاثية التي أعقبت الزلزال المدمر الذي وقع في 6 شباط/فبراير الماضي، والتي كان لدولة الإمارات العربية المتحدة نصيب الأسد منها بين الدول الخليجية، لم تتقدم أي دولة عربية بخطوة اقتصادية استثمارية أو حتى تجارية عادية واحدة باتجاه سوريا، فيما كان المطلوب من سوريا أنْ تعود إلى ورقة وزير الخارجية الأميركية الأسبق كولن باول، التي قدمها للرئيس بشار الأسد إبان الغزو الغربي الهمجي للعراق الذي ساهمت فيه الحكومات العربية ذاتها بشكل أساسي ومؤثر، وأن تنفذ كل ما فيها.

وتُضاف إلى كل ذلك مطالب جديدة أوجدتها وفرضتها ظروف الحرب الوحشية على سوريا، والتي شاركت فيها تلك الدول عينها من جديدٍ وبجهود "أسطورية" أفضت إلى تدمير البلاد وتهجير وتشريد أهلها وتخريب مكتسباتهم ومؤسساتهم وضرب اقتصادهم، بل ضربهم حتى في لقمة عيشهم، من خلال المشاركة في حصار مميت لم يسلم منه حتى الزرع والشجر الذي مُنعت عنه الأدوية والمبيدات أو تعرّض للسرقة أو الإحراق على يد أدوات الغرب والترك والعرب.

تتحرَّك أساطيل الولايات المتحدة باتجاه الشرق الأوسط بالفعل، وتزداد النشاطات العدوانية الأميركية في الشرق السوري، وتتجدد خطط واشنطن الاحتلالية باتجاه البادية ودير الزور والحسكة والرقة. وفي الأسابيع الأخيرة، واظبت قيادة قوات الاحتلال الأميركي على استدعاء تعزيزات وحشود وأسلحة جديدة، من بينها طائرة "الشبح" التي ظهرت قبل أيام للمرة الأولى في السماء السورية.

كما زادت تلك القوات مناوراتها المشتركة مع أدواتها على الأرض، وخصوصاً أدواتها الجديدة التي شكلتها من العشائر العربية وفلول تنظيم "داعش" والفصائل الأخرى التي هُزمت سابقاً خلال الحرب.

وفي هذا السياق تحديداً، أجرت قوات الاحتلال تدريبات مكثفة خلال الأيام الماضية حول حقول النفط المحتلة، شارك فيها الطيران ومختلف صنوف الأسلحة الثقيلة ومقاتلون من تلك الفصائل العربية مدججون بأحدث الأسلحة ومضادات الدروع، كما أعادت قوات الاحتلال الأميركي انتشارها في عدة نقاط من ريف ريف الزور، أهمها "مخيم الباغوز" الذي كان مركزاً مهماً لتنظيم "داعش" الإرهابي في السابق. 

وتقتضي الخطّة الأميركية الاعتماد على العناصر العربية بشكل أكبر، ودفعها باتجاه مدينتي البوكمال والميادين والقرى التابعة لهما، والتي يتمركز فيها الجيش السوري وقوات المقاومة الرديفة والصديقة، والهدف هو احتلال تلك المنطقة وربطها بقاعدة الاحتلال في التنف، وخلق جَيب كانتوني يمتد من الحدود الأردنية حتى أقصى الشمال الشرقي، تستطيع "إسرائيل" أن تتحرك فيه بحرية، وتضمن المساهمة العملية في قطع طريق محور المقاومة الممتد من طهران إلى بيروت عبر الحدود السورية – العراقية. 

ورغم أنَّ في هذه الخطّة مصلحة للكرد الانفصاليين، فإن أوساط "الإدارة الذاتية" أبدت امتعاضاً وقلقاً واضحَين حيال اعتماد قوات الاحتلال الأميركي على المقاتلين العرب وتهميش الكرد و"قسد" في خططهم الجديدة.

وقد رأى الكرد في هذا غزلاً أميركياً لأنقرة على حسابهم، وخصوصاً أنَّ الأمر بلغ، في نظرهم، مرحلة استقواء الفصائل العربية التابعة للمحتلّ على "قسد"، والدليل ما جرى بين الأخيرة وقوات "مجلس دير الزور العسكري" من اشتباكات عنيفة قبل أقل من أسبوعين لم تنتهِ تداعياتها وآثارها حتى اللحظة.

وكعادتها، لم تستطع واشنطن المواءمة بين أدواتها أو لم تبذل جهوداً تُذكر لأجل ذلك في الحقيقة، ما دفع المسؤولين الكرد في "الإدارة الذاتية" إلى التصريح والتأكيد مراراً أنهم لن يشاركوا في أي عملية عسكرية ضد الجيش السوري وحلفائه، وتلك نقطة في غاية الأهمية عند استشراف نتائج أي معركة مقبلة في الشرق أو حتى عند الحديث عن مستقبل الشرق كله. 

وإلى جانب التأهّب العسكري الكامل للجيش السوري وحلفائه الإيرانيين والروس، واستقدامهم كل التعزيزات المطلوبة على جبهات الشرق والبادية، وإجراء تدريبات ومناورات غاية في الأهمية العسكرية خلال الأسابيع الأخيرة، تسعى موسكو إلى إجراء الحوارات مع الكرد من جديد وتحييدهم عن المعركة المقبلة التي يرى فيها السوريون وحلفاؤهم نقطة مفصلية في الصراع مع المحتل الأميركي في المنطقة برمتها، وليس في الشرق السوري فحسب.

ويبدو أن الظروف والمعطيات الحالية جعلت الكرد أكثر استجابة للحلول السورية – الروسية، وخصوصاً أن قوى محور المقاومة وروسيا يتقدمون باتجاه المعركة، وقد استبعدوا جميع الخيارات أو الاحتمالات، ما خلا النصر وطرد قوات الاحتلال الأميركي واستعادة أرض البلاد وثرواتها، لأن غير ذلك يعني إطباق قبضة المحتل الأميركي وأعوانه على رقبة كل سوري في هذه البلاد وعصرها حتى الموت، وهو احتمال لا يمكن أن يسمح بتحققه عموم قوى محور المقاومة في المنطقة، ناهيك بروسيا التي تعتبرها الولايات المتحدة هدفاً رئيسياً في تلك المعركة، وذلك ضمن الصراع العالمي المرير الذي تقوده واشنطن ضدها على امتداد خريطة العالم.

وعودة إلى "الانفتاح" والوعود العربية التي بدأت بالابتسامات التي سمحت بها واشنطن، وانتهت بالغضب الذي أمرت به واشنطن أيضاً، فإن العراق هو الدولة العربية الوحيدة التي تُعول عليها سوريا في تخفيف حدة الحصار الوحشي الجائر.

وقد كان لاجتماعات رئيس الوزراء العراقي الأخيرة مع الرئيس السوري في دمشق نتائج طيبة بالفعل، وهو ما أغضب الأميركيين ودفعهم إلى تسريع خططهم لاحتلال المنطقة الحدودية في الشرق، وهو بدوره ما دفع دمشق وحلفاءها إلى حشد كلّ قواهم لأجل هذه المعركة، ولم يبقَ أمامنا سوى إعلان ساعة الصفر من إحدى الضفتين المتقابلتين، فإما الاحتلال والموت، وإما النصر.

والجدير ذكره أنّ هذه الأحداث كلها، ومنها أحلام الرقيق العرب، تتزامن مع حدث تاريخي مذهل بامتياز تشهده القارة الأفريقية، عنوانه "الموت أو الحرية"، وجوهره السعي الحقيقي والجدي إلى التحرر من المستعمر الغربي الناهب.

تتسابق العديد من دول القارة السمراء ومواطنيها إلى التعاضد والالتحام تحت هذا الهدف السامي، وتسعى إلى التحالف والتعاون مع قوى عالمية صاعدة تواجه المشاريع الاستعمارية، إلا أن ذلك لم يُعلم أولئك العرب أو يوحي لهم بأي شيء سوى الاستماتة في الركوع والخنوع وإعانة القوى الاستعمارية على خنق شعوب المنطقة وتدمير مكتسباتها ونهب ثرواتها، وكأنّ كل أحدٍ أو شيءٍ على هذا الكوكب قابلٌ للنهوض، باستثناء أولئك الراكعين أبد الدهر.