تجدّد الاشتباكات بين "قسد" والعشائر العربية: الهفل يدعو القبائل إلى النفير العام
يبدو واضحاً من البيانات الإعلامية الأخيرة التي صدرت عن "المركز الإعلامي لقوات سوريا الديمقراطية"، أنّ مفردات المشروع الأميركيّ لمنطقة الشرق السوريّ، قد عادت إلى الظهور والانتشار بين هؤلاء.
عاد الصراع العسكري في منطقة شرقي الفرات في الجزيرة السورية، إلى الواجهة، بعد ثلاثة أسابيع من هدنة فرضتها قوات الاحتلال الأميركيّ في إثر اشتباكات عنيفة بين مقاتليّ ما يُسمّى بـ "قوات سوريا الديمقراطية" قسد، وقوات العشائر العربية، سقط فيها عشرات القتلى من الطرفين، وتمكّن مقاتلو العشائر خلالها من السيطرة على معظم قرى وبلدات الريف الشرقي لدير الزور، قبل أنْ تُعاود قسد شنّ هجوم معاكس كبير، وتتمكّن من السيطرة على أغلب تلك المناطق والبلدات، ثم تتدخّل قيادة "قوات التحالف" المحتلة وتفرض وقف القتال والهدوء في المنطقة.
وفي تسجيلٍ صوتيّ له ليل الاثنين 25 من هذا الشهر أيلول/سبتمبر، أعلن زعيم قبيلة العكيدات، الشيخ إبراهيم الهفل، عن بدء معركة جيش العشائر ضد قوات قسد، وقال إنّ قواته قد بدأت بالفعل خوض معارك طاحنة انطلاقاً من محطّة العُمَر باتّجاه بلدة ذيبان الواقعة في الريف الشرقي لمدينة دير الزور، وهي بلدة لها رمزيّتها الخاصة لدى أبناء القبيلة، باعتبارها المقرّ الرئيسيّ لإقامة الشيخ الهفل قبل أنْ يُضطرّ للخروج منها قبل ساعات من سيطرة قسد عليها ودخولهم مضافته قبل نحو 3 أسابيع.
ودعا الشيخ الهفل العشائر العربية في منطقة الجزيرة السورية وعموم سوريا إلى النفير العام والقتال "لاسترجاع الأرض والكرامة"، و"فرض المكوّن العربيّ" في مناطق العشائر والقبائل العربية في الجزيرة، ومنح إدارة تلك المناطق إلى العرب.
وعلى الفور، شنّت قوات العشائر العربية هجوماً واسعاً على مختلف المحاور في محيط البلدة، وسيطرت على 3 قرى وعدد من النقاط التي تتمركز فيها قوات قسد، وتحديداً على محور حيّ اللطوة ومفرق الحمادي على أطراف البلدة، ومنطقة الزرنة ومحيط جسر الميادين داخل البلدة. كما تمكّنت القوات المهاجمة من السيطرة على حاجز السرب، واغتنمت عدة عربات عسكرية كانت تتمركز عليه، بينما فرّ عدد من المقاتلين التابعين لقسد إلى خارج البلدة.
وحتى ظهر ذلك اليوم، الاثنين، تمكّن مقاتلو العشائر من السيطرة على أجزاء واسعة من ذيبان. وبالتزامن، استهدف هجوم قوات العشائر مواقع قسد في بلدة الطيّانة المجاورة، وكذلك نقاطها العسكرية وحواجزها الأمنيّة في قرية حوايج ذيبان، كما جرى استهداف عربة مدرعة تابعة لقوات قسد في بلدة أبو النيتل الواقعة إلى الشمال من مدينة دير الزور، ونقطة عسكرية تتمركز في محطّة تصفية المياه في بلدة سويدان.
لتعلن قسد عن حظر تجوال في عموم مناطق شرقيّ الفرات، وتستقدم تعزيزات كبيرة تتضمّن تشكيلات مدرّعات ومدفعيّة إلى مناطق الاشتباكات، وقد تمركزت معظم تلك القوات في منطقة المعامل الواقعة شماليّ مدينة دير الزور.
وقبل ذلك مباشرةً، عملت قسد على سحب جميع مقاتليها الذين كانوا يتمركزون في نقاط عديدة داخل بلدة ذيبان وخارجها، إلى نقطتي البريد والمدرسة الثانوية. وفعلت الأمر نفسه في بلدة الطيانة ومحيطها، حيث عمدت إلى تجميع مقاتليها في مدرسة البلدة بعد سحبهم من جميع النقاط والحواجز الواقعة داخل البلدة وفي محيطها.
وفيما أعلن مقاتلو العشائر عن سقوط عدد من القتلى والجرحى بين صفوف قوات قسد أثناء الهجوم، وفرار عدد كبير منهم إلى خارج المنطقة، أكّدت مصادر محليّة وأهلية سقوط شهداء مدنيين من الرجال والنساء بسبب كثافة الاشتباكات واستخدام الأسلحة الثقيلة داخل تلك البلدات والقرى، وخصوصاً في بلدة حوائج ذيبان.
وأشارت المصادر المحلية إلى سقوط 25 قتيلاً بين قوات قسد، و29 بين قوات العشائر، واستشهاد 9 مدنيين من السكان المحليين، ووجود أكثر من 45 جريحاً من مختلف الأطراف. ومن جهة أخرى، تحدثت مصادر قسد عن سقوط 4 قتلى فقط في صفوف قوات سوريا الديمقراطية، و21 قتيلاً بين صفوف قوات العشائر، وسقوط 42 جريحاً بين مقاتل ومدني.
وبعد وصول تعزيزات قسد، شنّت الأخيرة هجوماً واسعاً مضادّاً على جميع نقاط ومحاور تلك البلدات، بينما كان الطيران العسكريّ الأميركيّ يحلّق بكثافة في المنطقة من دون أنْ يتدخّل في المعركة بشكل مباشر، وقد تمكنت قوات قسد من العودة إلى داخل بلدة ذيبان وإحكام السيطرة عليها بعد ساعات من خروجها عن السيطرة، لتنتهي تلك الجولة من المواجهة والقتال المباشر بمختلف أنواع الأسلحة، وتبدأ اشتباكات صغيرة ومتفرقة في عموم المنطقة المجاورة بين قوات قسد ومجموعات قليلة العدد من مقاتلي العشائر، حيث بدأت تلك المجموعات بشنّ هجومات على مختلف النقاط والمواقع شرقيّ الفرات، ومِن ذلك تسلل مجموعات عشائرية مقاتلة من مناطق غربيّ الفرات التي يسيطر عليها الجيش العربي السوريّ، باتّجاه الشرق، والهجوم على نقاط قسد.
وهنا، بدأ الطيران المُسيّر التابع لـقسد باستهداف المقاتلين المهاجمين على خطوط التماس وداخل المنطقة الشرقية المحتلة، وذلك بمساعدة لوجستيّة من قوات الاحتلال الأميركي التي عملت على توفير الإحداثيات اللازمة لهجمات الطيران المسيّر.
والمؤكّد هنا، أنّ قوات الاحتلال الأميركيّ قد شعرت بخطورة الموقف بالنسبة إليها، حيث أنّ الحديث عن تسلل مقاتلين من منطقة غربيّ الفرات باتّجاه المناطق المحتلة، يعني أنّ الصراع بات أبعد ما يكون عن "خلافات" بين الحلفاء أو "الأدوات"، وأنّ الحديث السوري عن مقاومة شعبية ضد قوى الاحتلال والأدوات الغريبة التابعة لها في المنطقة، قد بدأ يتجسّد بشكل أوسع من السابق، لذلك أعطت قيادة قوات الاحتلال الضوء الأخضر لـقسد باستهداف نقاط التماس مع الجيش السوري وحلفائه لأول مرة منذ سنوات، واشتركت معها، ولو لوجستيّاً فقط، في هذه الهجمات.
ويبدو واضحاً من البيانات الإعلامية الأخيرة التي صدرت عن "المركز الإعلامي لقوات سوريا الديمقراطية"، ومن تصريحات قادة قسد والناشطين السياسيين والإعلاميين الموالين لها، أنّ مفردات المشروع الأميركيّ لمنطقة الشرق السوريّ، قد عادت إلى الظهور والانتشار بين هؤلاء، وذلك من خلال الحديث المستجد المتكرر في اليومين الأخيرين، عن "الوجود الإيرانيّ"، وعن "ميليشيات إيرانية"، وعن محاولات "النظام السوري" -بحسب تعبيراتهم-استغلال الخلافات في المنطقة.
وقد ظهر ذلك جليّاً في البيان الإعلاميّ الأول الذي صدر عن المركز الإعلامي لقسد بعد تجدّد الاشتباكات الأخيرة، حيث تحدّث البيان عن "محاصرة مجموعتين من المسلّحين التابعين للأجهزة الأمنية التابعة للنظام السوريّ، تسلّلوا تحت غطاء من القصف المدفعيّ العشوائيّ من مدينة الميادين في الضفة الغربيّة لنهر الفرات، إلى مناطق في ناحية ذيبان شرقيّ دير الزور، وعن "قذائف هاون ومدفعية من مناطق النظام استهدفت مناطق مدنية على الضفة الغربية".
والواقع، بحسب المعطيات الميدانية والمعلومات الأهلية، أنّ مقاتلين عشائريين عرباً هم من قاموا ويقومون بتلك الهجومات على مواقع ونقاط أدوات الاحتلال في تلك المناطق، بينما لم تُخفِ الدولة السوريّة أبداً، وعلى لسان غير مسؤول رفيع، دعمها الوطنيّ والمعنوي واللوجستي، بل وبكل الوسائل التي يتطلّبها الأمر، للمقاومة الشعبية التي تستهدف تحرير تلك المناطق من جميع القوى المحتلة والغريبة العاملة تحت إمرة قوات الاحتلال وضمن مشروعها، كما لا تتنكّر دمشق وحلفاؤها في محور المقاومة، أو يتملّصون من أيّ هجوم على مواقع الاحتلال وأدواته، ولا عن دعمهم للعشائر العربية والتنسيق مع الوطنيين منهم في المقاومة بهدف التحرير، وفي تحصيل حقوقهم في مناطقهم خاصة وفي دولتهم الوطنية عموماً.
ثمّة استنتاجات ومعانٍ هامة عديدة للحدث الأخير المتمثّل في عودة الاشتباكات بين العشائر العربية وقسد في مناطق شرقيّ الفرات، منها عجز قيادة قوات الاحتلال الأميركيّ (قوات التحالف) عن التوفيق بين الطرفين، وإنهاء الخلافات القائمة التي تتجذّر وتتزايد يوماً بعد يوم، أو فرض هدنة دائمة بينهما، بما يختزنه ذلك من أسباب تتعلق باستمرار الخطّة الأميركية القائمة على الاعتماد على قسد بشكل رئيسيّ، على حساب المكوّنات الأخرى في المنطقة، وعلى رأسها العشائر العربية السوريّة.
وأيضاً، عدم تغيير قسد لنهجها في التعامل مع السكان المحليين في تلك المناطق، واستمرارها في أسلوب تهميشهم والتضييق عليهم وهضم حقوقهم الوطنية والمدنية والاقتصاديّة والخدمية.
ثمّ إصرار العشائر العربية على تغيير الواقع المفروض بالقوة، حتى لو كلّف الأمر حرباً، وهذا ما تُظهره بيانات الشيخ إبراهيم الهفل بوضوح، وكذلك ردود الأفعال عليها من أبناء العشائر خصوصاً.
وأخيراً، وضوح الدولة السورية في عزمها تحرير المناطق المحتلة في شرقيّ الفرات، ودعمها لأبناء الوطن هناك والتنسيق معهم لأجل ذلك الهدف النهائيّ.
وعليه، فإنّ الاحتمالات الأكثر واقعية في المستقبل المنظور، هي التصعيد العسكريّ وفق خطط مدروسة بعناية وبعيدة عن العشوائية والارتجال، ما يعني أنّ احتمال تجدّد الاشتباكات قائم في كلّ لحظة، ولن تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل شهر من الآن، لكنّ مساحة دائرة تلك الاشتباكات وآفاقها، ستبقى مرتبطة بخطط الدولة السورية وقوى محور المقاومة العاملة معها في تلك المناطق من الشرق السوريّ وغربيّ العراق، ومن ضمنها من يعتنق تلك الأهداف منَ القوى العشائرية.