بين دمشق وغزّة.. عهدٌ جديدٌ للمقاومة ومشروعها
العمل المقاوم المشترك هو السبيل الوحيد إلى تحرير فلسطين وخلاص الأمة من الاحتلال، والسبيل الوحيد إلى نهضة هذه الأمة، بعد عقودٍ طويلة من الألم والعذابات التي سبّبتها قوى الاحتلال والنهب، وأرساها واقع النظرية الاستعمارية الخبيثة.
طوال سنوات الحرب على سوريا، وبالرغم من كلّ الصعوبات والأحداث العدوانيّة الاستثنائيّة التي شكّلت تهديداً وجوديّاً للدولة والمجتمع والجغرافيا فيها، لم يغفل الرئيس السوريّ بشار الأسد أبداً لقاءاته الدورية مع وفود فصائل المقاومة الفلسطينيّة، ولم يؤخّر يوماً خطاب فلسطين وذِكر مقاومتها ومقاوميها إلى فقرات بعيدة أو ثانويّة في أحاديثه ولقاءاته الإعلامية الرسميّة أو غير الرسميّة. وإذا كان الخطاب الرسميّ السوريّ قد بقي على مبادئه الفلسطينية طوال سِنيّ الحرب، فإنّ الأفعال السوريّة المرتبطة بفلسطين وقضيتها ومقاومتها، بقيت تسير جنباً إلى جنب مع هذا الخطاب، بل من المؤكّد أنّها سبقته في بعض المراحل، ولعلّ العديد من تلك الأفعال لم يجرِ الحديث عنه بعد، لأنه يدخل في صلب سِرّية العمل المقاوم، وإنْ كانت معركة "سيف القدس" قد خطّت بعض عناوين فصول تلك الأفعال بأحرفٍ من نورٍ ونار، على حديد الدبابات والمدرعات الإسرائيلية عند تخوم غزّة المقاوِمة.
في لقاءٍ له مع وفد الفصائل الفلسطينية المقاوِمة في أيار \مايو من العام 2021، وبعد أنّ وجّه تحية "للمقاومين، كلّ المقاومين في غزّة"، أكّد الرئيس الأسد أنّ "أبواب سوريا مفتوحة لكلّ فصائل المقاومة، بغضّ النظر عن تسمياتها"، وكانت تلك الفصائل خارجةً يومها من معركةٍ مشرّفة (سيف القدس) مع العدو الإسرائيليّ، أرست فيها معادلات جديدة على مستوى الصراع مع هذا العدو، وكانت حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين (حماس) في طليعة تلك الفصائل التي خاضت المعركة، وكانت سوريا حاضرة بقوة هناك، سواء عبر صواريخ "فجر 5" و"كورنيت" المضادة للدروع، أو من خلال التنسيق المباشر بين عموم قوى محور المقاومة في أثناء المعركة. وفي ذاك اللقاء الشهير، كانت جُملة "كلّ فصائل المقاومة، بغضّ النظر عن تسمياتها"، هي الجملة السحرية التي انتظرها الصديق والعدو على السواء في ذاك الخطاب، لأنها كانت في نظر معظم هؤلاء، تخصّ "حماس" تحديداً، خصوصاً بعد تصاعد الحديث عن مساعٍ حثيثة تقوم بها أطراف في محور المقاومة، وعلى رأسها الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، لإعادة ربط ما انقطع بين دمشق وحماس خلال سنوات الحرب، بسبب أحداث ومواقف ارتبطت بمشروع "الربيع العربي" والحرب على سوريا.
وإذا كان الأعداء والخصوم قد اشتغلوا بقوّة على بقاء تلك القطيعة وترسيخها، نظراً إلى ما يُشكّله ذلك من ضرر على المشروع المقاوم الذي يهدف إلى تحرير فلسطين ومواجهة قوى الهيمنة الدولية التي تسعى إلى تصفية القضية الفلسطينيّة، فإنّ الأصدقاء والعارفين بدمشق ومبادئها، وبمستوى وعي القيادات الجهاديّة الصاعدة في حركة المقاومة الإسلامية، كانوا واثقين بأنّ أمر عودة هذه العلاقات إلى وضعها الصحيح، ليس أكثر من مسألة وقتٍ وترتيباتٍ واجبة وضروريّة، وقد زاد من هذا اليقين أنّ الساعي على هذا الخطّ هو شخص السيد حسن نصر الله، بكلّ ما يُمثّله هذا القائد من قيمةٍ وثقل معنوي إنسانيّ ومقاوِم لدى دمشق وعموم أهل المقاومة في فلسطين والمنطقة والعالم، وما أعلنه السيد نصر الله نفسه في أكثر من لقاء له مع الإعلام، وما أكّده لاحقاً في "حوار الأربعين" مع قناة "الميادين"، عن وجود القبول والاستعداد لدى الطرفين لبدء صفحة جديدة، لما في ذلك من فائدة لقضية فلسطين وقضايا التحرر العربيّ.
وقد جاء البيان الذي أصدرته حركة حماس في 15 أيلول / سبتمبر الفائت، والذي رافقته عدة تصريحات من مسؤولين بارزين في الحركة، بشأن قُرب عودة مياه غزّة إلى مجاريها السوريّة، ليؤكّد أنّ محور المقاومة برمّته، وفي طليعته دمشق وحركات المقاومة في فلسطين، قد بلغ مراحل متقدمة جداً من الوعي بظروف الصراع مع قوى العدوان في فلسطين والمنطقة والعالم، والإدراك بأنْ تسوية أيّ خلاف بين أطراف المحور المقاوم في هذه المرحلة الحسّاسة والدقيقة جدّاً من عُمر الصراع مع تلك القوى، لا تقلّ أهمية عن الانتصار في معركةٍ حقيقية في ميادين القتال، لأنّ وحدة الصفّ والبندقيّة في الحرب المستمرّة مع العدو، هي واحدة من أهمّ شروط انتصار الأمة وتحرّرها، خصوصاً أنّ قوى محور المقاومة في المنطقة، قد بلغت معاً مستويات غير مسبوقة على صعيد القدرات والخبرات والقبض، علميّاً وعمليّاً، على أدوات النّصر في معركة التحرير الجارية، وهو ما أثبتته الوقائع يوماً بعد يوم منذ الاندحار الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، وصولاً إلى "سيف القدس" في فلسطين، وانتصار سوريا وحلفائها في الحرب التي خاضها أكثر من نصف العالم بهدف تدميرها وإخراجها من هذا الصراع، بلوغاً يوم العرض العسكريّ المهيب والمدهش الذي شهدته صنعاء قبل أسابيع قليلة، بعد سنوات من العمل على تدمير اليمن تماماً، ومحاولات إخراجه من الخريطة السياسية والإنسانية على السواء.
ولهذه الأسباب وغيرها منَ الموجبات التي تستدعي وحدة الصف بين أهل المقاومة، كان قدوم وفد قياديّ رفيع من حركة "حماس"، يرأسه نائب قائد الحركة في غزّة، السيد خليل الحيّة، ضمن وفد فصائليّ فلسطينيّ كبير إلى دمشق، ولقاؤهم الرئيس بشار الأسد، هو إعلان رسميّ من الجانبين عن الاتفاق على "طيّ صفحة الماضي"، كما جاء في المؤتمر الصحافيّ الذي عقده قائد الوفد الحمساوي، الذي أبلغ الرئيس الأسد أنّ تحيّته تلك قد وصلت إلى "كلّ المقاومين" في غزّة، وأنّه يحمل له بالمقابل "تحيّات المقاومين والمجاهدين في كتائب القسّام". أيضاً هو ترجمة عمليّة لمواقف سوريا التي أعاد الرئيس الأسد نفسه الإعلان عنها خلال اللقاء، والتي تنطلق من إيمان دمشق بأنّ "المقاومة هي السبيل الوحيد لتحرير الأرض"، وأنّ دعم سوريا للشعب الفلسطينيّ ومقاومته في وجه العدوان، هو ثابتةٌ سوريّة لا حياد عنها، وأنّ قراراً سوريّاً قد اتُّخذ بأنّ "الماضي قد انتهى، وأنّ النظر متركّز على المستقبل"، كما نقل قياديّ فلسطينيّ عن الرئيس الأسد. كذلك هو تأكيد على "وحدة موقف حركة حماس، واتّخاذ قياداتها مجتمعة قرار العودة إلى سوريا"، كما عبّر القياديّ خليل الحيّة.
وإذ أكّد أكثر من قياديّ فلسطينيّ بعد اللقاء، أنّ الرئيس الأسد كان منفتحاً وإيجابيّاً جدّاً مع السيد خليل الحيّة وقيادات حماس التي شاركت في اللقاء، وأنّ الترحيب السوريّ كان "دافئاً جدّاً"، فإنّ القياديّ الحمساويّ بدوره، كان صريحاً وواضحاً في التعبير عن إشادته بالرئيس الأسد ومواقفه ودور سوريا تحت قيادته في دعم العمل الفلسطينيّ المقاوم بكل ما تستطيع، كما كان صريحاً في انتقاده لأولئك الذين يعارضون عودة العلاقات بين الحركة ودمشق، والذين يعبّرون عن مواقف تصبّ في مصلحة أعداء القضية الفلسطينيّة.
ولعلّ كلمة السيد خليل الحيّة بشأن هذا اللقاء بأنه "ردّ على مشاريع الاحتلال"، هي أبلغ ما يمكن التعبير به عن أهمية دور سوريا في المعركة مع هذا الاحتلال من جهة، وخطورة وجود خلافات أو تباعد بين قوى المقاومة التي تواجه هذا الاحتلال في فلسطين والمنطقة. وكان لافتاً قول الحيّة إنّ يوم اللقاء مع الرئيس الأسد وعودة الدفء إلى العلاقة مع سوريا، هو "يومٌ مجيد"، وأنّه انطلاقاً من هذا اللقاء، سوف تستأنف الحركة حضورها في سوريا، والعمل معها دعماً للشعب الفلسطينيّ ولـ"استقرار سوريا".
وتلك إشارة واضحة إلى أنّ الحضور الحمساوي في سوريا سيبدأ بالتصاعد اعتباراً من هذا الأسبوع، وأنّ العمل على تطوير العلاقات بهدف إعادتها إلى سابق عهدها، سيكون حثيثاً وجدًّيّاً خلال هذه الفترة، وهو ما أكّده القيادي في حركة "حماس" أسامة حمدان، حين قال إنّ الحركة قد "عادت إلى دمشق وانتهى الأمر"، وأنّ استئناف العلاقات بين الجانبين سوف "يأخذ أبعاده الكاملة خلال المرحلة المقبلة".
ولأنّ حدثاً هامّاً كهذا لا يمكن أنْ يمرّ بسهولة ومن دون ضجيج، خصوصاً أننا نختبر الآن صراعاً عالمياً كبيراً تقع منطقتنا، وفلسطين وسوريا على وجه الخصوص، في منطقة القلب منه، هو صراعٌ من المفترض أنْ تؤسّس أحداثه لصعود عالمٍ جديد تتقهقر فيه قوى الهيمنة والعدوان، وتبرز فيه قوى حرّة وسيّدة جديدة، ولأنّ محور المقاومة هو أحد صنّاع هذا العالم المنشود، فإنّ على "المتضرّرين" العرب من اجتماع أهل المقاومة على كلمة واحدة ومشروع واضح واحد، أنْ يفكّروا بعقليّة دمشق الناجية من حرب طاحنة كبرى، بفضل ثباتها على مبدأ المقاومة والسيادة والكرامة الوطنية والتآخي مع قوى التحرّر في المنطقة، وبعقليّة غزّة التي أدركت بالمنطق وبالدم والتضحيات الجسيمة هي الأخرى، أنّ أيّ خلاف بين قوى المقاومة، لا يمكن إلّا أنْ يكون من أهداف العدو الكبرى ومن صلب مصالحه، وأنّ العمل المقاوم المشترك هو السبيل الوحيد إلى تحرير فلسطين وخلاص الأمة من الاحتلال والتجبّر والضعف والفقر، بل هو السبيل الوحيد إلى نهضة هذه الأمة، بعد عقودٍ طويلة من الألم والعذابات التي سبّبتها قوى الاحتلال والنهب، وأرساها واقع النظرية الاستعمارية الخبيثة، "فرّق تَسُد".