بلينكن إلى الصين.. تصعيد أم تهدئة؟
6 سنوات من الحرب التجارية التي فرضتها واشنطن على بكين نتج منها ارتفاع العجز التجاري الأميركي بمقدار 200 مليار دولار، وارتفاع الأسعار الذي زاد من حجم التضخم، ما حمل المواطن الأميركي أعباء إضافية.
تشهد العلاقات الأميركية الصينية توترات كبيرة وتحديات بات احتواؤها والسيطرة عليها أمراً غير مؤكد، إلا إذا راهنّا على قدرة بكين على المناورة والتهدئة واللعب على عامل الوقت.
رغبة الصين في عدم الوصول إلى مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة أمر مؤكد، لكن فرص نجاحها في تجنب تلك المواجهة تتناقص يوماً بعد يوم، وهذا يعود إلى أسباب كثيرة، سياسية واقتصادية وتكنولوجية، إذ انتقلت العلاقات بين البلدين من المنافسة والتحدي، لتصل إلى المواجهة في كثير من الملفات، باعتبار أن المواجهة ليست عسكرية فقط.
ملفات كثيرة متنازع عليها بين البلدين، بعضها قابل للتفاوض والحوار، والكثير منها يعد خطوطاً حمراً بالنسبة إلى بكين لا يمكن الاقتراب منها، إذ تعتبرها شأناً داخلياً، ومنها: تايوان، وهونغ كونغ، وإقليم شينجيانغ، والتبت، ومنطقة بحر الصين الجنوبي، وقضايا الديمقراطية، والإيغور...
كان بلينكن قد زار الصين في حزيران من العام الماضي، وهي الزيارة التي تم تأجيلها على خلفية حادثة المنطاد الشهيرة، والاتهامات التي وجهتها الولايات المتحدة إلى الصين.
رغم الأجواء الإيجابية التي رافقت تلك الزيارة، فإنَّ تصعيداً كبيراً حدث في العلاقات بين البلدين بعدها مباشرة، حين وصف الرئيس بايدن الرئيس الصيني بـ"الديكتاتور" خلال حملته لجمع التبرعات، وهو ما أثار غضب بكين وزاد حدة التوترات بين البلدين.
على الرغم من ذلك، فقد بقيت الصين منفتحة على الحوار، باعتباره الطريق لحل المشكلات، فكانت القمة بين الرئيسين في سان فرانسيسكو في نوفمبر الماضي، والتي استمرت 4 ساعات وأدت إلى اتفاق الطرفين على استئناف المحادثات العسكرية بينهما، وكذلك الاتفاق على عقد محادثات ثنائية بشأن تنظيم قضايا الذكاء الاصطناعي والتعاون بين البلدين في مكافحة المخدرات.
أجواء مشحونة بين البلدين
تأتي زيارة بلينكن وقد سبقها عدد من الرسائل غير الإيجابية التي سعت واشنطن لإيصالها إلى بكين، إذ استضافت واشنطن قمة ثلاثية جمعتها مع كلٍّ من اليابان والفلبين لتوحيد الصفوف في مواجهة بكين، متهمين إياها بزعزعة الاستقرار في منطقة المحيطين الهندي والهادي.
كما اقترح الرئيس بايدن زيادة الرسوم الجمركية على منتجات الصلب والألمنيوم الصينية لتصبح 25% بدلاً من 7.5%، سعياً منه لطمأنة عمال المناجم، أملاً في الحصول على أصواتهم.
سبق ذلك الضغوط الأميركية على شركة "تيك توك" الصينية لإجبارها على بيع التطبيق لشركة أميركية أو التهديد بإغلاقه، وهو ما ردت عليه بكين بإغلاق تطبيقي "واتسآب" و"ثريدز"، إذ طلبت الحكومة الصينية من شركة آبل حذفهما من متجر التطبيقات الخاص بها في الصين.
وبالتالي، سيقل الإقبال على شراء الآيفون، ويزيد الإقبال على شراء الهواتف المحلية الصنع. وتشير التقارير إلى انخفاض مبيعات آيفون في الصين خلال الربع الأول من هذا العام بنسبة بلغت 10%، وهو رقم كبير جداً نظراً إلى حجم السوق الصينية.
مطالب وتحذيرات
كانت زيارة وزيرة الخزانة الأميركية يلين إلى بكين في بداية هذا الشهر لنقل مطالب من الحكومة الصينية وتوجيه إنذار إليها، على حد تعبير يلين. المطالب ركزت على قضايا اقتصادية ومخاوف أميركية من زيادة الصادرات الصينية، وخصوصاً في مجال السيارات الكهربائية وبطاريات الليثيوم وألواح الطاقة الشمسية.
ورأت أن الصين تصدر أكثر مما تستهلك، فهي تنتج نحو ثلث الإنتاج العالمي، فيما لا يتجاوز استهلاكها سدس الإنتاج العالمي فقط. وبالتالي على بكين التحول من اقتصاد يعتمد على التصدير إلى اقتصاد يعتمد على الاستهلاك.
أما التحذيرات، فهي تتعلق بضرورة وقف تعاون الصين مع روسيا على خلفية الحرب في أوكرانيا. ووفقاً للتقارير الأميركية، فإن 90% من الرقائق الإلكترونية التي استوردتها روسيا عام 2023 جاءت من الصين. وقد استخدمت في إنتاج الصواريخ والدبابات والطائرات المسيرة وغيرها.
الرد الصيني جاء سريعاً، إذ استقبلت بكين وزير الخارجية الروسي لافروف. وقد التقى نظيره الصيني وانغ يي، ثم الرئيس شي الذي أكد حرص بكين على تعزيز شراكتها مع موسكو، وصولاً إلى توحيد الشراكة مع دول الجنوب العالمي.
المهم في هذه الزيارة هو طرح البلدين فكرة "المقاومة المزدوجة" التي تشكل رداً على سياسة "الاحتواء المزدوج" لروسيا والصين التي طرحتها الولايات المتحدة، فالبلدان يواجهان عقوبات غربية مشتركة، وعليهما العمل على تجاوز تلك العقوبات في إطار منظمتي البريكس وشنغهاي اللتين تعدان مؤسسات دولية بديلة من المؤسسات القائمة حالياً في مجالات الاقتصاد والأمن.
وقبيل زيارة بلينكن، ذكرت صحيفة "فايننشال تايمز" الأميركية أن الوزير سينقل رسالة إلى بكين مفادها أن الولايات المتحدة والدول الغربية تطلب من بكين التوقف فوراً عن تزويد موسكو بأي نوع من أنواع الرقائق، حتى التي يمكن أن تستخدم استخداماً مزدوجاً.
هذا الموقف يعكس حجم المخاوف الغربية من هزيمة أوكرانيا، وعدم قدرة الدول الغربية على الاستمرار بتزويدها بالسلاح والعتاد، وهو ما يفسر الاتفاق الذي جرى بين الولايات المتحدة واليابان لإقامة مصانع أميركية للسلاح في طوكيو، لتكون قادرة على تزويد أوكرانيا بالقذائف التي تحتاجها، بدءاً من بداية العام القادم أو في النصف الثاني منه، ما يعني أن لا نهاية قريبة لتلك الحرب.
الضغط الأميركي على بكين يدفعها إلى المزيد من التقارب مع موسكو وبيونغ يانغ وإيران وباقي دول العالم التي تسعى للتخلص من الهيمنة الأميركية.
مخاوف اقتصادية
استمرار الصّين في تحقيق نموها الاقتصادي يقلّص الفجوة بشكل كبير بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية، ما يزيد من قلق واشنطن وغيرها من الدول الغربية. مقارنة الصين بالصين خطأ منهجي، وهو ما تلجأ إليه بعض وسائل الإعلام حين تقول إنَّ ما حققته الصين من نمو عام 2023 هو أقل معدل نمو منذ 3 عقود.
الصحيح أن نقارن الصين بباقي دول العالم، فنقول إن معدل نمو الاقتصاد الصيني بلغ عام 2023 نسبة 5.2%، فيما لم يتجاوز معدل نمو الاقتصاد الأميركي في العام ذاته 2.5% أكبر تقدير.
الاقتصاد العالمي مريض، والصين أهم محركاته، بمعنى أن ما يحدث في العالم أثر سلباً فيها، وليس العكس، فاتهامها بأن أزماتها الاقتصادية (تباطؤ النمو، أزمة العقارات، وغيرها..) أسهمت في زيادة مشكلات العالم الاقتصادية أمر غير صحيح، وخصوصاً أن النظام المالي والنقدي الصيني أقل تداخلاً مع الاقتصادات الأخرى. وبالتالي، لا يمكن مقارنته بالاقتصاد الأميركي الذي نقل أزمة العقارات في أميركا في العام 2008، لتصبح "الأزمة المالية العالمية"، وبالتالي أصبح العالم كله ملزماً بتحمل تبعاتها.
تعافي الاقتصاد الصيني وتحرك عجلته، والخطة الطموحة التي وضعتها القيادة الصينية لتشجيع الاستثمارات الأجنبية، ومعالجة أزمة العقارات، وتعزيز الصادرات ذات التقنية العالية، كلها أسباب أثارت قلق الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، فظهرت دعوات أميركية وأوروبية لتقليل ما سموه "الاعتمادية على الصين"، التي باتت الشريك التجاري الأول لعدد كبير من دول العالم، كما أن كفة الميزان التجاري تطغى دائماً لمصلحة الصين وبشكل كبير.
كما نجحت بكين في تشجيع الاستثمار الأجنبي، فوضعت عام 2021 برنامج "استثمر في الصين"، وتم من خلاله تقديم كل التسهيلات التي يحتاجها المستثمر الأجنبي وتبديد كل المخاوف لديه عبر توفير بيئة قانونية واستثمارية متكاملة.
واليوم، بات المستثمرون الأجانب يملكون أكثر من 4 تريليون يوان من السندات الصينية (أي 570 مليار دولار). كما أن صافي الحيازات سجل ارتفاعاً كبيراً للشهر السادس على التوالي، وهو ما يعني أن الثقة بالاقتصاد الصيني آخذة في الازدياد.
البحث عن أرضية مشتركة للحوار
قبل أيام، تحدث السفير الصيني في واشنطن في منتدى كينيدي الذي تقيمه جامعة هارفرد في الولايات المتحدة الأمريكية، داعياً واشنطن إلى أن تجنب "تحويل الصين إلى الصين التي تتخيلها الولايات المتحدة". "1 + 1 أكبر من 2" عبارة أطلقها السفير الصيني، وعكست رؤية بلاده إلى أهمية التعاون بين البلدين وما سيحققه من منفعة لباقي الدول.
6 سنوات من الحرب التجارية التي فرضتها واشنطن على بكين نتج منها ارتفاع العجز التجاري الأميركي بمقدار 200 مليار دولار، وارتفاع الأسعار الذي زاد من حجم التضخم، ما حمل المواطن الأميركي أعباء إضافية.
قبل التوتر في العلاقات بين البلدين، كان هناك أكثر من 300 رحلة جوية أسبوعياً بين الصين والولايات المتحدة، وأكثر من 5 ملايين مسافر سنوياً عبر جانبي المحيط. يزور أكثر من 3 ملايين سائح صيني الولايات المتحدة سنوياً، ويساهمون بأكثر من 30 مليار دولار في الاقتصاد الأميركي، ويبلغ عدد الطلاب الصينيين في الولايات المتحدة حالياً نحو 290 ألف طالب، فالصين أكبر مصدر للطلاب في الولايات المتحدة لمدة 15 عاماً متتالية.
في السنوات القليلة الماضية، توقفت آليات التعاون المشترك بين البلدين، مثل: منتدى حكام المقاطعات الصينية الأميركية، والمنتدى الثقافي الأميركي، والحوار الاجتماعي والإنساني الصيني الأميركي، والحوار بين مديري التعليم بين البلدين، والحوار المبتكر بين الصين والولايات المتحدة، ومنتدى العلماء الشباب الأميركيين.
خلال السنوات الثلاث الماضية، قامت الولايات المتحدة بإزعاج أكثر من 300 مواطن صيني من دون مبرر، وتم تخويف الطلاب الأميركيين الراغبين في الدراسة في الصين. تلك المعطيات تؤكّد بما لا يدع مجالاً للشك أن العلاقات بين البلدين في تراجع مستمر، وعلى الصعد كافة، رغم تداخل المصالح بين البلدين.
تلك المؤشرات جعلت بكين تعمل على تخفيف احتياطي الدولار لديها، خوفاً من قيام الولايات المتحدة بفرض عقوبات عليها أو تجميد بعض أرصدتها على غرار ما حدث مع موسكو، فلجأت خلال العامين الماضيين إلى شراء أكثر من 2800 طن، متصدرة بذلك قائمة الدول المستوردة للمعدن الأصفر، وهو ما أسهم في ارتفاعه إلى مستويات كبيرة.
شراء الذهب" فهمته واشنطن على أنه "تخلص من الدولار"، وهو ما يعني أن العلاقات بين البلدين تسير في الطريق الذي لا عودة عنه، وخصوصاً أن الانتخابات الأميركية باتت قريبة، و"التشدد مع الصين" فكرة تدغدغ مشاعر الناخب الأميركي بكل تأكيد.