بعد دخولها شهرها السادس.. العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة إلى أين؟
إمكانية التوصّل إلى توافقات حتى لو كانت مؤقتة ما زالت واردة، ولا سيما في ظل حاجة الجميع لفترة من الهدوء، وعلى رأس هؤلاء كلهم الاحتلال، الذي يعاني من خسائر هائلة على جميع الأصعدة.
عادة ما يتمّ تقييم نتائج العمليات العسكرية المختلفة من خلال منظور الربح والخسارة، والربح هنا يعني تحقيق جملة الأهداف سواء التي تم وضعها لهذه العملية قبل انطلاقها، أو التي تمّ استحداثها أثناء المعركة نتيجة بعض المتغيّرات التكتيكية أو العملياتية، والتي تتطلّب في بعض الأحيان تحديث جملة الأهداف، أو تطويرها، بحيث تكون قادرة على مجاراة ما يجري في ميدان القتال، ولا سيما عندما تكون المعارك صعبة ومحتدمة.
في الحرب المجنونة التي يشنّها العدو الصهيوني على قطاع غزة والتي دخلت قبل أيام شهرها السادس، تبدو قائمة الأهداف الإسرائيلية التي تمّ وضعها في بداية المعركة تراوح مكانها، وكأنّ الحرب لم يمضِ على انطلاقها سوى أيام معدودات، إذ لم يتمّ تحقيق أيٍ منها، بل إن مزيداً من الخسائر سواء تلك المتعلّقة بهيبة "الدولة" العبرية التي سقطت صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أو فيما يخصّ ارتفاع منسوب الفشل التكتيكي والعملياتي الذي أحاط بأداء "جيش" الاحتلال، وفرقه النظامية والنخبوية على أرض قطاع غزة.
قبل خمسة أشهر ونيّف رفعت "دولة" الاحتلال من سقف أهدافها المراد تحقيقها من خلال ما أسمته عملية "السيوف الحديدية"، في إطار ردّها على عملية طوفان الأقصى "الصادمة"، والتي أربكت كلّ مؤسسات "الدولة"، وهدّدت بإسقاطها بالضربة القاضية لولا التدخّل الأميركي العاجل والواسع، والذي حاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وساهم في استعادة الكيان الصهيوني لجزء من رباطة جأشه التي فقدها خلال ساعات قليلة من هجوم المقاومة الفلسطينية الكاسح.
الأهداف الإسرائيلية التي ما زلنا نستمع للقادة الصهاينة وهم يردّدونها صباح مساء، تلخّصت في تدمير المقاومة وتفكيك وحداتها القتالية، والقضاء على قدراتها العسكرية، إضافة إلى استعادة نحو 250 من الأسرى من بينهم عدد كبير من الجنود والضباط، إلى جانب الإشراف الأمني المستدام على جزء من جغرافيا قطاع غزة، من خلال ما أُطلق عليه "المنطقة العازلة"، والتي في حال تنفيذها ستقضم أكثر من ثلث مساحة القطاع الساحلي الصغير، والتي لا تتجاوز 365 كلم.
إضافة لكلّ ما سبق وضعت "دولة" الاحتلال هدفاً آخر يتعلّق بهوية الجهة التي ستحكم غزة بعد الحرب، وتدير شؤونها الداخلية والخارجية، بعيداً عن حركة حماس التي تسيطر على القطاع منذ العام 2007، أو السلطة الفلسطينية التي وقّعت مع "دولة" الاحتلال اتفاقية أوسلو في العام 1993.
استخدمت "دولة" الاحتلال لتحقيق جملة الأهداف المُشار إليها أعلاه مروحة واسعة من القدرات العسكرية، والخيارات التكتيكية، بل يمكن القول بعد هذا الوقت الطويل على انطلاق الهجوم الإسرائيلي الواسع، إن "جيش" العدو استخدم كلّ إمكانياته العسكرية والقتالية باستثناء السلاح النووي، ولجأ إلى كلّ خططه التكتيكية منها والاستراتيجية، بل إنه اضطرّ للاستعانة بالمخزون الهائل من السلاح الأميركي، سواء ذلك الموجود في القواعد الأميركية في الأردن وتركيا وبعض دول الخليج، أو ذلك الموجود في المخازن التابعة للقيادة المركزية الأميركية في الشرق الأوسط، والذي يقع جزء مهم وكبير منها في صحراء النقب جنوب فلسطين المحتلة.
إضافة إلى كلّ ما سبق استخدم "جيش" الاحتلال وما زال كميات ضخمة من السلاح الأميركي التي تصل إليه عبر جسر جوي وبحري لا يتوقّف، أشارت إليه قبل أيام الصحافة الأميركية والإسرائيلية، ووصفته بأنه أكبر دعم عسكري تقدّمه الولايات المتحدة لأحد حلفائها خلال الثلاثين سنة الأخيرة، ولا سيما على صعيد القذائف المدفعية التي يحتوي بعضها على مواد سامة وحارقة، أو على صعيد صواريخ جو-أرض، والتي سقط على غزة منها خلال شهور العدوان ما يزيد في قوته التدميرية عن قنبلتي هيروشيما وناغازاكي.
ولكن على الرغم من كلّ هذه القوة التدميرية الهائلة، والتي كان اليسير منها كافياً لهزيمة أربع دول عربية في السادس من حزيران/يونيو من العام 1967، والسيطرة على جزء من أراضيها ما زال بعضه يرزح تحت الاحتلال حتى الآن، إلا أن أياً من أهداف الاحتلال المعلن عنها، إضافة إلى الكثير مما هو مسكوت عنه لم تتحقّق، بل أن محنة الاحتلال ازدادت وتعمّقت، وبات يعاني مزيداً من الفشل والإخفاق على كثير من الصعد، إلى جانب ما مُني به من خسائر بشرية ستكشف الأيام حجمها وفداحتها رغم محاولة إخفائها، إلى جانب المزيد من سقوط وهم الدولة العظمى، و"الجيش الذي لا يُقهر".
بعد هذا الوقت الطويل من القتال في جغرافيا معقّدة رغم تضاريسها الساحلية المنبسطة، ورغم عدد الشهداء الكبير في أوساط المدنيين الفلسطينيين، والذي قد يتجاوز الأربعين ألف شهيد، وعشرات آلاف الجرحى والمصابين، ورغم الدمار الهائل في البنى التحتية والبيوت والمصانع والشوارع والمؤسسات التعليمية والصحية، وفي ظل عدم إحراز أي تقدّم يُذكر ـــــ حتى الآن ـــــ على صعيد مفاوضات وقف إطلاق النار، والتي راقب الجميع باهتمام شديد فصلها الأخير في العاصمة المصرية القاهرة.
يتساءل الكثيرون من المتابعين، وفي المقدّمة منهم المجتمع الإسرائيلي المحبط والمصدوم من فشل "جيشه الأسطوري"، والذي ملّ من تصريحات رئيس وزرائه المأزوم، ووزير حربه المسكون بجنون العظمة، يتساءلون عن مستقبل العملية العسكرية الصهيونية التي طال أمدها، وبان عجزها، وظهر جلياً إخفاقها المتكرّر في تحقيق أي إنجاز يمكن المفاخرة به، أو تقديمه كصورة انتصار ناجز وكامل كما يأمل ويتمنّى نتنياهو ومجلس حربه الذي بدأ في التفكّك.
يمكن لنا بناء على معطيات الميدان الذي نحن قريبون جداً منها، ومن خلال قراءة لسير العملية الإسرائيلية خلال الفترة الماضية، أن نتوقّع استمرار العمليات العسكرية بالنمط الحالي نفسه، والذي يشهد انخفاضاً ملحوظاً في وتيرة القتال، خصوصاً في المنطقة الشمالية من القطاع، إضافة إلى المناطق الوسطى ومعظم مناطق مدينة خان يونس، والتي واجهت فيها القوات الإسرائيلية قتالاً صعباً وقاسياً.
ارتفعت على إثر هذا القتال فاتورة خسائر إسرائيل الفادحة، مع بقاء عمليات القصف الجوي الذي يشمل كل جغرافيا القطاع على شكلها الحالي، والذي تستهدف من خلاله الطائرات الإسرائيلية ما تبقّى من منازل وبيوت تقع بالقرب من الحدود الشرقية والشمالية للقطاع، إلى جانب تلك الموجودة شمال وجنوب الشارع رقم 10، والذي ما زال يُستخدم كنقطة انطلاق للعمليات التكتيكية التي تستهدف بعض المناطق في مدينة غزة، كما جرى مؤخراً في حي الزيتون جنوب شرق المدينة.
يُضاف إلى كلّ ذلك استمرار التحضير للعملية البرية في مدينة رفح أقصى جنوب القطاع، والتي بات يلوّح بها الاحتلال كورقة مساومة وابتزاز في وجه المقاومة للتنازل عن مطالبها المحقّة والمشروعة، إلى جانب إمكانية القيام بعملية مشابهة ضد مدينة دير البلح في المنطقة الوسطى، والتي تحوّلت مؤخراً إلى منطقة إيواء لعشرات الآلاف من المهجّرين قسرياً من المناطق الأخرى في قطاع غزة.
ولكن ما هي المُعطيات التي بنينا عليها هذا الاستنتاج! والذي يتفق معه الكثيرون، ويختلف معه آخرون في الوقت نفسه! وهل هو نتيجة لسير العمليات العسكرية في الميدان فقط! أم هناك أسباب أخرى نراها تدعم في هذا الاتجاه نفسه ولا سيما ونحن نكتب من قلب لجّة القتال، وبالقرب من الحافة الأمامية للمعارك التي كانت محتدمة في كثير من الأوقات، وإن كانت تشهد حالياً شيئاً من الهدوء النسبيّ الذي يمكن أن يتغيّر في أي لحظة نظراً لظروف الميدان، وضرورات المواجهة.
أولى المعطيات من وجهة نظرنا هي المراوحة التي أصبحت عليها العملية الإسرائيلية في الأسابيع الأخيرة، والتي باتت تشهد بطئاً ملحوظاً في تنفيذ المهام العملياتية، وهو ما ظهر جليّاً في مدينة خان يونس، إذ إنه بعد أكثر من شهر ونصف الشهر على بدء التوغّل البرّي في ثاني أكبر مدن القطاع، والتي كان الاحتلال يصوّرها على أنها عاصمة المقاومة، وأن أبرز قادة الفصائل وبرفقتهم عدد كبير من الأسرى الصهاينة موجودون فيها، وأن الانتصار فيها قاب قوسين أو أدنى بعدما زجّ بخيرة قواته هناك، فإذا به بعد هذا الوقت الطويل، وما استخدمه من وسائل قتالية هائلة، إلى جانب ما ارتكبه من جرائم ومذابح بحقّ المدنيين، يخرج بخفّي حنين، مقرّاً بفشله في تحقيق أهدافه، ومتراجعاً عن كثير من ادعاءاته التي حاول ترويجها سابقاً ولا سيما على صعيد استعادة الأسرى.
ما جرى في خان يونس، وما سبقه من أحداث مشابهة في باقي مدن القطاع، أثّر سلباً على معنويات جنود وقادة "جيش" العدو الذين يقاتلون في غزة، وعبّروا عن جزء منه خلال لقاءات متعددة مع وسائل إعلام إسرائيلية، حيث أماطوا اللثام رغم مقصّ الرقيب العسكري عن حالة من الضجر والإحباط تصيب الكثيرين منهم، خصوصاً في ظل عدم وضوح الرؤية فيما يخص مستقبل العملية العسكرية، إلى جانب التضارب الواضح ما بين تصريحات قادة الاحتلال السياسيين والعسكريين، وما بين الأوامر التي تصل إليهم من قادتهم المباشرين، والتي تشير إلى حالة من الإرباك وفقدان الثقة، وعدم القدرة على إنجاز المهام المطلوبة.
ثاني المعطيات هو الصمود المُبهر الذي امتازت به المقاومة الفلسطينية خلال مدة الحرب، والتي على الرغم من الفارق الهائل في الإمكانيات بينها وبين "جيش" العدو، وفي ظل حصار مُطبق عانت منه خلال السنوات السبع عشرة الماضية، واعتمادها على السلاح المُصنّع محلياً بشكل شبه كامل، إلى جانب الضائقة الاقتصادية التي ضربت بأطنابها كلّ مناحي الحياة في القطاع المحاصر، وهو ما أثّر عليها بالسلب في كثير من الأوقات، إلا أنها تمكّنت من القتال في ظروف صعبة وقاسية بشكل لم يتوقّعه الكثيرون حتى من مناصريها ومحبيها.
وكبّدت المقاومة قوات العدو خسائر فادحة للغاية في الأفراد والمعدّات، حيث استخدمت أسلوب الحرب اللا متناظرة، وفي بعض الأحيان لجأت إلى جزء من مبادئ حرب العصابات والحرب الهجينة، وهي التي تملك فيهما خبرة طويلة، استمدتها من الدعم اللامحدود الذي قدّمته لها الجمهورية الإسلامية في إيران سواء على صعيد الخبرات القتالية، أو صناعة الوسائل العسكرية، والتي تتواءم جميعها مع طبيعة الأرض، ونمط القتال، ونوعية العدو الذي تواجهه.
هذا إلى جانب الظهير الشعبي المؤيّد والمساند الذي وقف معها، ودعمها، وأيّدها، والذي على الرغم من الحرب النفسية الصهيونية التي استهدفت إفساد هذه الثنائية المُبدعة، وبثّ بذور الفتنة والشقاق فيما بينها، إلا أنها استمرت على المنوال نفسه، متخطّية بعض الهفوات الصغيرة، التي ثبت بالدليل القاطع أن أذناب الاحتلال كانوا يقفون من خلفها، ويحاولون الترويج لها.
معطيات أخرى من قبيل تخوّف الاحتلال من انفجار الأوضاع في كل المنطقة ولا سيما مع بداية شهر رمضان المبارك، وإمكانية تحوّل جبهات المساندة في كلّ من لبنان واليمن والعراق وسوريا إلى جبهات مواجهة مباشرة، وهو ما لا تريده "الدولة" العبرية أو حليفها الأميركي، إضافة إلى تزايد الرفض الشعبي في معظم دول العالم لما يجري من جرائم بحق الشعب الفلسطيني، والقرارات الأخيرة لمحكمة العدل الدولية والتي أدانت الكيان الصهيوني بشبهة ارتكاب جرائم إبادة جماعية، إلى جانب الخلافات التي بدأت تتسع بين أقطاب مجلس الحرب في "إسرائيل"، والذي يتهدّده شبح التفكّك والانهيار.
كلّ ذلك يشير بوضوح إلى أن العملية العسكرية الصهيونية في قطاع غزة ستبقى تراوح مكانها، من دون تحقيق أيّ إنجاز ميداني يُذكر، ومن دون الوصول لأيٍ من أهدافها المعلنة، وهو الأمر الذي قد يدفع نتنياهو في آخر المطاف للنزول عن الشجرة، والإقرار بالهزيمة المدوّية التي لحقت بـ "جيشه" في ملحمة "طوفان الأقصى"، والتي أضرّت بصورة هذا "الجيش" كما لم تفعل أيّ معركة من قبل.
ختاماً وبعيداً عن التفاؤل والتشاؤم، ورغم الحديث عن تعثّر المفاوضات السياسية غير المباشرة بين المقاومة والاحتلال، والتي يتحمّل الاحتلال عموماً، ورئيس حكومته خصوصاً كامل المسؤولية في عدم وصولها إلى اتفاق ناجز، يوقف الحرب، ويُعيد الهدوء إلى المنطقة كلّها، فإننا ما زلنا نعتقد أن إمكانية التوصّل إلى توافقات حتى لو كانت مؤقتة ما زالت واردة، ولا سيما في ظل حاجة الجميع لفترة من الهدوء، وعلى رأس هؤلاء كلهم الاحتلال، الذي يعاني من خسائر هائلة على جميع الأصعدة، بما سيدفعه عاجلاً أو آجلاً للقبول بمقترحات الوسطاء، والتي يمكن أن تشكّل له حبل نجاة يخرجه من أزمته العميقة، ويوقف سلسلة خسائره وإخفاقاته الكبيرة.