بدأت الحرب في أوكرانيا.. فهل تنتهي في سوريا؟
جميع الأطراف في سوريا يترقبون نتائج الحرب في أوكرانيا وما يمكن أن تتركه من آثار واسعة في مشاريعهم غير القابلة للتنبؤ.
أظهرت الحرب في أوكرانيا عمق الانقسام السوري، فكانت ردود الأفعال متعاكسة تبعاً لطبيعة الاستقطابات الداخلية، وتبعاً لاختلاف مناطق السيطرة الثلاث، دمشق وحلفائها الروس والإيرانيين، والكرد وحلفائهم من العشائر العربية والسريان والكلدان وغيرهم، وفوقهم جميعاً قوات أميركية دخلت وسيطرت من دون استئذان من أحد، وأيضاً في المنطقة التي احتلتها تركيا، ومعها مجموعات مسلحة سورية وأجنبية، والجميع يترقب نتائج الحرب وما يمكن أن تتركه من آثار واسعة في مشاريعها التي لا يمكن التنبؤ بمصيرها ومستقبلها.
تخوض موسكو حربها في أوكرانيا باعتبارها حرب وجود، وهي لم تقدم على هذا العمل إلا بعد أن استنفدت كل الوسائل للاعتراف بها ضمن المنظومة الدولية الغربية الحديثة كقوة عظمى. لم يكن هذا السعي وليد العقود الماضية، بل يعود عميقاً إلى نهايات القرن السابع عشر، مع قدوم بطرس الأكبر.
وعلى الرغم من كلِّ محاولاتها التي أخذت أشكالاً متعددة، فإن الدول الغربية المتعاقبة على قيادة العالم رفضت ذلك، واشتركت جميعها في محاولات تدمير روسيا التي تختلف معها بالنسيج القومي السلافي من جهة، وتبنيها الكنيسة الأرثوذكسية من جهة أخرى، مقابل الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية، فضلاً عن التهديدات المحتملة لقوة برية أثبتت قدرات دفاعية كبيرة في تحطيم كلّ الجيوش التي غزتها.
تهيأت موسكو لحربها الهجومية الأولى في تاريخها المعاصر، وخصوصاً بعد أن اقترب الناتو من الوصول إلى حدودها الغربية مع أوكرانيا، ما دفعها إلى ترتيب أوضاعها الداخلية على مدى 8 سنوات، والاندفاع نحو سوريا وليبيا والقوقاز وأواسط أفريقيا، في محاولةٍ منها للخروج من سجن الجغرافيا، والالتفاف على أعدائها المحيطين بها من كلّ جانب، وتوجت ذلك بالتوجه نحو الصين المُهددة أيضاً، والوصول إلى اتفاق شراكة استراتيجية معها، ما أمَّن لها البديل الاقتصادي لمنتجاتها من الغاز والنفط.
على عكس موسكو، إن الدول التي تخوض الحرب مع روسيا بالأوكرانيين لا تتعاطى مع الحرب باعتبارها حرباً وجودية، بل من منطلق الاحتفاظ بالدور، واستمرار الهيمنة على مسارات السياسة والاقتصاد العالميين، والخشية من دور أكبر لكلٍّ من الصين وروسيا في إحداث تغيير المسار العالمي نحو الشرق.
من هنا، تأتي تباينات مواقف السوريين من الحرب، تبعاً لطبيعة التهديدات والفرص لكلّ طرف من الأطراف، والتداعيات التي يمكن أن تتركها نتائج هذه الحرب عليهم.
كانت مواقف دمشق هي الأكثر وضوحاً في تبني الموقف الروسي بشكل كامل، وهي تعتبر الحرب فرصة كبيرة لها لاستعادة زخم السيطرة العسكرية على كل المناطق التي ما زالت خارج سيطرتها، وخصوصاً بعد الاتفاق الروسي الأميركي السابق الذي أعلن انتهاء العمليات العسكرية والذهاب نحو إيجاد حل سياسي وفق أستانة والقرار 2254، ما منعها من متابعة معارك إدلب بشكل أساسي للسيطرة على شمال غرب البلاد، ثم التمدد نحو المناطق الأُخرى.
ولم يكن هذا الموقف الواضح الصريح إلا نتيجة يقينها بأن موسكو ستحسم هذه الحرب لمصلحتها ولمصلحة النظام الدولي الجديد الذي تم الإعلان عنه من بكين في 4 فبراير/شباط من هذا العام.
وعلى الرغم من عدم صدور أيّ تصريح عن القيادة الكردية حول الحرب، فإنَّ التردد والقلق من نتائج الحرب هما المسيطران على رؤيتها وموقفها، فنتائج الحرب ستترك آثارها في مشروع الإدارة الذاتية واستمرار السيطرة على ثلث المناطق الغنية بالنفط والغاز والإمكانيات الزراعية الهائلة.
وعلى الرغم من عدم ثقة الكرد بالأميركيين الذين خذلوهم في عفرين في العام 2018، وفي المنطقة الممتدة بين تل أبيض ورأس العين في العام 2019، فإنّ قسماً منهم ما زال يراهن على التطمينات الأميركية في تحصيل حقوقهم القومية.
وبالتالي، إنَّ خسارة روسيا الحرب ستمنح الولايات المتحدة مزيداً من الأوراق الضاغطة لإيجاد وضعية خاصة بها في النسيج السوري، بينما يعتبر البعض أنّ الوجود الأميركي يشكّل تهديداً لهم في المستقبل القريب، سواء نتيجة التباين الفكري والأيديولوجي من جهة، أو نتيجة تجاربهم السيئة من جهة ثانية، بدءاً من الدور الأميركي الواضح مع "الموساد" الإسرائيلي في اعتقال عبد الله أوجلان، وانتهاءً بإعطاء الضوء الأخضر لتركيا لاجتياح مناطق الشمال السوري وتهجير أهله الكرد منه، وهم يراهنون على عودة العلاقة التاريخية مع موسكو لإحداث تغيير سياسي يجعلهم شركاء في إدارة سوريا، ويمنحهم الأولوية في إدارة مناطق وجودهم.
وعلى العكس، إنَّ السوريين الذين استقطبتهم تركيا في مشروعها الكبير يتابعون بقلق كبير مجريات الحرب، ويخشون نتائجها، وخصوصاً أن الراعي الأول لهم، الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، متورط فيها، فهو الذي أمدّ أوكرانيا بطائرات بيرقدار، وأصرّ على وحدة أراضيها علانية وعدم الاعتراف بجزيرة القرم الروسية الأصل، والتي يعتبرها ضمناً من أراضي الإمبراطورية العثمانية، ولوّح بتطبيق معاهدة مونترو، ما يمنع مرور السفن الحربية الروسية من الدخول إلى البحر الأسود.
يدرك سوريو أنقرة أنَّ انتصار روسيا في هذه الحرب سيقلص هامش مناورة الرئيس التركي بشكل كبير، بعد أن يعجز حلف الناتو عن تغيير معادلة الحرب، ما يدفع إلى المزيد من تصدع العلاقات بين أوروبا من جهة والولايات المتحدة من جهةٍ أخرى، إضافة إلى التصدع بين الدول الأوربية نفسها التي تتباين مواقفها ضمنياً تجاه العلاقة مع روسيا، ومحاولات تقليص الدور الأميركي في السياسات الأوروبية.
القلق من الانتصار الروسي لا يأتي من فراغ، وخصوصاً إذا ما صحَّت الأخبار عن تجهيز مجموعات مسلّحة من السوريين في جبهة تحرير الشام للمساهمة في الحرب الأوكرانية وقلب معادلات الحرب لمصلحة تركيا.
تأتي خشية هؤلاء من الانتصار الروسي خوفاً من أن يجعل موقف موسكو في وضع مريح لفرض شروطها على أنقرة، للتخلّص من التنظيمات الإسلامية، وخصوصاً الأجانب منهم، ما يجعلها مجردة من أوراق القوة، ومعرضة لفقدان الذرائع للاحتفاظ بالأراضي السورية التي احتلتها، وخصوصاً عذر اللاجئين السوريين، وإيجاد الحل السياسي ومبررات تهديدات الأمن القومي.
على الرغم من المؤشّرات الدولية المتتالية التي تؤكّد قرب ولادة نظام دولي جديد يترافق مع نهاية نظام إقليمي قديم في غرب آسيا تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، وقرب ولادة نظام إقليمي جديد لا يمكن التنبؤ بصورته النهائية حتى الآن، فإنَّ رهانات السوريين مستمرة حتى الآن من خلال الانقسام والتعويل على اصطفافاتهم الإقليمية والدولية لإحداث التغيير السياسي، كنتيجة لحسم الصراع الدولي والإقليمي الذي يمكنه أن يصب في مصلحة كل طرف من الأطراف، وهي لن تكون بالضرورة لمصلحتهم كنتيجة نهائية، رغم أنّ الملامح العامة ما زالت تؤكد ولادة هذا النظام الجديد من رحم الحرب الأوكرانية، واستعادة الصين لتايوان، وعودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وإقرار كلّ الأطراف الدولية والإقليمية بذلك، بما يفرض وقائعه على السوريين الّذين أنهكتهم الحرب، وأصبحت لقمة العيش أولويتهم القصوى، بعيداً عن أي أحلام سياسية.