أفريقيا في الصراع القائم
الثلاثي الرافض للهيمنة الأميركية يدرك تماماً مدى أهمية القارة الأفريقية في الصراع الدائر، والذي بدأ يتخذ صيغاً عسكرية متصاعدة، يمكن أن تؤدي بالفعل إلى حرب عالمية.
لا تبدو القارة الأفريقية بعيدة عن الصراع القائم حالياً بين الرأسمالية المركزية، ممثلة بالولايات المتحدة الأميركية، ومحور الرفض ممثلاً بالثالوث، الصين وروسيا وإيران، فالواقع أن وضعها هو أحد أهم أسباب النزاع، وخصوصاً فيما يتعلق بالأوضاع في غربي القارة، الذي يشهد انقلاباً واضحاً معادياً للغرب الأوروأميركي.
تمثل القارة الأفريقية الملاذ الأخير بالنسبة إلى أوروبا مع التعثر الذي يواجه المشروعات الأميركية، سواء في أوكرانيا أو في الشرق العربي، بخصوص السيطرة على غاز شرقي المتوسط.
وبالتالي، فإن المساعي، التي يقوم بها ثالوث محور رفض الهيمنة الأميركية للتوغل القوي في أفريقيا، يمثل حصاراً شبه مقفل على القارة الأوروبية، ويهدد بسقوط مدوٍّ لها في المستقبل القريب، وخصوصاً بالنسبة إلى كل من ألمانيا وفرنسا، اللتين تشهدان أزمات اقتصادية واحتجاجات عمالية قد تتحول إلى كارثة في حال اكتملت حلقة الحصار الروسي/الصيني حول أفريقيا.
وعلى الرغم من أن كِلا المشروعين الأميركيين لم يكتمل فشله حتى الآن إلى درجة تراجع الأميركيين ومحاولتهم تغيير سياستهم، فإن فقدانهم السيطرة الكاملة على أفريقيا يعني ضياع أوروبا من أيديهم وسقوطها تحت رحمة الروس والصينيين، الأمر الذي قد يؤدي إلى عزلة أميركا، التي لا زالت تعاني حتى في حديقتها الخلفية في القارة الأميركية الجنوبية.
يدرك القادة السياسيون في أوروبا الغربية، على الرغم من تبعيتهم الواضحة للقرار الأميركي، أن طول أمد الصراع في أوكرانيا والشرق العربي، والمقترن بالنجاحات التي حققها محور رفض الهيمنة الأميركية في أفريقيا، يهدد أوضاعهم الداخلية، وخصوصاً بعد إيقاف إمدادات الغاز والبترول الروسيين، ولم تتمكن النرويج، وهي المستفيد الأساسي من هذا الإيقاف، من تعويض الغاز الروسي، بحيث يبلغ مستوى إنتاجها القياسي، والذي تحقق هذا العام، 117.4 مليار متر مكعب، بينما بلغ إنتاج روسيا للغاز 463.77 مليار متر مكعب، بزيادة 54.4 مليار متر مكعب عن العام الماضي.
في هذه المرحلة، فإن الصراع بشأن القارة الأفريقية يمثل عامل الحسم الأساسي بين المتصارعين، فبالإضافة إلى الثروات التي تحتضنها الأرض الأفريقية، فإن دولها أنتجت في العام الماضي253.09 مليار متر مكعب من الغاز.
وعلى الرغم من أن هذا الرقم يعني أن معدلات إنتاج الغاز الأفريقي انخفضت عن عام 2022 لأسباب متنوعة، فإنه من ناحية أخرى ربما يعني أن القارة الأفريقية ستمثل الملجأ الأخير لأوروبا في حال استمرت القيادة الأميركية في محاولات تنفيذ مشروعاتها بخصوص روسيا والصين وإيران.
من الملاحظ أن هناك نوعاً من تقسيم العمل بين الثالوث الرافض للهيمنة الأميركية في القارة الأفريقية، فالصين، حتى وقت قريب، كانت تعطي الأولوية للعلاقات الاقتصادية بالأفارقة، لكنها مؤخراً بدأت تغيير هذا التوجه. وفي إطار سعيها لتعزيز الأمن والاستقرار في منطقة شرقي أفريقيا، بالإضافة إلى تعزيز التعاون العسكري مع دولها، قامت بمناورة برية وبحرية مشتركة مع كل من تنزانيا وموزمبيق (وحدة السلام – 2024) بهدف دعم قوات هذه الدول في القيام بمكافحة الإرهاب، وتعميق التعاون العسكري بينها وبين الدولتين.
كما تسعى الصين، عبر مجالي التعاون والتدريب العسكري، لترويج المعدات والأسلحة الصينية، والأهم موازنة الوجود البحري الهندي القوي في هذه المناطق. وعلى الرغم من المنافسة الواضحة مع كل من واشنطن والهند في المجال العسكري، فإن هذه الدول تنظر إلى الصين على أنها الشريك الاقتصادي الأفضل، كما أن بعضها يتبنى النموذج الصيني للتنمية، وهو ما مكّن الصين من تحقيق نجاحات في شرقي أفريقيا، وخصوصاً في السودان والقرن الأفريقي، حيث قامت الصين بشراء مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية في إثيوبيا، وقامت بالاستثمار والتمويل لمشروع سد النهضة الأثيوبي. وفي جيبوتي تمكنت الصين من الحصول على قاعدة عسكرية لها سنة 2017.
في الواقع، منذ قيام الصين بتأسيس منتدى التعاون الصيني الأفريقي (FOCAC)، تمكنت من التعاون مع دول أفريقية متعددة في عدد من المشروعات، بحيث نجحت في بناء أو تحديث 10 آلاف كيلومتر من السكك الحديدية، و100 ألف كيلومتر من الطرق السريعة، بالإضافة إلى ما يقرب من 100 ميناء في دول أفريقية متعددة. كما تصاعدت القروض الصينية ذات الشروط الميسرة للدول الأفريقية. وفي عام 2022 كانت الصين تمتلك 12% من ديون الدول الأفريقية.
في المقابل، ارتفع حجم التبادل التجاري بين الصين والدول الأفريقية إلى 282 مليار دولار. وتستحوذ الصين على نسبة 22% من واردات التسليح للدول الأفريقية جنوبي الصحراء الكبرى بإجمالي 2.04 مليار دولار لتأتي في المرتبة الثانية بعد روسيا، بينما تدنت نسب الصادرات الأميركية من الأسلحة إلى أفريقيا لتبلغ 5% فقط بقيمة 473 مليون دولار، ويذهب ما نسبته 60% من صادرات التسليح الصينية إلى دول تنزانيا، نيجيريا، السودان، الكاميرون وزامبيا.
بالنسبة إلى روسيا، على الرغم من أن علاقاتها الاقتصادية بأفريقيا لا يمكن مقارنتها بالصين والاتحاد الأوروبي وحتى الولايات المتحدة الأميركية، فإنها تُعَد الشريك الأكبر لأفريقيا من الناحية الأمنية عبر شركات الأمن الخاصة مثل شركة فاغنر، إضافة إلى الفيلق الأفريقي التابع للدولة الروسية. وكان لكل منهما دور أمني كبير في عدة دول أفريقية، مثل مالي، بوركينا فاسو، النيجر، تشاد، ليبيا وأفريقيا الوسطى، كما أنها المورد الأول للمعدات والأسلحة لدول القارة، حيث تستحوذ على 40% من واردات الأسلحة للقارة السمراء، بالإضافة إلى واردات الحبوب، وخصوصاً التي تقدم كمساعدات مجانية لبعض الدول الأفريقية.
وبديهي أن الروس يسعون لتغيير هذا الواقع من الناحية الاقتصادية، إلا أن الأولوية، بالنسبة إليهم حالياً، وبالنسبة إلى أمنهم القومي، هو السيطرة على أمن الطاقة وأسواقها المستهدفة كما يقول الجنرال محمود أحمدوفيتش غارييف: "الأمن بالنسبة إلى روسيا، يعني أولاً وقبل أي شيء، أمن الطاقة وأسواقها المستهدفة".
وبالتالي، توصلت روسيا إلى خطة (استراتيجية الطاقة الروسية 2030) ووضعتها محل التنفيذ بهدف ربط كل الأسواق المستهدفة روسياً بخطوط غاز طبيعي، والسيطرة عبر شركاتها على تدفقات الغاز من مصادر أخرى، لتصبح روسيا المتحكم الأكبر في هذه السوق.
في الفترة الأخيرة، تمكنت روسيا، عبر شركات الأمن الخاصة بها، من القيام ببعض التغيرات في دول الساحل الأفريقي الغربي، والتي جعلت الموازين تميل إليها على حساب الفرنسيين والأميركيين، وهو ما يهدد مشروع خط النفط النيجيري لأوروبا والمقرَّر له مساران: الأول عبر الصحراء ماراً بالنيجر ثم الجزائر، والثاني تحت مياه المحيط الأطلنطي حتى المغرب. ومن الواضح، بحسب هذه المتغيرات، أن كلا المسارين مهدَّد بكل تأكيد.
وامتدت النجاحات الروسية إلى علاقات قوية بتشاد، ساهمت في إلغاء المسؤولين التشاديين لاتفاقية التعاون الدفاعي مع فرنسا، لتمثل ضربة جديدة لبقايا النفوذ الفرنسي. وتكرر الأمر في السنغال، بحيث أبدى الرئيس السنغالي الجديد بشيرو جمعه فاي موقفاً حاداً ومتشدداً من الوجود الفرنسي ببلاده، ناهيك عن تدخل روسيا المؤثر في السودان والذي جعل الأمور تميل لمصلحة الجيش السوداني على حساب ميليشيات الدعم السريع، وهو ما منح الروس قاعدة بحرية مخصصة للدعم الفني واللوجستي في ميناء بورتسودان، تضاف إلى قاعدتها البحرية في ليبيا، الأمر الذي يعني محاولة الروس السيطرة على طرق الملاحة الناقلة للطاقة ما بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، لتطبيق استراتيجيتها سالفة الذكر.
وربما كان العمل الروسي الجاد لتحقيق هذه الاستراتيجية من أهم الأسباب، التي أدت إلى التصريحات المتشنجة التي أطلقها حلف الناتو ضد الروس مؤخراً، كما دعت الأميركيين والأوروبيين إلى اتخاذ خطوات سريعة بالفعل ضد روسيا، عبر إثارة الأوضاع السياسية في جورجيا التي أوقفت حكومة حزب الحلم الجورجي المنتخبة حديثاً والمدعومة من موسكو مفاوضاتها مع الأوروبيين للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والهجوم الإرهابي الأخير على حلب في سوريا.
وماذا عن الدور الإيراني؟ لا يمكن للدور الإيراني الدخول في منافسة مع القوى الأخرى كالولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، في الوقت الحالي، سواء من الناحيتين الاقتصادية أو العسكرية والأمنية، لكن من الواضح أن هذا الدور يدعم الدورين الصيني والروسي بكل قوة.
منذ رئاسة الرئيس الشهيد إبراهيم رئيسي، أصبحت القارة الأفريقية، وخصوصاً جانبها الشرقي، من أولويات السياسة الإيرانية بعد أن كانت مهملة إلى حد ما في عهد روحاني. ومن المتوقع أن يكون لها الأولوية خلال الفترة المقبلة. وفي هذا الإطار، بنت إيران علاقات وثيقة ببعض الدول الأفريقية كجنوب أفريقيا والجزائر وأوغندا، وفي الوقت الذي تعاني العلاقات الإيرانية بدول شمالي القارة التوترات، وخصوصاً المغرب، فإن علاقاتها بالسودان تحسنت كثيراً في الفترة الأخيرة، وهو ما يشير إلى تمكن الساسة الإيرانيين بذكاء من استخدام كل من التمدد الروسي والصيني في أفريقيا، وخصوصاً في غربي القارة، لتأسيس علاقات اقتصادية قوية بكل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر. ومن المرجح أن العلاقات الاقتصادية بين إيران والسنغال سوف تشهد تطوراً أكبر في الفترة القادمة مع تولي رئيس سنغالي جديد مُعادٍ للغرب الأوروبي، وهو ما سيمهد المجال لعلاقات أكبر مع سائر دول الغرب الأفريقي.
أما في الشرق الأفريقي، حيث تحقق السياسة الإيرانية نجاحات أكبر، فتمكن الإيرانيون من الحصول على قاعدة عسكرية في أريتريا، كما بنوا علاقات قوية بإثيوبيا. وعلى الرغم من أن إيران ليست اللاعب الوحيد في هذه المناطق، ولا الأكثر تأثيراً، فإن وجودها يدل على نجاحها في تجاوز العقبات التي أدت إلى ابتعادها عن القارة الأفريقية، خلال فترة رئاسة روحاني، حتى بلغ حجم التبادل التجاري بين إيران وأفريقيا ملياري دولار.
وتعلن إيران أنها تطمح إلى زيادة حجم التبادل التجاري مع أفريقيا إلى 12 مليار دولار خلال السنوات المقبلة، بحيث تعمل أكثر من 10 آلاف شركة إيرانية في أفريقيا في القطاعات العلمية والتكنولوجية.
إن صيغة تقسيم العمل هنا تَظهر بوضوح في التحرك الثلاثي المشترك، فوجود أي طرف من الدول الثلاث بشكل قوي في أي دولة أفريقية يعني فتح المجال لوجود الدولتين الباقيتين، وهو ما يبدو واضحاً بالنسبة إلى حالات، مثل إثيوبيا والسودان ومالي والنيجر وبوركينا فاسو، بالإضافة إلى الجزائر والسنغال.
وبغض النظر عن اختلاف بعض الأهداف بين الدول الثلاث، فإن هناك كذلك أهدافاً أخرى متفَقاً عليها، كتأمين الحصول على المواد الخام لمتطلبات الصناعة، ومحاولة السيطرة على أسواق الطاقة، ثم الهدف الأكثر أهمية، وهو مواجهة الهيمنة ا الأوروأميركية.
إذاً، من الواضح أن الثلاثي الرافض للهيمنة الأميركية يدرك تماماً مدى أهمية القارة الأفريقية في هذا الصراع الدائر، والذي بدأ يتخذ صيغاً عسكرية متصاعدة، يمكن أن تؤدي بالفعل إلى حرب عالمية متنقلة بين قارات العالم القديم ومَواطن النفوذ للمعسكرين. وهنا، فإن تمكن أي معسكر من السيطرة على الأوضاع في القارة الأفريقية يعني قدرته على حسم الاشتباك في مَواطن الصراع الأخرى.