الهدنة في غزة ونتنياهو في مواجهة السقوط
لماذا يخشى نتنياهو بوادر إنهاء الحرب؟ ولماذا هو قلق من خروج أسراه، خاصة غير العسكريين منهم؟ وكيف يتحضّر للإجابة على أسئلة هؤلاء الأسرى، فثمة رواية مختلفة تنقض كل أكاذيب نتنياهو، وهي تخرج من تحت ركام نصف مباني غزة.
بقدر ما تعكس الهدنة الإنسانية في غزة، انفراجاً، ولو نسبياً، على أهل غزة، كما على الأسرى من النساء والأشبال، وبالقدر ذاته على الجيش الإسرائيلي المأزوم رغم تقدّمه السطحي، فإن هذه الهدنة رغم هشاشتها ومحدوديتها، تمثّل خطراً مباشراً على رئيس حكومة الكيان الإسرائيلي بيبي نتنياهو.
ظهر نتنياهو وكأنه المعنيّ الأول بالهدنة، رغم إشارته لصعوبة القرار، ولكنه القرار الصائب، وقد أضاف بما يحيل لوضع كامل المسؤولية على عاتق قادة أجهزة الأمن و"الجيش" والشرطة، وهو يشير لإجماعهم على الهدنة، وهو الذي سبق أن حمّل هذه الأجهزة فشل السابع من أكتوبر.
تأتي الهدنة الإنسانية في غزة، سواء تمّ احترام تبعاتها أو تمّ التنصّل منها أو من بعضها، في واقع التنفيذ وآلياته المعقّدة، على أطلال الموت والركام في كل متر من أرض غزة وهوائها، وهي تنفث بصيص حياة وملامح أمل، وقد استثمرها نتنياهو لتعطيه مساحة إضافية في كرسي الحكم في "تل أبيب"، وهو الذي حوّلها من معركة عبور فلسطيني عصف بفرقة غزة في "الجيش الذي لا يقهر"، إلى مذبحة بحق حفل غناء في غلاف غزة الاستيطانيّ.
سيل الأكاذيب الإسرائيلية، وقد اعتلاها نتنياهو طوال شهر ونصف شهر، يصل إلى حائط صد الطوفان، وقد نجح في ابتلاع الوحشية الإسرائيلية، وإن بعد نحو خمسة عشر ألفاً من الشهداء، وقد يزيد، ليقف الجميع اليوم أم استحقاق إنسانيّ، أول المتضرّرين منه رأس الوحشية الإسرائيلية، نتنياهو، وبالعادة يكون قائد أركان "الجيش"، ولكنه اليوم هنا رئيس حكومة لم يسبق له العمل في "الجيش"، ولكنه يظهر نفسه كجنرال وفيلسوف ومؤرّخ، في وقت يقف فيه عاجزاً أمام حقائق السابع من أكتوبر وتحويل المعركة إلى مذبحة.
خروج الأسرى الإسرائيليين من النساء والصبية، محطة أولى من جَلد ظهر نتنياهو، في وقت يُفترض فيه أن يكون هذا الخروج إنجازاً في سجله، لو جاء في سياقه الطبيعي أو التاريخي المعهود إسرائيلياً، ولكن رأس الكيان العبري اليوم ليس الجنرال المتوحّش شارون صاحب ثغرة الدفرسوار في مواجهة عبور أكتوبر المصري، ولا هو بيغن وعصابات الأرجون، ولا المؤسس الاشتراكي التلمودي بن غوريون، ولا حتى الجنرال رابين وقد سفك دمه طيش الصهيونية الدينية التي يختبئ خلفها نتنياهو اليوم، أمام استحقاق حقائق السابع من أكتوبر، مع الهدنة في انفراجاتها الإنسانية الأولى، ولكنها تتلبّد في المخاطر على مستقبل نتنياهو كرئيس حكومة.
لماذا يخشى نتنياهو بوادر إنهاء الحرب؟ ولماذا هو قلق من خروج أسراه، خاصة غير العسكريين منهم؟ وكيف يتحضّر للإجابة على أسئلة هؤلاء الأسرى، فثمة رواية مختلفة تنقض كل أكاذيب نتنياهو، وهي تخرج من تحت ركام نصف مباني غزة وقد انهارت فوقهم كما فوق أطفال غزة وشعبها العصيّ على التطويع.
نهاية الحرب، أو بوادر هذا الإنهاء، وقد جهد نتنياهو ليؤكد نقيضها وهو يوقّع على أول هدنة فيها، وإن لأيام معدودة، تضع نتنياهو في مواجهة سؤال الفشل السياسي على المستوى الاستراتيجي قبيل السابع من أكتوبر، وهو يؤكد صبح مساء عمق الردع الإسرائيلي في بنية حماس التكوينية.
هي هدنة إنسانية، ولكن في أحشاء صبحها بعض إجابة على إشارات فاحت من وحي الصحافة الإسرائيلية المكتوبة، مع تقارير للشرطة الإسرائيلية ذاتها وليس غيرها، كيف تمّ بالفعل قصف الحفل الغنائي الإسرائيلي، في وقت ثبت فيه أن رجال غزة دخلوا بيوتاً للمستوطنين ولم يزهقوا دماً عندما وجدوا نسوة وأطفالاً.
ماذا سيقول هؤلاء الأسرى بعد خروجهم؟ وقد رأينا من خرج منهم، كيف وصف "الإرهابيين الفلسطينيين" الذين ذبحوا أربعين رضيعاً، بحسب دعاية نتنياهو وحماقة بايدن، فإذا بهم يتحدّثون عن الرعب تحت القصف الهمجي الإسرائيلي، فيما كانت يد المقاومة الحانية تعالج جراحهم وتسد رمقة جوعهم، في وقت يتعرّض فيه الأسرى الفلسطينيون لشتى صنوف التعذيب الجسدي والنفسي غير المسبوق منذ نشأة هذا الكيان.
رواية الأسير الإسرائيلي كما رواية الأسير الفلسطيني، ربما ولأول مرة لن يجد العالم فرقاً بين رواية الأسيرة الفلسطينية عطاف جرادات، غداة تحرّرها القادم بالعز والفخار، وبين رواية الأسيرة الإسرائيلية ليئور ميمون، غداة خروجها من بين ركام غزة وجثث الأطفال المتفحمة، وربما تكون رواية الصبي الإسرائيلي يجيل يعقوب ذاته، تتطابق مع أحمد مناصرة الذي دخل الأسر الإسرائيلي وهو بعمر يجيل هذا، وكانت تهمته الوحيدة أنه "مش متذكّر"، فانتزعوا من صميم فؤاده كل الذكريات وقد أصبح في الأسر رجلاً نزيل زنزانة إسرائيلية انفرادية.
كيف يكون حال نتنياهو وطغمته اليمينية المتوحّشة، وكلّ فضائيات العالم تبثّ بالمباشر، ما يدحض أكاذيبه، ولا يكون ثمة فرق بين أسيرة إسرائيلية تتحدّث عن رعب القصف الإسرائيلي وهو يطاردها بين يدي آسرين "إرهابيين" يحرصون على حياتها، فيعالجونها ويطعمونها، فيما الأسيرة الفلسطينية تصف فظائع التعذيب الإسرائيلي الساديّ، وقد بلغ ذروته منذ السابع من أكتوبر، حتى خلّف عدداً غير مسبوق من الشهداء الأسرى، وقد تمّت تصفيتهم بضرب رؤوسهم بالحائط بتهمة رفض تقبيل العلم الإسرائيلي، ومنع العلاج عنهم.
ليلفظ ثائر وعبد الرحمن وعمر وماجد وعرفات، أنفاسهم الزكية خلف قضبان الأسر والقهر، تحت تعذيب مبرمج يتعرّض له كل الأسرى الفلسطينيين بلا فرق بين مريض أو كبير في السن، ولا بين فتاة وشبل، ولا بين حماس وفتح، وبطبيعة الحال لا فرق بين جهاد وجبهة، فكلّ فلسطيني متهم أنه فرح بمعركة السابع من أكتوبر، وهو يجد ذاته العصية تلاطم مخرز المحتل فلا تكون مجرد ضحية مع التأبيد.