النزوح في لبنان: خطّة لبنانية-سورية لتفكيك هذا "الملفّ الدّولي"
بعد سنوات قليلة فقط، وبعد صمود الدولة السورية وجيشها وحلفائها وإفشالهم للخطة الخارجيّة، بدأ ملفّ النزوح السوريّ في لبنان يأخذ حجمه الطبيعي والمنطق.
لم يكن موضوع النزوح السوريّ إلى لبنان تحديداً، أمراً مرتبطاً بويلات الحرب فقط، وبالهروب من آثارها الكارثية في المجتمع والدولة، بل هناك منذ اللحظة الأولى لانطلاق الحدث السوري المدمّر، مَنْ أراد استخدام شريحة عريضة من المواطنين السوريين كسلاح جديد يُشهر في وجه الدولة السورية، كما في وجه المقاومة والقوى الوطنية في لبنان. فحملات الترغيب وحفلات الاستقبال التي نُظّمت على المعابر الحدودية بين البلدين في وقت مبكر من العام 2011، وبلغت ذروتها في العامين اللاحقين، كانت أشبه بفيلمٍ هوليووديّ لا يُصدّق، إذ لم يكن أكثر السوريين سذاجةً يتخيّل حتى وقت قريب من ذلك الحين، أنْ يرى قيادات من قوى 14 آذار اللبنانية، واقفة على الحدود والمعابر الشرعيّة وغير الشرعيّة، تستقبله بالأحضان، وبكلّ ما يمكن حمله من الأموال والمساعدات، تلك القوى ذاتها التي كانت قبل سنوات قليلة فقط، تحرّض على كلّ سوريّ في ساحات بيروت وعلى شاشات التلفزة، باعتباره العدوّ الأول.
وكما في تركيا، كذلك في لبنان وضمن الخطّة الاستخباريّة الأميركية -البريطانية ذاتها، استجابت شرائح واسعة من الخائفين من الحرب، والمعارضين المتطرفين للسلطة السياسية في البلاد، والهاربين من أحكام قضائية، والمطلوبين للخدمة العسكريّة، فضلاً عن متصيّدي الفرص، وتدفّق هؤلاء عبر الحدود نحو المخيّمات التي لا تقي حرّ الصيف ولا برد الشتاء، والتي أُعدّت لهم مسبقاً، على أنْ تتحوّل تلك المخيّمات إلى قواعد لانطلاق المقاتلين باتّجاه الأراضي السورية لـ"إسقاط النظام" الذي "سيسقط لا محالة خلال أسابيع أو أشهر قليلة" كما جزمت الوعود الدولية والإقليميّة الكثيرة.
لكنّ الأمور لم تجر على هذا النحو أبداً، بالرغم من تدفّق الأسلحة والأموال من كل حدب وصوب، وبالرغم من إطلاق أيدي هؤلاء المقاتلين المتطرّفين تحت حماية سياسية دولية ومن بعض القوى المحلية اللبنانية، والسماح لهم بالسيطرة على مناطق وقرى وبلدات لبنانية متاخمة للأراضي السوريّة واحتلالها وفرض قوة الأمر الواقع فيها، الأمر الذي شكّل خطورة بالغة على الدولة والمجتمع والجغرافيا في لبنان، وخصوصاً على المقاومة الإسلامية (حزب الله) التي كانت الخطة المعادية تشملها بشكل رئيسي، ما أدّى إلى حدوث "معركة الجرود" التي خاضتها المقاومة والجيشان اللبنانيّ والسوريّ على طرفيّ الحدود، وذلك بعد إعمال تلك الكتائب والسرايا المتطرفة سكاكينها وخناجرها في رقاب العسكريين وأفراد قوى الأمن الدّاخليّ اللبنانيّ.
بعد سنوات قليلة فقط، وبعد صمود الدولة السورية وجيشها وحلفائها وإفشالهم للخطة الخارجيّة، بدأ ملفّ النزوح السوريّ في لبنان يأخذ حجمه الطبيعي والمنطقي، فملايين السوريين باتوا جزءاً من تركيبةٍ اجتماعية واقتصادية لبلدٍ يكاد لا يتّسع لأهله، ولا تلبّي موارده القليلة أدنى احتياجاتهم، لتبدأ أصوات القوى الوطنية اللبنانية بالارتفاع طلباً لحلّ جذريّ لهذا الملفّ الخانق، والتنسيق مع الدولة السوريّة لتسهيل عودة هؤلاء، الأمر الذي لاقى رفضاً تامّاً من القوى الدولية التي تقبض على هذا الملف برمّته وتستخدمه وفق أجنداتها.
وبالرغم من إعلان الدولة السورية انفتاحها التام واستعدادها لاستقبال كلّ مواطن سوريّ راغب بالعودة إلى بلاده، من لبنان أو غيره من بلدان النزوح، كان الأمر أصعب بكثير من أيّ حلّ واقعيّ، خصوصاً مع تدفق تقارير المنظمات الدولية و"الإنسانيّة" التي افترضت بأنّ النازحين سيلقون معاملة سيئة، بل إنّ بعض تلك المنظمات ذهب إلى حدّ الادّعاء بأنّ هؤلاء سيلقون مصيراً أسود حال عودتهم، على الرغم من حدوث بعض تجارب العودة منذ العام 2017، إذ بلغت أعداد العائدين من لبنان بشكل طوعيّ ووفق الخطة اللبنانية- السوريّة، منذ ذلك الحين ولغاية الإغلاق العام بسبب جائحة كورونا في العام 2020، 540 ألف نازح، وقد أكّدت جميع الهيئات المحلية في سوريا ولبنان نجاح تلك التجربة، وقدرة الدولة السورية على استيعاب هؤلاء من دون مشكلات تُذكر، خصوصاً بعد توالي مراسيم العفو العام والشامل التي أصدرها الرئيس السوري بشار الأسد بشكل دوريّ خلال السنوات الأخيرة.
وبعد أنْ تطوّر المشروع الغربيّ الخاصّ بلبنان ومحور المقاومة، ليبلغ مرحلة حصار المقاومة وعهد الرئيس ميشال عون في لبنان، وإدخال البلاد عن سابق قصد وإصرار في ضائقة اقتصادية غير مسبوقة منذ عقود، ثقلت وطأة النازحين الذين تجاوزت أعدادهم عتبة المليونيّ شخص، حتى بلغ لبنان مرحلة الاختناق التام. لكنّ كلّ هذا، ولكونه جزءاً من المشروع والخطة الغربية، لم يدفع منظمةً "إنسانية" واحدة، ناهيك بـ "المجتمع الدوليّ" والولايات المتحدة التي تمسك بالملف، إلى الحديث عن وجوب إيجاد حلول قبل أنْ يحدث الانهيار فوق رؤوس الجميع، بل إنّ تلك المنظمات والقوى المحليّة اللبنانية التي استفادت كثيراً من هذا الملف ونهبت الأموال الطائلة من تجارتها بالنازحين، دفعت باتّجاه تسعير العنصريّة ضد هؤلاء باعتبارهم "سبباً لكل مشكلات لبنان"، وذلك عن طريق إظهار النازح السوريّ بصورة من يقبض بالعملة الصعبة لكونه نازحاً فقط، بينما يعاني المواطن اللبنانيّ الأمرّين لتأمين مستلزمات معيشته، والتقليل بالمقابل من وطأة المشكلات الاجتماعية الكثيرة والخطرة التي كان المقاتلون المتطرفون العائدون من هزيمة ثقيلة على جبهات القتال، سبباً فيها، الأمر الذي حوّل النازح السوريّ الفقير، إلى خصمٍ للمواطن اللبناني الفقير، أو الذي جرى العمل على تفقيره بالقوة بهدف "تثويره" في وجه القوى الوحيدة التي دافعت عن وجوده وحمته من خطر المشروع الغربيّ الذي هدفَ إلى إدخال لبنان في فوضى عارمة تجهد فيها المقاومة في الدفاع عن نفسها وعن وجودها في الداخل، لا على الحدود.
بل إنّ أحد الأسباب المباشرَة والمستعجلة التي دفعت بالولايات المتحدة الأميركية، إلى الذهاب حدّ إقرار عقوبات فرديّة على الوزير والنائب جبران باسيل، هو أنّ الرجل صرّح بقراره الذهاب إلى دمشق قريباً للتحاور والتنسيق مع الدولة السوريّة لإنهاء ملفّ النازحين وإعادتهم إلى بلادهم.
وبالرغم من كلّ ما سبق، فإنّ تحريك هذا الملف الآن، والدفع نحو الشروع في حلّه من قبل القوى الوطنية اللبنانية، وبدء تحريك قوافل عودة النازحين باتّجاه الداخل السوريّ اعتباراً من يوم الأربعاء 26 تشرين الأول\أكتوبر، لا يرتبط مباشرةً بالضغط الذي يُحدثه هذا الملف في الداخل اللبنانيّ، أو لم يأت نتيجةً له، بل هو إحدى خلاصات معادلات القوة التي فرضتها إنجازات المقاومة وصمود العهد في لبنان، كما فرضها انتصار الدولة السوريّة، ولعلّ الأسباب الأساسية التي جعلت الولايات المتحدة ترضخ في هذا الملفّ وتُجبَر على التنازل أمام قرار القوى الوطنية اللبنانية، تكمن في "كاريش" و"قانا" والفضاء البحريّ التي عبرته مسيّرات المقاومة، لا في أيّ مكان آخر.
وبالرغم من أنّ أيّ معلومات مؤكّدة لم تُكشف بعد، فإن جميع المعطيات تؤدّي إلى حقيقة انتزاع المقاومة والعهد في لبنان هذا الرضوخ بالقوة خلال محادثات الترسيم البحري، التي حاولت الولايات المتحدة إنجازها بأكبر مكاسب أميركية "إسرائيلية" ممكنة، وأنهاها لبنان المقاومة بتحقيق مصالحه الوطنية التي لا تقبل التفريط أو التهاون. وبالتالي، فإنّ المؤتمر الصحفيّ الذي عقده المدير العام للأمن العام اللبناني، اللواء عباس إبراهيم، يوم الثلاثاء 25 تشرين الأول / أكتوبر، والذي أعلن فيه بدء تنفيذ خطّة إعادة النازحين إلى سوريا، كان إعلاناً رسميّاً آخر عن فشل المشروع الأميركيّ في لبنان، ودخول البلاد مرحلة تحقيق المصالح الوطنية بالقوة.
تطرّق اللواء عباس إبراهيم في مؤتمره الصحفيّ إلى كلّ الأسباب التي دفعت لبنان إلى اتّخاذ قرار تنفيذ خطّته تلك، كما تحدّث بوضوح عن الأطراف التي تعطّل هذا المسعى وتدفع باتّجاه إبقاء الملف قائماً ولو على حساب المواطن والدولة في لبنان. وكان لافتاً توجيه إبراهيم أصابع الاتّهام إلى "المنظمات الإنسانية" التي تخلّت عن كل إنسانيتها على حساب فقراء لبنان وسوريا معاً، وعلى حساب مصالح الدولتين، مقابل الفوائد العظيمة التي تحقّقها على ظهورهم.
كما كان واضحاً أنّ اللواء إبراهيم ينطلق من خطّة مرسومة بعناية كي تحقّق حلّاً نهائيّاً لهذا الملف، وإنْ كان هذا الحلّ سيأخذ وقتاً طويلاً، بسبب المعوقات التي تواجهه، والتي يتجلّى أبرزها في الترهيب والتخويف وادّعاءات الحرص على مصائر هؤلاء. لكنّ القرار كما بدا من حديث المدير العام للأمن العام، قد اتّخذ ولا رجعة عنه، وأنّ لبنان "لن يخضع لأيّ ضغوط بعد الآن، لأنّ مصلحته فوق كل اعتبار" على حدّ قوله.
وعلى الأرض، جهّزت الدولة السورية بالتنسيق مع الأمن العام اللبناني، كلّ مستلزمات استقبال النازحين على معابر "المصنع" و"الزمراني" و"العبّوديّة"، وأعلنت للجانب اللبناني استعدادها لحلّ كل المشكلات القانونية المرتبطة بالنازحين عند نقطة الحدود وقبل دخولهم إلى البلاد، بدءاً من إعفاء هؤلاء من الرسوم الجمركية والضرائب، وتسجيل مواليدهم مباشرةً، وإعطاء المطلوبين للخدمة العسكرية مهلة ستة أشهر للالتحاق بالجيش، وإسقاط الملاحقات الأمنية أو القضائية الخاصة ببعضهم، بما يشمله قانون العفو السوري العام الذي أصدره الرئيس الأسد في نيسان/أبريل الماضي.
وصحيح أنّ تهديدات "المنظمات" التي كثّفت نشاطها داخل المخيمات وفي الإعلام طوال الأيام الأخيرة، قد دفعت بالآلاف من الراغبين في العودة والذين كانوا قد سجّلوا أسماءهم في قوائم الأمن العام، إلى التراجع عن قرارهم وتفضيلهم البقاء في مخيّمات لبنان، الأمر الذي خفّض العدد إلى 751 عائداً في هذه الدفعة، إلّا أنّ بدء تنفيذ الخطّة بحدّ ذاته، وما سيرتبط به من تداعيات على الأرض داخل سوريا، لجهة التسهيلات السورية المعلنة بشكل واضح، ومساعي الدولة الحثيثة في تأمين كل مستلزمات السكن والتعليم والطبابة وغيرها من الخدمات التي يتلقاها المواطن السوري في بلاده، سوف تُشكّل دافعاً قويّاً لاتّخاذ أعداد جديدة من النازحين قرار العودة الطوعية إلى بلادهم.
ومن المؤكّد، بحسب المعلومات المرتبطة بهذا الملف داخل سوريا، وتصريحات المسؤولين السوريين واللبنانيين، وما أوضحه اللواء عباس إبراهيم بشأن كلّ ما يخصّ هذه الخطة وتقنيات إنجاحها على الجانبين، أنّ قراراً سوريّاً -لبنانيّاً قد اتّخذ بالذهاب بعيداً على هذا الصعيد، والقيام بكل ما يمكن فعله لسحب هذا الملف الضاغط من أيدي القوى الدولية ومنظّماتها التي فعلت، وما تزال، المستحيل لأجل إبقائه كسلاح مُشرَع في وجه سوريا ولبنان معاً.