النزوح السوري في لبنان: ملاحظات ومفارقات
الفريق الذي شيطن اللجوء الفلسطيني إلى لبنان وقاده إلى الحرب الأهلية يساهم اليوم من خلال أدائه المريب تجاه قضية النزوح السوري في إيصال البلد إلى أزمة وجودية من خلال معاداة الدولة السورية.
لا شك في أن قضية النازحين السوريين في لبنان تشكل أزمة كبيرة تصل إلى حد كونها وجودية. وقد كثرت في الفترة الأخيرة التصريحات المحذرة من تداعيات هذا الملف على لسان أكثر من مسؤول، وذلك بالتوازي مع حدوث موجات نزوح جديدة، وبأعداد كبيرة.
قائد الجيش اللبناني جوزيف عون كان أبرز المتحدثين عن مخاطر ما يجري. خلال مشاركته في جلسة وزارية تشاورية حول مستجدات النزوح السوري، كشف عون أن آلاف السوريين من الفئة العمرية الشبابية يدخلون إلى لبنان بشكل مستجد، وحذر من أن "التهريب عبر الحدود بات تهديداً وجودياً".
بدوره، وجه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، حذر فيها من أن الوضع الصعب الذي يواجهه لبنان على صعيد النزوح السوري يقتضي مقاربة مختلفة، وكرر تحذيره من منبر الأمم المتحدة من انعكاسات النزوح السلبية التي تعمق أزمات لبنان، "والتي يمكن أن تتفاقم تداعياتها بشكل يخرج عن نطاق السيطرة".
على عكس ما هو سائد في لبنان، يبدو أن اللبنانيين متفقون على توصيف القضية، إلا أن الأمور لا تخلو من المفارقات والدلالات، ما يستدعي تسجيل بعض الملاحظات:
أولاً: تتخذ قضية النزوح السوري في لبنان بعداً ديموغرافياً، فالبلد المتعدد طائفياً شديد الحساسية تجاه أعداد طوائفه. الديموغرافيا كانت حاضرة بقوة عند تأسيس دولة لبنان الكبير. عام 1921، بيّن الإحصاء الفرنسي للميقيمين أن نسبة الطوائف المسيحية تبلغ 52% في الكيان الجديد. وعندما انخفض عدد المسيحيين بسبب الهجرة، جاءت الهجرة الأرمنية لتعيد بعض التوازن.
وعام 1932، أجرت سلطات الانتداب إحصاء آخر، كان الأخير في لبنان، أظهر أغلبية مسيحية ضئيلة هي 51,2 في مقابل 48,8% للمسلمين. منذ ذلك الوقت، توقف إحصاء اللبنانيين حتى لا تعطي أي نتيجة مختلفة ومتوقعة المبرر لتعديلات تتناسب مع التوزيع الديموغرافي الجديد للطوائف اللبنانية، وخصوصاً أن الجميع يدركون أن الفرنسيين اتخذوا من إحصاءَي 1919 و1932 مبرراً لمنح اليد العليا في الدولة للمسيحيين.
وقد جاءت سنوات تسعينيات القرن الماضي لتزيد الأوضاع تفاقماً، ما دفع جريدة النهار إلى إصدار عدد خاص عام 1998 بعنوان ذي دلالة: "أوقفوا هجرة مسيحيي الشرق".
انطلاقاً من هذه المعطيات، ينظر المسيحيون إلى التوزيع الديموغرافي في لبنان كقنبلة موقوتة كفيلة من وجهة نظرهم بتهديد الصيغة اللبنانية. من هنا، تأتي حساسية قضية النازحين السوريين، كما قضية اللاجئين الفلسطينيين، فبقاؤهم في لبنان سيشكل ضربة قاضية عددياً للمسيحيين.
ثانياً: المفارقة التي تفرض نفسها لدى أي مراقب ومتابع للشأن اللبناني هي أن الفريق الذي شيطن اللجوء الفلسطيني منذ ستينيات القرن الماضي هو نفسه الذي شجع النزوح السوري. هذا الفريق حرض على الفلسطينيين، ونعتهم بالغرباء، واعتبر أن وجودهم في لبنان من أبرز أسباب الحرب الأهلية، ومارس كل أنواع التضييق عليهم، ورضي ببقائهم في مخيماتهم دون الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة.
كذلك، رفض تقديم أي تسهيلات إنسانية لهم، وتحالف مع المشروع الدولي الذي أراد شطب حق العودة، وقاتل كتفاً إلى كتف مع الإسرائيليين لضرب مقاومة الشعب الفلسطيني وتصفية سلاحه المقاوم، ولا يزال حتى اليوم مستعداً للتورط بنزع سلاح الفصائل الفلسطينية المقاومة تحت عناوين متعددة، من دون أن يولي أي اعتبار للحقوق الفلسطينية، وعلى رأسها حق العودة.
هذه القوى السياسية التي تعاملت مع قضية اللجوء الفلسطيني بهذا المستوى من العداء هي نفسها التي كانت شريكة في تشجيع النزوح السوري، وساهمت في فتح الحدود لاستقبال أعداد كبيرة من السوريين المعارضين للنظام، وصولاً إلى حد تقديم الحماية والدعم والعون للتنظيمات الإرهابية.
لا تزال مشاهد المؤتمرات الصحافية الشهيرة في بلدة عرسال الحدودية حاضرة. عملت هذه القوى على تغطية النزوح السوري، وسكتت عن هجمات الإرهابيين على الجيش اللبناني واختطاف جنوده وقتلهم، ووصلت الأمور إلى حدود تعطيل أي قرار سياسي في مجلس الوزراء يدعم الجيش اللبناني ويطلب منه بسط سيادته على الأراضي التي احتلها الإرهابيون التكفيريون وإنقاذ الجنود المخطوفين.
ثالثاً: لم تتوقف الأمور عند هذا الحد، واتخذت بعداً جديداً مع اندلاع أحداث 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019. أطلق هؤلاء العنان لشعاراتهم المعروفة، ورفعوا الصوت مرددين: "نازحين جوا جوا"، وعملوا مع المنظمات غير الحكومية (NGOS) على تقديم كل الدعم المالي الذي يشكل العامل الأساسي الذي يدفع النازح السوري إلى البقاء وعدم العودة إلى دياره.
رابعاً: لا يزال هذا الفريق يعادي النظام السوري ويعرقل ويرفض أي تواصل رسمي مع الحكومة السورية من أجل متابعة ومعالجة موضوع النزوح الذي لا يمكن أن يوضع على سكة الحل من دون التنسيق بين حكومتي البلدين.
هذا الفريق الذي شيطن اللجوء الفلسطيني إلى لبنان وقاده إلى الحرب الأهلية يساهم اليوم من خلال أدائه المريب تجاه قضية النزوح السوري في إيصال البلد إلى أزمة وجودية من خلال معاداة الدولة السورية والانخراط في المشروع الدولي المستهدف لاستقرارها ووحدة أراضيها وقدراتها الاقتصادية.
والأغرب أن هؤلاء يتحدثون عن السيادة والاستقلال في حين أنهم يحولون الوطن الصغير إلى ساحة مفتوحة للتدخلات الخارجية ولمشاريع ضرب استقرار الإقليم والمنطقة خدمة لمشروع الهيمنة الأميركية.
هذا الأداء الذي يمارسه نمط من السياسيين وصفهم الإمام موسى الصدر يوماً بأنهم "بلا قلب"، ويتعاملون بخفة مع القضايا الوطنية، ويحددون مواقفهم انطلاقاً من مصالحهم الذاتية والطائفية أو تلبية لأوامر وتعليمات غرف السفارات السوداء، يضع لبنان باستمرار على خط الأزمات الوجودية المتلاحقة.