النزاع الصومالي الإثيوبي والمؤثّرات الخارجية
يقول تاريخ العلاقة بين الصومال وإثيوبيا إنّ ما يحدث الآن من نزاع تجدّد ليس إلا انعكاساً للتاريخ القديم والحديث الذي سجّلت مضابطه حقباً من التدافع بين البلدين الجارين.
تشهد الأوضاع في القرن الأفريقي حالة من التوتر المتصاعدة منذ أن ألقى رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، خطابه أمام برلمان بلاده في تشرين الثاني/نوفمبر 2023ـ، عندما قال "إنّ حصول إثيوبيا على منفذ بحري بات مسألة حياة أو موت، وإنه حان الوقت لمناقشة الموضوع علناً من دون مواربة، وإنّ البحر الأحمر ونهر النيل هما ثنائيان يحدّدان مصير إثيوبيا، وأساس تنميتها أو تدميرها".
وازدادت حدّة التوتر في الإقليم عامّة، وبين الصومال وإثيوبيا خاصة، بعد توقيع مذكّرة التفاهم مطلع هذا العام بين إثيوبيا وأرض الصومال "صوماليلاند"، التي تُمكّن الأولى من إقامة ميناء تجاري وعسكري في الساحل الصومالي.
يقول تاريخ العلاقة بين الجارتين الصومال وإثيوبيا إنّ ما يحدث الآن من نزاع تجدّد ليس إلا انعكاساً للتاريخ القديم والحديث، الذي سجّلت مضابطه حقباً من التدافع بين البلدين. ففي القرن السادس عشر نشبت الحرب "العدلية الحبشية" التي تمكّنت "سلطنة عدل" الصومالية خلالها من بسط نفوذها وسلطانها على ثلاثة أرباع أراضي "الإمبراطورية الحبشية" قبل أن يُطلَق عليها اسم إثيوبيا في القرن العشرين.
وفي القرن التاسع عشر، غزا الملك الإثيوبي، منليك الثاني، أنحاء من الصومال وسيطر على إقليم أوغادين. واستمرّت الحروب والغزوات في القرنين العشرين والحادي والعشرين بين الصومال وإثيوبيا، حيث نشبت حرب الحدود في عام 1964، وحرب أوغادين بين عامي 1977 و1978، وحرب آب/أغسطس 1982، ثم الحرب التي استمرّت مدة عامين بين 1998-2000، تلاها ما عرف باسم "الغزو الإثيوبي" الذي امتدّ من 2006-2009.
في كلّ تلك الحروب والغزوات كانت الأطماع التوسّعية والأجندة الخارجية حاضرة، حيث وقفت تركيا إلى جانب الصومال في الفترة العثمانية الأولى، ووقفت بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية وغيرها إلى جانب إثيوبيا في الماضي والحاضر. فالزمن لم يُغيّر الأطماع ولم يُبدّل الأجندة، وها هي طبول الحرب تدقّ من جديد، وهي تستلف معطيات التاريخ وتمضي نحو المحظور بدفع "كولنيالي" ظاهر ومستتر.
تحفّز وحراك دبلوماسي صومالي
رأى الصومال أنّ الخطوة التي اتخذتها إثيوبيا مع "أرض الصومال" تمثّل تهديداً مباشراً لوحدة أراضيه، وتنتهك سيادته وتهدّد أمنه القومي، وأنها جاءت في وقت رعى فيه رئيس جيبوتي، إسماعيل جيلي، حواراً بين الدولة الأم و"صوماليلاند" لتحقيق وحدة الأراضي الصومالية ووحدة كيان الدولة.
وقالت الحكومة الصومالية على لسان، ألكسيس محمد، مستشار الرئيس الصومالي إنّ "سلامة أراضيها بحراً وبراً ليست موضع نقاش مع أيّ طرف لا اليوم ولا غداً".
على إثر ذلك، بذلت الدبلوماسية الصومالية جهوداً واسعة، نتج عنها حصول الصومال على دعم الجامعة العربية، ودعم مصري كبير بعد المحادثة الهاتفية التي جرت بين رئيسي الدولتين التي تُوِّجت بقمة جمعتهما، أثمرت توقيع اتفاقية دفاع مشترك.
وبموجب هذه الاتفاقية شرعت مصر في تقديم مساعدات عسكرية للجيش الصومالي، ودفعت بطلائع قوات من جيشها إلى الصومال سيبلغ عددها 10 آلاف جندي ضمن قوة حفظ السلام الجديدة في الصومال، عندما تنتهي ولاية بعثة الاتحاد الأفريقي إلى الصومال "أتميس" الحالية في نهاية هذا العام، والتي رفضت الحكومة الصومالية استمرار مشاركة قوات إثيوبية فيها.
لقد سبق تفاهم الصومال مع مصر، تفاهماً مع تركيا، حيث وقّع البلدان اتفاقية للتعاون الدفاعي والاقتصادي مدتها 10 سنوات، وستعزّز هذه الاتفاقية وجود تركيا ونفوذها في الصومال والمنطقة.
وسيدعم هذا الاتفاق الوجود العسكري التركي، الذي تجسّده قاعدة عسكرية أُنشئت في 2017، وبموجبه ستعزّز أنقرة قدراتها بوصول قوات من الجيش التركي في غضون أسابيع. علماً أنّ تركيا ترتبط بعلاقات وثيقة مع طرفي الأزمة، ورعت مباحثات بينهما من أجل إيجاد تسوية تجنّب المنطقة شرور الحرب.
دعم إرتري للصومال
عبّرت إرتريا، التي ساءت علاقاتها بإثيوبيا مؤخّراً، عن رفضها لكلّ ما يهدّد وحدة الصومال وينال من سيادته. ودانت وزارة إعلامها خطاب رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، وعبّرت عن رفضها للمشروع التوسّعي الإثيوبي في الساحل الصومالي.
كما أكدت إرتريا حرصها على سيادتها على أراضيها في ردّ شبه مباشر على أطماع إثيوبيا في الموانئ الإرترية، فيما جدّد وزير خارجيتها، عثمان صالح، موقف بلاده الرافض لمنح جيبوتي إثيوبيا ميناءً على البحر الأحمر، وقاعدة عسكرية بحرية فيه.
حراك إثيوبي
منذ أن أعلنت إثيوبيا عن ضرورة امتلاكها نافذة بحرية في نهاية العام الماضي، بذلت أجهزة الدولة جهوداً واسعة من أجل تعزيز علاقات بلادها مع عدد من الدول، وكان ثمار هذا الحراك توقيع عدة اتفاقيات، بينها اتفاقية التعاون العسكري والأمني مع جيبوتي، واتفاقيات مماثلة مع كلّ من أوغندا، وكينيا، والمملكة المغربية.
وفي ظلّ هذه الأزمة، تتعزّز العلاقات بين إثيوبيا ودولة الإمارات العربية، التي بلغت مبلغاً متقدّماً تعبّر عنه العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية. وهنا تجدر الإشارة إلى محطات مهمة في التاريخ القريب لهذه العلاقة، أولها مساهمة الإمارات في تمويل "سدّ النهضة"، وثانيها التوسّع في استثماراتها داخل إثيوبيا، وثالثها التعاون العسكري الذي تأسس على اتفاق تعاون مبرم مع أديس أبابا عام 2019.
وقد تجلّى هذا التعاون في:
- المناورة العسكرية المشتركة التي انطلقت من قاعدة عسكرية إثيوبية في 16 كانون الأول/ديسمبر 2023.
- الدعم العسكري الإماراتي لإثيوبيا المستمرّ منذ عام 2020 وحتى الآن، المتمثّل في تمليك الجيش الإثيوبي مركبات مدرّعة من طراز Callidus MCAV-2 وشحنات ضخمة من قنابل "الطارق" المتطوّرة، وأنظمة متقدّمة في توجيه القنابل، وتحديث منظومة الدفاع الجوي الذي تحمي به إثيوبيا سدّ النهضة.
- تقديم دعم مالي لإثيوبيا قدره 3 مليارات دولار في عام 2018.
طبيعة المسعى الجيبوتي للتهدئة
من جانبها سعت جيبوتي التي ترتبط بعلاقات جيدة مع إثيوبيا إلى تهدئة الأوضاع، وعملت على تجنّب التصعيد الذي قد يفضي إلى حرب، فبادرت إلى تقديم عرض لإثيوبيا لإدارة ميناء "تاجورة" في الساحل الشمالي لجيبوتي يمكّنها من الوصول مباشرة إلى خليج عدن، مع وعد جيبوتي بتمكين إثيوبيا من بسط سيادتها الكاملة على الميناء.
وجاء هذا العرض ليعضّد التعاون الجيبوتي-الإثيوبي ولا سيما في مجال الموانئ، إذ توفّر جيبوتي منذ سنوات فرصة لإثيوبيا تمكّنها من استقبال 95% من وارداتها، وهي الآن تعرض حلّاً للأزمة الصومالية الإثيوبية على حساب سيادتها وسلامة ترابها، وهو عرض يخاطب الادّعاء الإثيوبي ويتماهى مع الموقف الغربي بصفة عامة والموقف الفرنسي بصفة خاصة. ففرنسا المحتلّ السابق لجيبوتي لا تزال تحتفظ بنفوذ كبير في هذه الدولة العربية الواقعة في القرن الأفريقي.
وترتبط فرنسا، في الوقت عينه، بعلاقات وثيقة مع إثيوبيا وشجّعتها على إحياء فكرة "التوسّع نحو البحر" وإعادة بناء الأسطول البحري الإثيوبي. وظلّت باريس ترعى هذا المشروع من خلال اتفاقية التعاون العسكري المبرمة بين البلدين.
بريطانيا على خط الأزمة
بريطانيا التي يُعرّفها مجلس الأمن بماسكة قلم السودان في الأمم المتحدة، هي في الحقيقة لا تمسك فقط بذلك القلم، إنما تمسك بقلم المخطط الغربي ـــــ الصهيوني في القارة الأفريقية، فهي من تبتدر الخطط والمشروعات الخاصة بهذا الحلف في أجزاء واسعة من هذه القارة لأنها صاحبة سبق كولنيالي فيها أكسبها معرفة وتجربة مهمة إذا ما قيست بمعرفة أميركا و"إسرائيل".
لم تجهر بريطانيا بموقف من الأزمة الإثيوبية الصومالية، مثلها مثل بقية حلفائها في المنظومة الغربية، بيد أنّ سفيرها في مقديشو عبّر من خلال منشور له على منصة "إكس" عن موقف بلاده من وحدة الصومال، حين أشاد بجهود منظّمة بريطانية تعمل في الصومال، قال فيه: "إنّ المملكة المتحدة تفتخر بدعم العمل الرائع الذي تقوم به منظّمة "هالو تراست" في الصومال وأرض الصومال". وقد أثار ذلك حفيظة الدولة الصومالية التي قالت إن التصريح يمسّ بوحدة أراضيها ويحمل اعترافاً ضمنياً بالمشروع الانفصالي في أرض الصومال، وانتقد وزير الخارجية الصومالي، أحمد معلم فقي، سفير بريطانيا لدى الصومال، مايك نيثافرياناكيس، وقال: "إن تصريحات السفير تمثّل هجوماً صارخاً على سيادة الصومال ووحدته".
خلاصة
تعاني إثيوبيا من أزمات داخلية كبيرة، وتحديات عظيمة تهدّد كيان الدولة ووحدتها، في مقدّمتها الحروب الداخلية القائمة بين أطراف الدولة ممثّلة في ولاياتها وقومياتها وبين السلطة المركزية فيها، والتي جعلت أوار الحرب المشتعلة حول مركز الدولة يبدّد وحدتها وينهك قوتها. يصاحب ذلك تحدٍّ اقتصادي استدعى تدخّلاً غربياً عبر قروض البنك الدولي، وتدخّلاً عربياً من بعض دول الخليج لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وبالرغم من التحديات الداخلية تلك، دخلت إثيوبيا في صراعات سياسية مع نصف الدول المجاورة لها، مثل إرتريا في الشمال، والسودان في الشمال الغربي، بالإضافة إلى حالة الصراع الذي دخلت فيه مع السودان ومصر بسبب سدّ النهضة الذي اكتمل بناؤه وسيبلغ التخزين في بحيرته 70 مليار متر مكعب من أصل 74 ملياراً بنهاية هذا العام من دون أيّ اعتبار لشواغل البلدين، ثم بذلت جهدها لإحياء مشروع "اتفاقية عنتيبي" لدول حوض نهر النيل التي ستتشكّل مفوضيّتها الشهر المقبل، والتي تمثّل بوضعها الراهن أعظم تهديد لدولتي المصبّ السودان ومصر.
بالرغم من كلّ تلك المخاطر والتحديات تفتح إثيوبيا جبهة جديدة مع جارتها الشرقية الصومال، وتلعب على وتر حسّاس ينال بشكل مباشر من الأمن القومي الصومالي التي تعتبر وحدة الأرض والسيادة أهم عناصره ومرتكزاته، ويجيء هذا التطوّر بعد دخول اليمن مسانداً لغزة التي تتعرّض لعدوان صهيوني منذ شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي.
وعلى تزايد وقع المناصرة اليمنية لغزة، تعاظمت أهمية الساحل الأفريقي على المحيط الهندي والبحر الأحمر، وبرزت الأهمية الاستراتيجية للساحل الصومالي المشرف على مضيق باب المندب والمتشاطئ مع الساحل اليمني.
في ظل هذه المعطيات تعمل إثيوبيا على تجاوز مشكلاتها الداخلية من خلال مشروع انفتاحها على الساحل الشرقي لأفريقيا، واسترداد مكانتها القديمة كحارس لمصالح الدول العظمى في القرن الأفريقي وسواحله، وهو مشروع ذو جدوى بالنظر إلى ارتباطاته بالمصالح الغربية-الصهيونية، وتفسّر تلك الجدوى الدعم والرعاية اللتين حظيت بهما إثيوبيا ولا تزال من جانب الغرب وحلفائه في الإقليم.
وإذ يخدم المشروع الإثيوبي هذا، المصالح الغربية-الصهيونية، فإنه يضرّ بالمصالح العربية بشكل مباشراً. فهو يهدّد وحدة الصومال العربية، ويهدّد اليمن، ويمتدّ تهديده أيضاً إلى كلّ دول القرن الأفريقي ويبلغ التهديد مصر، مثلما يبلغ المصالح الروسية والصينية في المنطقة، وهذا ما يجب أن تتنبّه له هذه الدول.