الموقف الغربي من العدوان الإسرائيلي: ليس هناك ازدواجية معايير!

من غير المتوقع أن تتخلى الدول الغربية الكبرى على المدى المنظور عن سياساتها ومعيارها الوحيد في التعاطي مع القضايا العربية الرئيسية، إلا إذا أجبرت على ذلك بفعل تعرضها لضغوط معينة.

  • ازدواجية المعايير الغربية.
    ازدواجية المعايير الغربية.

في موقفها من العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة وعموم الأراضي العربية المحتلة، تُتهم الدول الغربية بممارستها ازدواجية المعايير، لكن في الواقع هذه الدول الغربية لا تمارس سوى معيار واحد يتمثل في الانحياز الدائم إلى مصالحها التي غالباً ما تتناقض مع مصالح الشعوب، فتكون بذلك هذه الدول في موقف المعادي لمصالح الشعوب والدول الأخرى وحقوقها. 

الغرب لم ينحَز يوماً إلى قضايا الشعوب العادلة، بل إنه لم ينحَز إلى حركات الاحتجاج والتظاهر السلمية التي جرت في عقر دره، حتى نقول إنه يمارس ازدواجية المعايير عندما يعلن تأييده الكيان الصهيوني في احتلاله وعدوانه المستمر منذ 75 عاماً، وإلا بماذا يمكن تفسير منع تلك الدول التظاهرات الشعبية المؤيدة للقضية الفلسطينية في مدنها وشوارعها، ومنع وسائل إعلامها من تغطية جرائم الاحتلال الصهيوني؟

هذا ليس وليد العدوان الإسرائيلي الحالي، إنما هو سمة طبعت جميع المواقف الغربية تجاه القضايا والأحداث التي مرت بها الدول العربية والمنطقة خلال ما يزيد على قرن من الزمن، سواء كانت تلك الأحداث على المستوى الوطني أو القومي، بدءاً من محاولة إحباط نيل الدول العربية استقلالها، مرورباً بتشجيع الانقلابات والاضطرابات الداخلية والنزاعات الإقليمية، وصولاً إلى دعم الكيان الصهيوني في احتلاله الأراضي العربية والتغطية على جرائمه ومجازره بحق المدنيين الأبرياء.

جذور المعيار

المعيار الغربي الوحيد في التعاطي مع القضايا والحقوق والمصالح العربية، والذي يستمر العمل به منذ عدة عقود، وإن تغيرت أدواته وأشكاله، نشأ بفعل مجموعة من العوامل المرتبطة بحسابات الدول الغربية من جهة، وبالوضع العام في الدول العربية من جهة ثانية. 

يمكن ذكر بعض تلك العوامل وفقاً لما يلي:

- المصالح الغربية المستندة إلى محاولة الحكومات الغربية ممارسة الوصاية على القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي للعديد من الدول العربية، وتنفيذ المشروعات الهادفة إلى شرذمة المواقف العربية وتجزئتها أكثر لتفقد ما تبقى من مصادر قوتها وتماسكها، فضلاً عن سعي تلك الحكومات لتحقيق مصالح اقتصادية مباشرة وغير مباشرة. 

هذه المصالح تتبدى مثلاً في الموقف الغربي من الحركات والفصائل الكردية في المنطقة، فهو داعم للمشروع الانفصالي في العراق وسوريا، ويعتبر مطالبه مشروعة، ومعارض له في تركيا، ويصنفه إرهابياً، وكذلك في الموقف مما سمي بـ"الربيع العربي، فقد كان معارضاً له في دول، ومشجّعاً عليه في دول أخرى، ومنخرطاً فيه إلى درجة التمويل والتسليح والتدمير في دول ثالثة.

- ضعف الموقف العربي الرسمي وعجزه عن اتخاذ خطوات وإجراءات موحدة تحافظ على مصالح الدول العربية وحقوق شعوبها، وتمنع تالياً أي دولة أو كتلة دولية من المس بتلك المصالح والحقوق. هذا الضعف تجلى بوضوح في فترات زمنية مختلفة. وإلى جانب غياب الموقف العربي الموحد من جرائم الاحتلال الصهيوني والمعزز بإجراءات وخطوات عملية، يمكن الإشارة إلى الموقف العربي من الغزو الأميركي للعراق، وقصف ليبيا، وتدمير الصومال، وتقسيم السودان، والحرب على سوريا واليمن.

- عجز المنظمات الأممية والدولية عن النهوض بمهامها ومسؤولياتها في حفظ السلام والأمن الدوليين والدفاع عن مبادئ القانون الدولي وحقوق الشعوب ومصالحها، الأمر الذي زاد من تطرف الموقف الغربي في تعاطيه السلبي مع القضايا العربية الأساسية. والدليل على ذلك الحصار الاقتصادي الخانق المفروض على سوريا، ومنح الإذن والتغطية للقوات الصهيونية بارتكابها آلاف المجازر بحق المدنيين في الأراضي العربية المحتلة خلال شهر واحد فقط.

- هيمنة قطب واحد على العالم منذ نحو 3 عقود من الزمن، وهو ما وفّر نوعاً من المظلة والحماية للدول الغربية في ممارساتها، وشجعها على الاستمرار في سياساتها المتجاهلة للقوانين الدولية والقيم الإنسانية والأخلاقية. والمثال الأوضح على ذلك غزو العراق وتدمير ليبيا وتسليح وتمويل المجموعات المسلحة والجهاديين في سوريا. 

ومع بدء انهيار هذه الهيمنة خلال السنوات القليلة الماضية مع صعود الصين وعودة روسيا، بدأت تتكشف ملامح وخبايا المعيار الذي تتعامل به الدول الغربية، وتحديداً خلال مناقشة مجلس الأمن للملف السوري الذي كان يراد تكرار السيناريو الليبي فيه وتبرير العدوان الإسرائيلي على غزة.

تغيير المعيار

من غير المتوقع أن تتخلى الدول الغربية الكبرى على المدى المنظور عن سياساتها ومعيارها الوحيد في التعاطي مع القضايا العربية الرئيسية، إلا إذا أجبرت على ذلك بفعل تعرضها لضغوط معينة، وهذا قد يكون متاحاً فقط في الحالات التالية:

- توحيد الدول العربية مواقفها في الدفاع عن الحقوق والمصالح العربية، وما يعنيه ذلك من تجاوز الأنظمة والحكومات العربية للخلافات والنزاعات البينية والتوجه إلى استخدام أوراق القوة التي تملكها دولها سياسياً واقتصادياً للضغط على الدول الكبرى وإجبارها على تغيير سياساتها ومواقفها المعادية للقضايا العربية، كما حصل أثناء حرب تشرين عندما شاركت قوات عربية متعددة على الجبهتين السورية والمصرية، وأوقفت السعودية صادراتها النفطية، وقامت الإمارات بتوفير دعم مالي لسوريا ومصر وغير ذلك.

- مراجعة الدول العربية علاقاتها الخارجية في مختلف المجالات، وإلغاء اتفاقيات "السلام" التي أبرمتها إفرادياً مع الكيان الصهيوني، وتالياً ربط أي علاقة مع هذا الكيان باستعادة الشعب العربي الفلسطيني حقوقه المشروعة كاملة، وانسحاب "إسرائيل" من جميع الأراضي العربية المحتلة خلال عدوان الخامس من حزيران/يونيو عام 1967، فقد ثبت أن فتح قنوات تواصل سياسية مع العدو لم يكن في مصلحة الحقوق العربية، ولم يغير شيئاً في الموقف الغربي المؤيد للكيان الصهيوني في جميع جرائمه ومجازره.

- قيام مجلس الأمن وغيره من المنظمات الأممية بمسؤولياته في تنفيذ بنود القانون الدولي وحماية مصالح الشعوب واستقلال دولها وسيادتها على ثرواته ومواردها، وهذا لن يتحقق إلا في حالة الضغط على الدول الغربية دائمة العضوية في مجلس الأمن وتهديد مصالحها السياسية والاقتصادية لإيقاف عرقلتها قيام هذه المنظمات بمهامها باستقلالية وحيادية تامة بعيداً من أي تسييس أو مصالح استعمارية وهيمنة.

أين المعايير الأخرى؟

لذلك، عندما نتحدث عن ازدواجية المعايير لدى الغرب، فكأننا نقر أن هذا الغرب يدعم في مكان ما من العالم حقوق الشعوب وقضاياها العادلة، ولا يريد إعادة إنتاج تاريخه الاستعماري والعنصري، فهل هذا ما يحدث في أفريقيا التي تنهب فرنسا والولايات المتحدة الأميركية ثرواتها، فيما شعوب تلك القارة تعيش في فقر وجوع شديدين؟ 

هل هذا ما يحدث أيضاً في دول أميركا اللاتينية التي تجهد الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها لإسقاط خيارات شعوبها ومحاسبة بعض دولها على مواقفها المنحازة إلى قضايا الشعوب ونضالها، وفي آسيا والموقف من تايوان خير دليل على ذلك! أكثر من ذلك، هل موقف الغرب واحد في العلاقة مع الدول العربية؟

باختصار، عندما نصف مواقف الدول الغربية بأنها قائمة على ازدواجية المعايير، فهذا بمنزلة تبرئة لها من وعد بلفور، وتسليم فلسطين لليهود، وتزويد "إسرائيل" بالسلاح النووي، وآلاف المجازر المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني والمصري واللبناني والسوري والأردني، واحتلال الكيان الصهيوني الأراضي العربية المحتلة وما جرّه من ويلات كبيرة على المنطقة... وهناك قائمة طويلة من الممارسات والمواقف الغربية المبنية على معيار واحد فقط لا غير.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.