المسار الأميركي في شرق آسيا... فشل إستنساخ تجربة أوكرانيا

يمكن وصف المنهجية التي تتحكّم في سلوك إدارة جو بايدن بأنها تلك التي تعطي الأولوية للعمل الدبلوماسي.

  • المسار الأميركي في شرق آسيا... فشل إستنساخ تجربة أوكرانيا
    المسار الأميركي في شرق آسيا... فشل إستنساخ تجربة أوكرانيا

لم تكن المعارضة الدّولية لمشروع القرار الأميركي الداعي إلى تحرك جماعي ضد العراق في مجلس الأمن عام 2003 عرضية، ولا يمكن حصر تداعياتها بالقضية العراقية فقط، إنما يفترض اعتبارها أيضاً خطوة البداية لتشكل معارضة عملية للأحادية الأميركية التي طغت منذ عام 1990. 

وإذا كانت إدارة بوش الابن قد حاولت الاستحواذ على القوة بشكل أحادي، بما يمكّن، وفق رؤيتها، من حماية الولايات المتحدة، فإنَّ الرئيس الأميركي باراك أوباما حاول ترميم صورة الولايات المتحدة الأميركية، إذ اعتبر أنَّ سياسات سلفه تركت الولايات المتحدة الأميركية على أبواب انهيار مالي، وفي مواجهة معارضة دولية لأفكار المحافظين الجدد الذين اعتمدوا مفهوم القوة إطاراً حاكماً لمشروعهم الخارجي. 

وبناءً عليه، عمل باراك أوباما على التسويق لفكرة النظام الدولي العاجز عن التخلي عن الولايات المتحدة الأميركية، باعتبارها نموذجاً لا يمكن تجاهله. أما بالنسبة إلى القوى الأخرى، فقد اعتبر أنه لا بد من الاعتراف بنهضة دول كالصين والهند وغيرهما.

 إضافةً إلى ذلك، رفض باراك أوباما فكرة التمترس خلف أيديولوجيات معينة، وفضَّل الالتزام بالاعتبارات العملية والظروف المتغيرة التي تفترض، من وجهة نظره، ضرورة التخلّي عن طرح سياسات خارجية توسعية. وإذا كان في نهاية ولايته الرئاسية قد فشل في تحقيق هذه الرؤية، فإنَّ خلفه دونالد ترامب لم يقدم الشيء الكثير في هذا المجال. 

وعلى الرغم من خطاباته التي عبّر من خلالها عن مفهومه الشعبوي لسياساته الخارجية، إذ كان يعلن أنه سيتحرر من البيروقراطية الحاكمة، عبر تشكيل فريق عمل من خارج الإطار التقليدي الأميركي، ورسم إطار مختلف لسياسة إدارته الخارجية، من حيث التخلي عن الانتشار العسكري الأميركي في العالم، لمصلحة التركيز على القضايا الداخلية، فإنَّ تقييم فترته الرئاسية من دون التأثر بالصخب الإعلامي الذي رافقها يثبت أنَّ البيروقراطية الحاكمة كانت دائماً أقوى من أي محاولة تغييرية تحاول تقديم إطار نظري لواقع الولايات المتحدة الأميركية بعد انهيار الأحادية القطبية.

أما إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، فقد آثرت بدورها عدم الخروج عن المسار المحدد للسياسات الخارجية للولايات المتحدة الأميركية منذ إدارة جورج بوش، فالالتزام بالخطوط العريضة للبيروقراطية الحاكمة ضمن إطار من المحددات التي تفرضها التحديات الدولية المستجدة أفضى إلى السعي لضمان الموقع المتقدم للولايات المتحدة الأميركية في النظام الدولي، من خلال محاولة الاستفادة من الجاذبية الأميركية وحيوية تحالفاتها وشراكاتها.

وبناءً عليه، يمكن القول إنَّ ما تم الاتفاق عليه منذ تولي باراك أوباما رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، يمكن اختصاره بإصرار أميركي على عدم القبول بتراجع موقع الولايات المتحدة الأميركية، مهما كلَّف الثمن، مع الإشارة إلى تغيير يتعلق بالأسلوب؛ فعلى النقيض من فلسفة المحافظين الجدد التي طغت على فترة رئاسة جورج بوش الابن، يجب التخلي عن سياسة التدخلات المباشرة، لتحلّ مكانها سلسلة من التحالفات أو القوى القادرة على تنفيذ المهمات الضامنة للأهداف الأميركية.

أما لناحية الصين، فتجدر الإشارة إلى أن القرار الأميركي بضرورة ردعها ومنع تعاظم قوتها الاقتصادية والعسكرية ظهر مع استراتيجية الأمن القومي الأميركي عام 2010، إذ أفضت هذه الاستراتيجية إلى ضرورة إعادة الانتباه إلى الخطر الكامن في آسيا والمحيط الهادئ.

وإذا كان لافتاً أنَّ الرئيس باراك أوباما صوب على شرق آسيا والصين، فإن ما ميزه عمن لحقه أنه كان متفهماً جيداً لحدود القوة الأميركية. وقد حاول خلال فترة رئاسته أن يحافظ على الوضع القائم مع بعض التصويبات. 

ولأن من المنطقي أن نقفز فوق خطابات دونالد ترامب التي تستند إلى الشعبوية، بعيداً من أيّ أرضية نظرية يمكن الركون إليها، باستثناء التقليل من قيمة الحلفاء، فإنَّ الإطار النظري لسياسات جو بايدن الخارجية تستحق التحليل، بما قد يقدم صورة واضحة لحقيقة الدبلوماسية الأميركية الأخيرة النشطة على مستوى العالم، انطلاقاً من النووي الإيراني، مروراً بأوكرانيا، وصولاً إلى تايوان.

وإذا كان من الممكن القول إنَّ إدارة جو بايدن اقتنعت بانحلال النظام القائم على أسس القوة الأميركية، فإنها، كإدارة أوباما، ما زالت تؤمن بأن النموذج الأميركي ما زال صالحاً، بل يمكن القول إنَّه حاجة حيوية دولية. 

وبناء عليه، يمكن وصف المنهجية التي تتحكّم في سلوك إدارة جو بايدن بأنها تلك التي تعطي الأولوية للعمل الدبلوماسي، وتسعى لتعميق علاقاتها مع الحلفاء التقليديين كوسيلة لتنظيم العالم، فمن غير الممكن أن تنتظم العلاقات الدولية آلياً.

لذلك، كان من الطبيعي أن تنطوي النظرية السياسية لجو بايدن على ضرورة الاعتماد على الحلفاء، إذ إنها عمدت، على سبيل المثال، إلى الدفع باتجاه تبني حلفائها قضايا لا تخدم في الأساس إلا المصالح القومية الأميركية؛ فمن خلال التسويق لحلف شمال الأطلسي وضرورة المراهنة عليه لمواجهة الوجود المتنامي للقوى التي تصنفها الولايات المتحدة الأميركية ظاهرياً خطراً على الحريات والديمقراطية، استطاعت الأخيرة أن تدخل الدولة الروسية في حرب مع الأوروبيين من خلال أوكرانيا، تحت مسميات لا تمتّ إلى الواقعية السياسية بصلة، كالتمدد الروسي، والخطر الجاثم على أوروبا الشرقية، والتبعية الأوروبية لمصادر الطاقة الروسية وغيرها، فيما يجمع أكثر المحللين على أنَّ الحرب الدائرة في أوكرانيا تخدم الأهداف الأميركية، لناحية عزل روسيا ومحاولة استنزاف قوتها العسكرية والاقتصادية، بما يساهم في التخفيف من أثرها في النظام العالمي الجديد.

ومن خلال الأدوات نفسها، تسعى الولايات المتحدة الأميركية إلى تطبيق النموذج الأوكراني في شرق آسيا؛ فإثارة الاضطرابات في الباحة الخلفية للصين قد تساهم في التخفيف من الاندفاعة الصينية، في حال كان رد الفعل الصيني دون مستوى المتوقع منها. 

ومن خلال الزيارة التي قامت بها رئيسة مجلس النواب الأميركي إلى شرق آسيا، هدفت الولايات المتحدة إلى استفزاز الصين، من خلال إصرارها على زيارة تايوان، وإعلانها السعي لتعزيز القيم والمصالح المشتركة بين الولايات المتحدة وتايوان وبعض دول شرق آسيا، بما يمكن ترجمته كمحاولة لتشجيع تايوان على السير في خطوات تثير حفيظة الصين، وتدفعها إلى رد فعل يخدم الهدف المحوري الأميركي المتمثل بإشغالها، بما قد يفرمل اندفاعتها العالمية.

ولكن رد الفعل الصيني والتايواني لم يكن متوافقاً مع التقديرات الأميركية، إذ تختلف الظروف المحيطة بالصين والتايوان اختلافاً جذرياً عن تلك المرتبطة بروسيا وأوكرانيا؛ فالجانب التايواني، المحكوم بانعدام القدرة على موازنة القوة الصينية، والمرتكز على شيء من الواقعية السياسية المتفهّمة لنهائية القرار الصيني باستعادة تايوان، سيجانب أيّ خيار قد يدفع نحو قرار صيني ينهي أيّ إمكانية لحلٍّ سلمي لقضية هذه الجزيرة المتمردة. 

وبناءً عليه، يمكن القول إنَّ الفهم التايواني لتعقيدات الموقف في شرق آسيا، بالارتكاز على رد الفعل الصيني الحازم، أفشل المسعى الأميركي لاستنساخ تجربة أوكرانيا في تايوان.