"القوات اللبنانيّة".. القوّة المسيحيّة الثالثة لا الثانية
يستطيع جعجع أن يواصل بيع أنصاره الأوهام لكن لا يفترض أن تؤثر دعايته إلا فيمن يجهلون دهاليز العملية الانتخابية؛ أولئك الذين تواجههم بالأرقام فيردون بكلام عشوائيّ.
في دائرة بيروت الأولى (الأشرفية)، كان لحزب "القوات اللبنانية" مرشحان حزبيان (النائب عماد واكيم ورياض عقل) في انتخابات 2018. وقد حصلا مجتمعين على 4346 صوتاً. في المقابل، حصل النائب المستقبلي السابق ميشال فرعون (مجتمع مدني اليوم) على 3214 صوتاً، ومرشح المصرفيّ أنطون الصحناوي (النائب جان طالوزيان) على 4166 صوتاً، ولائحة سيبوه مخجيان (مجتمع مدني أمس واليوم) على 1272 صوتاً، ولائحة "كلنا وطني" (مجتمع مدني) على 6842 صوتاً، ولائحة جينا شماس (مجتمع مدني) على 94 صوتاً، ومرشح حزب "الكتائب" النائب نديم الجميل (مجتمع مدني اليوم) على 4096 صوتاً.
وبالتالي، وضمن الفريق السياسي الواحد (الغالبية المطلقة لمن سبق تعدادهم يدورون في فلك قوى 14 آذار)، حصلت "القوات" على 4346 صوتاً، مقابل 19684 صوتاً للمجتمع المدني، وهو ما يؤكّد أنه ضمن "الجو السياسي" نفسه، كان حجم من يوصفون اليوم بالمجتمع المدني نحو 5 أضعاف حجم "القوات" (تحديداً 4.5 أضعاف).
وفي دائرة كسروان – جبيل، كان لـ"القوات" مرشَحَان؛ الأول حزبي (النائب شوقي الدكاش) والآخر غير حزبي، كان يحاكي في تلك المرحلة تطلعات المقترعين المفترضين اليوم للمجتمع المدني (النائب زياد حواط). وقد حصدا مجتمعين 24456 صوتاً.
في المقابل، حصدت لائحة "كلنا وطني" (مجتمع مدني) 2536 صوتاً، ولائحة "عنّا القرار" (مجتمع مدني اليوم) 18553 صوتاً، والنائب نعمة أفرام (مجتمع مدني اليوم) 10717 صوتاً، وزياد بارود (مجتمع مدني أمس واليوم) 3893 صوتاً، والنائب السابق منصور البون (مجتمع مدني اليوم) 6589 صوتاً، ليكون المجموع 24456 صوتاً للقوات، مقابل 42288 صوتاً لمن يصفون اليوم أنفسهم بالثورة والمجتمع المدني وغيره من التسميات.
وفي دائرة المتن الشمالي، حصل مرشح "القوات" الحزبي النائب إدي أبي اللمع على 8922 صوتاً، مقابل 47721 صوتاً لمن يوصفون بالمجتمع المدنيّ اليوم. وبالتالي، فإن الحجم الانتخابي لما يصف نفسه بالمجتمع المدني في المتن هو أكثر من 5 أضعاف حجم "القوات" اللبنانية.
وفي الشوف، حصل مرشح القوات جورج عدوان على 9956 صوتاً، فيما حصلت لوائح المجتمع المدني الثلاث (كلنا وطني - 9987 صوتاً، "كتائب" و"أحرار" – 5446 صوتاً، مارك ضو - 2916 صوتاً) على 18349 صوتاً.
أما في زحلة التي تفترضها "القوات" معقلها الثاني بعد بشري، فقد حصل مرشحوها الحزبيون على 11915 صوتاً، مقابل 41801 صوت لمن يصفون أنفسهم اليوم بالمجتمع المدني.
وإذا كانت الأرقام السابقة تشمل قوى وأفرقاء يدورون – غالبيتهم لكن ليس جميعهم – في فلك قوى 14 آذار، فإنّ الخلاصة هي أنّه، وضمن هذا الجمهور بالتحديد، يتراوح حجم ما يوصف اليوم بالمجتمع المدني بين ضعف و5 أضعاف حجم "القوات".
ولا شكّ في أن حجم هذا "المجتمع المدني" ازداد بعد العام 2018، نتيجة تضاعف التمويل ووضع التلفزيونات والمنصات الافتراضية بتصرّفه، إضافةً إلى أن عدداً كبيراً من ناخبي "القوات" في العام 2018 عاد وراجع حساباته بعد النماذج النيابية الكارثية التي قدمتها "القوات"، إذ كان نوابها الأكسل على الإطلاق إنماءً وخدمات وتشريعاً.
وإذا كان جعجع قد تقدَّم على ما سبق تعداده في عدد النواب في انتخابات 2018 بفضل ماكينته الانتخابية، فإن هذا "المجتمع المدني" يركّز بوضوح هذه المرة على ماكينته الانتخابية. ومن بين جميع الخبراء الانتخابيين، حرص مطبخ "المجتمع المدني" على توظيف الأمينة العامة السابقة للقوات شانتال سركيس مديرةً لماكينته الانتخابية، بعد نجاحها الاستثنائي في إدارة ماكينة "القوات" في الانتخابات النيابية السابقة قبل استقالتها أو إقالتها من "القوات" (أو انتدابها لهذه المهمة!)، وهم سبقوا القوات هذه المرة في استئجار اللوائح الإعلانية وغالبية مراكز الدراسات والإحصاءات التي انتقلت من التطبيل والتزمير لجعجع إلى التطبيل والتزمير للمجتمع المدنيّ.
وإذا كان كل ما سبق ينحصر في جو سياسي محدد (14 آذار)، فإن بعض هذا "المجتمع المدني" قادر بوسائل مختلفة على استقطاب بعض الناخبين من الجمهور الآخر (المؤيد للتيار الوطني الحر أو المردة أو الطاشناق أو القومي وغيرهم)، فيما "القوات" عاجزة بالكامل نتيجة التراكمات التاريخية والأخطاء المتواصلة.
وإذا "سلَّمنا جدلاً" بما تسوّقه "القوات" والمجتمع المدني بوسائلهم الإعلامية ومن يشغلون لديهم وظيفة خبراء انتخابيين عن تراجع في شعبية التيار الوطني الحر، فلا شكّ في أنَّ "العوني" (نسبة إلى مؤيدي ميشال عون) المحبط أو المهزوم أو الناقم أو الثائر لن ينتخب "القوات" لأسباب تاريخية وشخصية كثيرة، لكنه – يمكن – أن ينتخب وجهاً جديداً من المجتمع المدني أو شخصية مناطقية أو خدماتية أو عائلية مرشحة مع المجتمع المدني، وهو ما يعني ربحاً إضافياً للمجتمع المدني على حساب القوات، مع الأخذ بالاعتبار أن علاقات جعجع الخارجية تختزل اليوم بالاستخبارات السعودية، فيما علاقاته الداخلية سيئة مع جميع الأفرقاء. أما هذا المجتمع المدني، فعلاقاته الخارجية وطيدة بالخليجيين، كما بالفرنسيين والأميركيين الراعين الرسميين لهم، وعلاقاتهم الداخلية مفتوحة على جميع الاحتمالات.
بالتالي، يسوّق جعجع اليوم بكلِّ حماسة وثقة أنه سيتوج أخيراً كالمسيحيّ الأول فور إقفال صناديق الانتخابات، لكنه سوف يكتشف أنه سيكون الثالث في أفضل الأحوال، وهي ليست بالمناسبة المرة الأولى التي يتوهم فيها جعجع أشياء كهذه، فتاريخه حافل بالحسابات الخاطئة.
لقد اندفع قبل 43 عاماً في قيادة الهجوم لقتل طوني فرنجية، مفترضاً أنه سيتوج فور انتهاء الجريمة كزعيم أول لمسيحيي الشمال، وإذا بجيهان طوني فرنجية تتوج رمزاً أبدياً كضحية للإجرام الجعجعيّ الذي لا يمكن للدعاوى الإعلامية على الصحافيين أن تحرره منه ولا المصالحات، فيما راوحت زعامة الشمال مكانها ولا تزال حتى اليوم.
بعد ذلك ببضع سنوات، أمر مقاتلو القوات اللبنانية المؤيدون له - كما تروي المقاتلة القواتية ريجينا صنيفر في كتابها "ألقيت السلاح" - بصب الإسمنت فوق مقاتلي القوات اللبنانية المؤيدين لمنافسه إيلي حبيقة، المقيدين داخل براميل من حديد، قبل رمي البراميل المثقلة بالإسمنت في بحر الكرنتينا، معتقداً أنه سينتهي من حبيقة ليتوّج زعيماً أول. وإذا به ينتهي بعد بضع سنوات في السجن، فيما تم تعيين حبيقة وزيراً.
ومن حساباته الخاطئة، اعتقاده قبل 32 عاماً أنه بتخلّصه من ميشال عون عبر خنجر اتفاق الطائف ستخلو له الساحة، ليعود هو نفسه بعد أكثر من ربع قرن، ويسمي عون رئيساً للجمهورية. هو الذي كان يعتقد بعد 2005 بأنه سيذيب البيوتات السياسية المنضوية في الأمانة العامة لـ14 آذار في "القوات"، ليفاجأ في انتخابات 2018 بأن بطرس حرب وميشال معوض وآل المر وآل الجميل وفارس سعيد ونعمة أفرام وميشال فرعون وغيرهم حافظوا على أنفسهم، ولم تجتذب القوات إلا قلة قليلة من أنصارهم، وهي حالة استثنائية طبعاً، إذ لا يمكن فهم هذا العجز القواتي عن الاستقطاب الذي يعوّضه بدعاية هائلة كاذبة عن توسع جماهيري عظيم واكتساح الأخضر واليابس، وغيره من الأوهام التي لا يمكن إيجاد أيّ ترجمة حقيقيّة لها في الأرقام.
وبموازاة الحسابات السياسية والانتخابية الخاطئة، هناك الرهانات الخاطئة أيضاً؛ من الرهان على الإسرائيلي كقوة إقليمية عظمى لا يمكن أن تُهزم، إلى الرهان على التكفيريين كقوة مدعومة من قوى كثيرة إقليمية ودولية لا يمكن أن تهزم، وإذا بها تهزم كما هزمت "إسرائيل" قبلها. ولا يمكن في هذا السياق أن يسقط المشروع الأساسي، ثم تنتصر أدواته الصغيرة في الانتخابات. لن تكون الانتخابات إلا مناسبة لاستكمال الانتصار من جهة، وطيّ صفحة مشروع الاستخبارات السعودية الذي هزم في المنطقة من جهة ثانية.
باختصار، لا معركة بين التيار الوطني الحر و بين القوات، أو بين "التيار" والمجتمع المدني في الانتخابات المقبلة. جمهور "التيار" وحلفاؤه في مكان، وجميع هؤلاء في مكان آخر، وهم لا يترددون في مخاطبة هذا الجمهور أو التأثير فيه أو إقناعه، لا بل فعلوا كل ما يلزم منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 لشدّ عصبه، بحكم الاستفزاز والاستعلاء والاستهزاء والترهيب.
أما المعركة الرئيسية التي نحن بصددها، فهي بين "القوات اللبنانية" ومن يصفون أنفسهم بالمجتمع المدني، وهم في غالبيتهم ممن كان يوصفون قبل بضع سنوات بمسيحيي 14 آذار. وقد دأبوا على الاجتماع تحت مظلة بطرس حرب مرة، وميشال فرعون مرة وميشال معوض مرة، والأمانة العامة لقوى 14 آذار مرات. وفي هذه المعركة، يبدو واضحاً - من الأرقام - أنَّ جعجع سيكون القوّة المسيحية الثالثة لا الثانية، مهما كان ما يهلوس به الإعلاميون وخبراء الانتخابات الذين تموّلهم القوات وبعض قيادييها.