القناصون و"داعش" و"إسرائيل".. ثلاثي الأصوليّة
إنَّ أصوليّة القناصين، ولو كانت هجماتهم أقلّ عدداً، وانتشارهم أقل جغرافياً من "داعش" و"إسرائيل"، إلا أنها تحمل المنطق نفسه، كما تحمل بذرة شبيهة.
في خطاب السيد حسن نصر الله البارحة، كان الشقّ الأكبر موجّهاً إلى المسيحيين، ليس في لبنان فحسب، وإنما في المنطقة أيضاً. وقد تضمّن هذا الفصل تفنيداً منطقياً ومقاربة فلسفية دامغة، مدجّجة بالأدلة العملية، ومن ميادين الحروب، مفادها أن الذي حمى المسيحيين في سوريا ولبنان من موجة "داعش" والتنظيمات التكفيرية لم يكن أطرافاً على شاكلة "القوات اللبنانية"، إنما هو الجيش السوري وحزب الله.
مع هذه المقاربة، يمكن القول إنّ الأوراق المهترئة والحجج الهشّة التي حاول رئيس حزب القوات سَوْقها في مقابلته سقطت مِن خيال مَن سمع الخطاب بذهن موضوعي بحدّه الأدنى. النتيجة النهائية هي أنّ الحزب الذي يدّعي حماية المسيحيين (القوات) هو الخطر الأكبر عليهم، كما هو "داعش" وغيره من التنظيمات التكفيرية، و"إسرائيل"، التي مثلت أدوات سياسية تستغفل "جمهورها" وتغامر به، لا لشيء إلا لتأسيس كيان ما؛ دولة أو غيتو.
"إسرائيل" مثلاً نشأت على أيدي مجموعة من المفكرين المغامرين، العلمانيين أو الملحدين في حقيقتهم، الذين لم يعثروا على رابط أوثق وأسرع وأكثر قدرةً على إنشاء كيان بشكل طارئ ومستعجل، إلا ترويج فكرة الغوييم "الأغيار" المتأهبين لقتل "الجمهور" (كانت الإجابة الصهيونية عن سؤال: "من هو الجمهور أساساً؟" متأخّرة). لذلك، لا بد من سحق الغوييم بأسرع وقت ممكن. وعلى السكة نفسها، سار "داعش" الذي بنى سيكولوجيا كوادره العدوانية المنفلتة انطلاقاً من مبدأ الأغيار أيضاً، وهكذا نشأت الوهابية التي اعتبرت المؤيد له، ولكنه يعيش في بيئة معادية عدواً أيضاً.
بهذا المعنى، يكون الخطر الأكبر على المسيحيين في الشرق هو التوجّه غير المنسجم مع تاريخهم ودينهم، وهو الأصولية؛ الأصولية الداعشية التي حاولت سحقهم وتهجيرهم من العراق، والأصولية التوراتية التي هجّرتهم جنباً إلى جنب مع المسلمين من فلسطين، والأصولية التي تحاول تكريس ذهنية "الرعب من الأغيار" بين أوساطهم في لبنان، وتشييد السياج حول أنفسهم في مناطقهم. إنّ أصولية قتل الآخر تبقى منسجمة مع أصولية وخرافة الترويج للخطر الكامن فيه!
إنَّ أصوليّة القناصين، ولو كانت هجماتهم أقلّ عدداً، وانتشارهم أقل جغرافياً من "داعش" و"إسرائيل"، إلا أنها تحمل المنطق نفسه، كما تحمل بذرة شبيهة. يجب ألا ننسى أنَّ التهام القلوب في ساحات المعارك لا يختلف كثيراً عن تصويب الرصاص من أسطح البنايات على رؤوس الأبرياء. وبعيداً عن مجرى التحقيق، وبعيداً عن هُوية المتهمين، منتسبين إلى القوات أم غير منتسبين، في نهاية المطاف، قالها رئيس القوات بتورية مفضوحة، إنَّ خروجهم في الأساس (على اعتبار أنّه خروج غير سلمي) هو السبب في موتهم، وفي ذلك هروب متعمّد من مبدأ إدانة فعل القناصين.
كانت فرصة "داعش" في الانتشار كبيرة في مناخ حرب طاحنة على سوريا، وتمويل مفرط، ومناخ دولي شرس. كل ذلك أتاح له فرصة الجنون. وكانت فرصة "إسرائيل" في النشأة ككيان احتلال في مناخ تسويات عالمية بعد حرب كونية، وفي مناخ جيوش عربية ناشئة قادتها من شخصيات استعمار بدأ يحزم حقائبه للمغادرة، فامتلكت هي الأخرى فرصة الجنون.
في حالة القناصين، وفي إطار سياسيّ يتجنّب إدانة فعلهم، تبقى الأصولية ملجومة بمناخ لبنان أو ما تبقى من تفاهماته، وملجومة بصبر المقاومة وذكائها في تفويت فرصة الحرب الأهلية، وملجومة بواقعية ميزان القوى العسكري الذي فرضته المقاومة في المنطقة.
الأصولية الإسرائيلية تبحث ببساطة عن وكيل أصولي لبناني، في مرحلة سياسية حساسة وحرجة بالنسبة إليها، ولا سيَّما أنها تمسك بالثوب الأميركي عبر التوتير في المنطقة، وتعيش قلقاً جنونياً من لحظة المغادرة، وتحاول تأجيلها، عبر وضع عثرات أمام الولايات المتحدة نفسها في خطط المغادرة.