الفلسطيني: ذاكرة جمعية فوعي فمقاومة
في قلوب الأجيال، فلسطينية وعربيّة، ستبقى فلسطين عربيّة، وسيبقى اليقين بحتمية زوال "إسرائيل" وكنسها من قلب الوطن العربي.
يولد العربي الفلسطيني بذاكرة بيضاء خالية تماماً، كغيره من الأطفال في هذا العالم. لذا، فهي جاهزة لأن تغتني بما تعيشه في رحلتها الحياتية مهما امتدت، أو قصرت.
وما يميّز ذاكرة الفلسطيني أنها تبدأ تلقي ما يغنيها مما لم تعشه، لكن مما عاشه شعب فلسطين الذي تنتمي إليه، والذي لذاكرته، وذاكرة كل فرد من أفراده، خصوصية فردية تميّزه، وتحفظ له سمات خاصة، بحسب عمره، ومكان ولادته، وتاريخ ولادته، وتربيته الشخصية، ومسار حياته، وتجربته الشخصية الحياتية، ومستواه الثقافي، وما يعتنقه من أفكار.
من وُلدوا على مقربة من نكبة فلسطين وشعب فلسطين عام 1948 انفتحت ذاكرتهم على قسوة واقع دهمهم: اقتلاع من قراهم ومدنهم، ورميهم في غربة لئيمة شديدة القسوة، فامتلأت نفوسهم بالألم، وتفجّرت الأسئلة في عقولهم بتلقائية ومن دون افتعال، لأنهم لا يعرفون الأجوبة، ولا مسبّبات الحياة الغريبة الرهيبة التي رموا فيها، وابتلوا بالجوع والعري والذهول مما يحيط بهم...
من تجربتي الشخصية، ولأنني لا أنظّر، فإنني بدأت بإدراك أن عدواً يطاردنا لأسباب لا أعرفها، ولا أدركها، ولا أي سبب لها.
كنت في السادسة، ورأيت أناساً يصرخون خائفين، ويركضون في الكروم المحيطة بقرية ذكرين مسقط رأسي: إجو اليهود...
من هم أولئك اليهود الذين انتزعونا من طفولتنا البريئة الوادعة؟ لماذا يهرب أهلنا بنا منهم، وما هي الرشاشات التي تدوّي حول القرية؟ وإلى أين يهرب أهلنا بنا؟
أسئلة مُحيّرة لا إجابات عنها، اقتحمت ذاكرتنا منذ الطفولة، كأفراد، وكشعب فلسطيني. وهكذا، بدأت رحلة الأسئلة والوعي، محمولة على صرخات من خسروا بعض أفراد أُسرهم، وهدّمت بيوتهم فوق رؤوسهم، واقتلعوا من قراهم ومدنهم، وهاموا مشردين لا وجهات محددة تمنحهم النجاة، بعيدة، أو قريبة.
في الليل، اختبأت النساء في وادٍ لا أدري كم عمقه، وكنا عطاشى، وجاء بعض الرجال بأوانٍ فيها ماء، وشربنا وبقينا في العراء. واكتشفنا أن الرجال والشبان ليسوا معنا، فهم لم يلوذوا بالفرار من اليهود، بل بقوا في القرية ليقاوموا.
لم تتفتح الذاكرة بصورة طبيعية، كما ذاكرات الأطفال الذين لم يهاجم أولئك اليهود قراهم. ومع الوقت، والأيام التي دوّى فيها الرصاص الذي أصابنا بالرعب، وإن كنا لا نعرف ما هو الرصاص، لأننا لم نسمعه من قبلُ، ثمّ عرفنا أنه يقتل، يخترق الجسد ويُسيل الدم، ويُميت... كثرت الأسئلة وتزاحمت في رؤوسنا.
رأيت في القرية شاباً يركض رافعاً بندقيته، وهو ينادي: "عليهم... عليهم". وبعد وقت لا أدري كم امتدّ، رأيته ممدَّدا في الدسكرة، نقّالة الموتى، كأنه نائم، لكنه لم يكن نائماً. درت حول الدسكرة المرفوعة عن الأرض بأربعة قوائم، ولم أفهم شيئاً، ثمّ عرفت أنه محمود، نجل الشيخ سالم.
كان ذاك هو أوّل شهيد في قريتنا، والشهادة تتباين عن الموت. وهذا ما عرفته بعد أعوام في مخيّم الدهيشة، بعد أن كبرت عامين.
افتتحت ذاكرة الطفل الفلسطيني بالطائرة التي لاحقتنا في الليل، وكانت تُصدر صوتاً مخيفاً، وعينها تخفق في الفضاء وهي تجوس في العتمة بحثاً عنّا، بينما نحن نلتصق بالأرض لعلها تحمينا، وندفن وجوهنا حتى لا نرى ما يطاردنا مرسلاً صوته المتوعّد.
ذكريات تلك الأيام لم تكن تخصني وحدي كطفل فلسطيني، بل كانت تستوطن ذاكرات ألوف الأطفال الفلسطينيين، والأشخاص الكبار.
من طاردونا هدفوا أن يكشطونا عن وجه الأرض، وأن يحضروا ليستولوا على كل شيء. لقد حكموا على جيل الآباء والأمهات بأن يندثر في الشتات، وعلى جيلنا والأجيال التي ستتوالد من بعدنا، بالذوبان والنسيان. وهكذا، ستخلو فلسطين لهم، وستنتهي الحرب، ويرتاح ربّ الجنود.
هذا الرهان الصهيوني فشل تماماً، فالآباء والأمهات زرعوا فينا الانتماء، وعرّفونا بقرانا، وكرومنا، وما كانوا يزرعون، وبأغانيهم في الحصاد، بالأبطال الذين قاتلوا الإنكليز منذ احتلوا بلادنا، والمعارك الأولى مع اليهود الغزاة.
في المدارس، في المخيمات الأولى، ملأ أساتذتنا نفوسنا وعقولنا بالانتماء والإرادة: تَعَلَّموا لتحرروا فلسطين، ولتعودوا إلى مدنكم وقراكم، وتطردوا اليهود من بلادنا.
ثمّ اتسعت معرفتنا، مع تقدمنا في الأعمار والتحصيل، ومتابعة ما يحدث في مخيماتنا. لقد انتبهنا مبكراً إلى أن المنتمين إلى أي قرية يقيمون متجاورين ليحافظوا على خصوصياتهم، وأن المخيمات تقع عند الطرق المعبدة، كأن سكانها سيقفزون عند دعوتهم إلى العودة. وفي تلك البيئة كنا نحن الصغار نحكي، بعضنا لبعض، عن قرانا، كأننا نعرف تفاصيلها، ونحكي عن القرى المجاورة كأننا عشنا فيها.
لقد فشل رهان اليهود على مسح ذاكرتنا كأجيال تولد في الشتات، لأن أولئك اليهود لم يتوقعوا امتلاء ذاكرات أبناء تلك الأجيال بتفاصيل قراهم ومدنهم وتاريخهم وتراثهم، وقفزوا عن أن الفلسطينيين عرب يعيشون في وطنهم العربي، وأن من بقوا في فلسطين بقوا في وطنهم وبيئتهم، وأنهم يتزايدون، ويقاومون عمليات تغيير هويتهم، وطنياً وقومياً، ويتشبّثون بخصوصياتهم ويرفضون تغييرها والمس بها.
تحوّل الفلسطينيون في الوطن العربي الكبير إلى خميرة للوعي والمعرفة بانخراطهم في التعليم والعمل، فنشروا الوعي بقضية فلسطين، وأن المشروع الصهيوني يتهدد كل الوطن العربي، مشرقاً ومغرباً، وأنه يُكرّس التجزئة والتخلّف والتبعية من أجل ديمومة نهب خيرات الأقطار العربية وثرواتها.
وهكذا، انتقل عرب فلسطين بقضيتهم إلى ملايين العرب، عن طريق التعليم، والصحافة، والثقافة السياسية، والانخراط في الحركات الحزبيّة والسياسية القومية والتقدميّة، وتحمّلوا نصيبهم في معركة الوعي، وتحديد أعداء فلسطين، وطبيعة تحالفهم المعادي لمحاولة نهوض الأمة العربية، وتبنّي قضية فلسطين كقضية قومية جوهرية كون زرع الكيان الصهيوني يمزق وحدة الأمة العربية. لذا، فإن فلسطين قضية قومية أُولى، لا إقليمية.
قبل أعوام، وجدت تعريفاً للثقافة يقول إنها تعني الكرامة الإنسانية. واستخلص الباحث هذا التعريف بعد اطّلاعه على ما فعله الإسبان الغزاة بمواطني تلك البلاد الأصليين، وكيف تفتقت عقليتهم الاستعمارية لتغريب أصحاب البلاد الأصليين عن تراثهم، عبر تعليمهم اللغة الإسبانية. وبعد أعوام انبتّوا عن تراثهم وثقافتهم المحليَّين، وباتوا ممسوخين بلا هوية ولا انتماء ولا ذاكرة جمعيّة!
علامَ راهنت الصهيونية وهي تؤسس مشروعها في أرض فلسطين؟
مارست الحصار والعزلة على الفلسطينيين الذين لم يغادروا فلسطين المحتلة عام 48، وضيّقت عليهم سبل العيش حتى ييأسوا ويغادروا، أو يذوبوا ويندمجوا ويرضوا بمصيرهم في الكيان الصهيوني.
وماذا عن عرب فلسطين الذين باتوا نتيجة للنكبة تحت الخيام؟
لم يُسمح لهم بمواصلة المقاومة للكيان الصهيوني، وسيخضعون ويخنعون!
لكن العرب الفلسطينيين تجاوزوا حقبة النكبة، وباتوا فاعلين ومتفاعلين في الوطن العربي الكبير.
الفلسطينيون توجَّهوا إلى التعليم، وبه ردّوا على النكبة، ومحاولات المسخ، ونشروا التعليم في عدد من الأقطار العربيّة، وأغنوا الذاكرة العربية بكل ما تمثله فلسطين، بدءاً من المعارك العظمى التي حررت قلب الوطن العربي من الغزو الصليبي، المغولي، والبريطاني الذي جاء في العصر الحديث، وتقاسم الاحتلال للمشرق العربي مع الإمبريالية الفرنسية: سايكس بيكو، وبهذا نفذت الإمبراطورية البريطانية وعد بلفور عملياً بزرع الكيان الصهيوني في قلب فلسطين.
عن دور المثقفين الفلسطينيين
أدّى المثقفون الفلسطينيون دوراً بارزاً، وما زالوا، في نشر الوعي بالقضية الفلسطينية، والأدوار التي مرّت فيها، وساهموا في يقظة شعبهم، وتعميق وعيه بقضيته، وأثروا في الحركات السياسية العربيّة، وانخرطوا في صفوفها، وأكدوا باستمرار أن القضية الفلسطينية هي قضية عربية قومية بامتياز، وأن لا نهوض للأمة بغير تحرير فلسطين.
يمكن القول إن الثقافة الثورية، التي انتشرت في وعي عرب فلسطين حيثما كانوا، زادت في صلابته، ومنحته الثقة، ومكّنته من تجاوز كل محاولات تزوير وعيه، وزرع الإحباط في نفوس ملايينه المنتشرة قريباً من فلسطين، وبعيداً عنها.
كل مخططات الحركة الصهيونية المرعيّة والمدعومة، بريطانياً وأميركياً، فشلت في تيئيس الفلسطينيين ودفعهم إلى التقاعس عن مواصلة المقاومة والذوبان تحت الاحتلال، وفي البلاد العربيّة القريبة والبعيدة.
أودّ أن أنبّه إلى أن الفلسطينيين خاضوا كل معاركهم بعد النكبة بجزء من قوتهم وقدراتهم، وأنهم حُرموا من الزجّ بكل طاقاتهم في المواجهة مع عدوهم الكيان الصهيوني المحتضن والمدعوم، عسكرياً واقتصادياً ودبلوماسياً، أميركياً، ومن كل قوى الغرب الاستعماري، وعبر التخاذل والتواطؤ العربيَّين الرسميَّين.
100 عام وأكثر والفلسطينيون يقاتلون، ومعهم شرفاء العرب، وأكبر ثوراتهم في سوريا الجنوبية، فلسطين، قادها عرب: الشيخ الشهيد عز الدين القسّام، والقائد الفذ الشهيد سعيد العاص، وهما استشهدا على ثرى فلسطين.
درس قريب من جيل رابع لما بعد نكبة الـ48
يوم 26 كانون الثاني/يناير هاجم جيش الاحتلال مخيم جنين البطل، وبعد اشتباكات سقط من الفلسطينيين 10 شهداء، فتجرّعنا حزننا وغضبنا، وقلنا: الرّد قادم. وجاء الرد الصاعق بعد ساعات في قلب القدس، ومن فتى من فتيانها، خيري علقم، ابن الحادية والعشرين، والذي حمل اسم جده، الذي اغتاله المستوطنون عام 1998، أي قبل ولادة الحفيد الذي ثأر له، ولكل شهداء فلسطين، في طريق تحرير فلسطين.
يوم 27 كانون الثاني/يناير وقعت عملية جديدة في القدس المحتلة، سقط فيها ضابط بجروح خطيرة في جيش الاحتلال، ومستوطن، وشكّلت مفاجأة، واتُّهم فيها الفتى الجريح محمد عليوات ابن الأعوام الـ13.
أمثال عليوات، في الانتفاضتين، كانوا، وما زالوا يرجمون جيش الاحتلال وقطعان المستوطنين بالحجارة، وهم باتوا يحملون المسدسات، ويَسقطون جرحى، أو شهداء. وهم يعرفون، بوعي صقلته الوقائع، أن الاحتلال يحكم على كل فلسطيني بالموت ميدانياً، حتى وهو يحمل حقيبته المدرسية.
إنه الجيل الرابع ينخرط في الميدان، بوعي متأجّج، وبعزيمة، وبإرادة، وبذاكرة تتغذى من ذاكرة الأجيال السابقة، التي رحل أكثرها، وفيها زادٌ معرفي تراكم بالدماء والدموع لأولئك الذين رحلوا وتركوا فلسطين أمانةً تتوارث الأجيال العهد لها بالتحرير الكامل من نهرها إلى بحرها.
في قلوب الأجيال، فلسطينية وعربيّة، ستبقى فلسطين عربيّة، وسيبقى اليقين بحتمية زوال "إسرائيل" وكنسها من قلب الوطن العربي، وسيندثر المطبّعون، وحكام الكيانات المستتبعة، ومن فلسطين ستشرق شمس نهضة الأمة العربية.