الغجر والأراضي اللبنانية المنسيّة
اتسم الأداء الرسمي اللبناني التاريخي تجاه قضية القرى اللبنانية السبع بالتقصير، ولم تُتخذ أي إجراءات قانونية لاستعادة هذه القرى واعتبارها جزءاً من الأراضي اللبنانية.
ليست قضية بلدة الغجر المحتلة في جنوب لبنان مجرد قضية قطعة من الأرض فرض عليها العدو الإسرائيلي مؤخراً احتلاله الكامل بقوة السلاح والأمر الواقع فحسب.
القضيّة التي عادت إلى صدارة الاهتمام بعد بيان حزب الله الذي حذر فيه من خطورة الإجراءات العدوانية يمكن اعتبارها مؤشراً على تعاطي الدولة اللبنانية مع حدود لبنان الجنوبية، وهو ما تحدث عنه منذر جابر في إحدى دراساته حول الحدود بقوله: "لولا أعمال ما زالت يتيمة حول الحدود الجنوبية، لظلَّت الأدبيات اللبنانية خالية من مواضيع الحدود، وظلت أبحاث الحدود غشيمة سائبة".
في كل الأحوال، هذه القضية يمكن اختصارها بثلاثة عناوين هي: القرى السبع والغجر ومزارع شبعا اللبنانية. في العناوين الثلاثة، تتعاطى الدولة اللبنانية وفق منهجية واحدة هي منهجية اللامبالاة، وصولاً إلى التخلي، مع استثناءات قليلة لا يتسع المجال لتفصيلها. ولعل في العودة إلى بعض المعطيات التاريخية في العناوين الثلاثة ما يضيء على بعض الجوانب.
في ملفّ القرى السبع، تؤكد الوقائع التاريخية أنها ألحقت بفلسطين المحتلة بعدما كانت ضمن الحدود اللبنانية التي قامت على أساسها دولة لبنان الكبير عام 1920، وفي دراسة بعنوان "القرى السبع اللبنانية المحتلة" ما يثبت لبنانية المزارع.
الدراسة التي وضعتها "الجمعية الاجتماعية الثقافية لأبناء القرى السبع"، تؤكّد أنّ في حوزة عددٍ من أهالي القرى السبع الذين بلغ عددهم في نهاية 2001 نحو 4500 نسمة تقريباً هوياتهم اللبنانية الصادرة باسم حكومة لبنان الكبير، إضافة إلى إيصالات الضرائب التي كانوا يدفعونها لجباة ولاية بيروت.
ويبدو مؤكداً من المصادر التاريخية أنَّ تعديل الحدود عام 1923 حصل نتيجة ضغوط مارستها الوكالة اليهودية على البريطانيين.
في كتاب أعدّه المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق حول القرى السبع، ثمة إشارة إلى دور مكتب الوكالة الذي كان ينظم عمليات الاستيلاء والصفقات العقارية على منطقة مستنقعات الحولة، وكانت إحدى الشركات الفرنسية حينها قد التزمت بتجفيف هذه المستنقعات، فاشترط هذا المكتب على الفرنسيين التنازل عن 23 قرية لبنانية واقعة ضمن النفوذ الفرنسي وضمّها إلى فلسطين في مقابل تجديد عقد امتياز الشركة الفرنسية في تجفيف المستنقعات، وهذا ما حصل، إذ جرى ضم 23 قرية لبنانية إلى المنطقة الواقعة تحت الاحتلال الإنكليزي.
وأشارت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية في مقالة ليواف شتيرن إلى أن البريطانيين كانوا يخضعون لتأثير "ضغوط الحركة الصهيونية لزحزحة الحدود شمالاً لتشمل المطلة وأكبر قدر من المصادر المائية في المنطقة".
في كتاب موشيه برافر "حدود دولة إسرائيل" تفاصيل كثيرة بشأن القضية. يقول الكاتب الصهيوني إن بريطانيا كانت تمتثل "لعدم الرضا الذي كانت الحركة الصهيونية تبديه بصدد الحدود. وقد تم نقل منطقة تبلغ مساحتها 192 كلم مربع بجميع من فيها وما فيها من قرى من إطار الحكم الانتدابي الفرنسي إلى إطار الحكم الانتدابي البريطاني"، ويتحدث الكاتب عن قضم مستمر مارسه البريطانيون.
وبالفعل، تم تكريس التعديل الحدودي بموجب اتفاقية "نيو كومب بوليه" عام 1922. وقد تمت إزاحة الخط المتفق عليه في اتفاقية 1920، فخسر لبنان عدداً من القرى التي باتت تعرف بالقرى السبع.
أداء الوكالة اليهودية لم يأتِ من فراغ. يدرك العاملون فيها الأهمية الاستراتيجية لهذه القرى. يشير كتاب "المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق" إلى أن "القيمة لم تكن لتغيب بالتأكيد عن ذهن أصحاب المشروع الصهيوني الاستيطاني الذين حرصوا على ألا تبقى هذه القرى "مراكز تهديد للمستعمرات التي تطل عليها، ولكي تتحول إلى مراكز بيد الإسرائيليين يتحركون من خلالها ساعة يشاؤون لتهديد المناطق المقابلة في جبل عامل".
في المقابل، اتسم الأداء الرسمي اللبناني التاريخي تجاه هذه القضية بالتقصير، ولم تتخذ أي إجراءات قانونية لاستعادة هذه القرى واعتبارها جزءاً من الأراضي اللبنانية.
السيناريو نفسه تقريباً يتكرر مع قضية مزارع شبعا. لبنانية المزارع تؤكدها دراسة في مجلة "الدفاع الوطني" الصادرة عن الجيش اللبناني. تشير الدراسة إلى وجود عدة وثائق تثبت أن الحكومة اللبنانية مارست سيادتها الكاملة على جميع المزارع، وأنَّ السكان جميعهم مسجلون في دوائر النفوس اللبنانية.
تعود الدراسة إلى الخريطة العثمانية التي تؤكد أن المزارع بمجملها كانت واقعة في قضاء حاصبيا. وعند إنشاء دولة لبنان الكبير، ضم هذا القضاء بكامله إلى هذه الدولة، وذلك بموجب القرار 318 الصادر عن المفوض السامي الفرنسي في أيار/مايو 1920 بشأن تعيين حدود لبنان الكبير.
اجتاحت "إسرائيل" جزءاً من مزارع شبعا عام 1967، ثم استكملت الاجتياح عام 1972، حين ضمَّت 80% من مساحة المزارع بعد إحاطتها بالأسلاك الشائكة والمكهربة. وعام 1985، بنت 3 مستعمرات فيها وضع حجرها الأساس الحاخام مئير كاهانا.
أما الدولة اللبنانية، فلم تشر رسمياً إلى الاحتلال إلا عام 1982 في كتاب أعدته وزارة الإعلام اللبنانية بعنوان "لبنان مأساة وصمود".
وكما في قضية القرى السبع، فإنّ سكّان المزارع من أصحاب الجنسية اللبنانية، وهم يملكون سندات ملكية صادرة عن الحكومة اللبنانية وإيصالات جباية الضرائب ووثائق الفصل بين الدعاوى الجزائية والمدنية من المحاكم اللبنانية.
وللإنصاف، فإن الحكومة اللبنانية قدمت للأمم المتحدة عام 2000 المستندات التي تبين خطّ الحدود، بما يظهر أن منطقة مزارع شبعا تقع ضمن الأراضي اللبنانية. كما أنَّ هذه المزارع لها أهمية استراتيجية واقتصادية وأمنية وسياسية، فقد وضعت فيها "إسرائيل" مرصداً يمكن اعتباره أهم مركز رصد أرضي في منطقة الشرق الأوسط، إضافة إلى أهميتها المائية والسياحية.
أما الغجر، ففي قضيتها الكثير من المفارقات، وهو ما عبرت عنه صحيفة "النهار" اللبنانية في أحد تقاريرها بالقول: "التاريخ لسوريا والجغرافيا للبنان والسيطرة لإسرائيل"؛ فالقرية التي امتنع العدو الإسرائيلي عن احتلالها في الأيام الأولى من حرب العام 1967 باعتبار أنها لبنانية، بحسب الخرائط البريطانية التي كانت في حوزته، تخلَّت عنها الدولة اللبنانية لأسباب غير مفهومة.
وقد رفض الضباط اللبنانيون في قضاء مرجعيون في ذلك الوقت قبول أهل الغجر، وحظر الجيش اللبناني على السكان اجتياز الحدود. لذلك، بقي سكان الغجر لمدة شهرين ونصف شهر دولة مستقلة مكونة من 36 عائلة. وعندما طالبوا الدولة اللبنانية بفرض السيادة على قريتهم، رفضت السلطات اللبنانية تلبية طلبهم.
استغلّ العدو هذا التخلّي، فقام باحتلالها واعتبارها جزءاً من الجولان المحتل الذي أعلن ضمه عام 1981، إلا أن معطى جديداً طرأ في تلك المرحلة، وتحديداً بعد الاحتلال الإسرائيلي للبنان عام 1978 وسيطرته على جانبي الحدود؛ فقد توسعت قرية الغجر شمالاً داخل الأراضي اللبنانية، وعلى مشاعات تابعة للدولة ولملكيات خاصة لبنانية.
هذا ما أكَّده الخط الأزرق الذي رسمته الأمم المتحدة بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000. قسم الخط الأزرق القرية إلى شمال لبناني وجزء إسرائيلي جنوبي. وتم الاتفاق على أن تخرج "إسرائيل" من القسم اللبناني من الغجر. وفي المقابل، تدخل الأمم المتحدة واستخبارات الجيش اللبناني لتأكيد سيادة لبنان عليه.
عام 2006، دخلت "إسرائيل" إلى القسم اللبناني، وصدر القرار 1701، ونصّ على وجوب انسحابها من كل الأراضي، وهو ما لم تنفذه، وراحت تقوم بإجراءات متتالية عدوانية، وصولاً إلى "إنشاء سياج شائك وبناء جدار إسمنتي حول كامل البلدة"، ما أدى إلى فصل بلدة الغجر عن "محيطها الطبيعي التاريخي داخل الأراضي اللبنانية. وقد فرضت قوات الاحتلال سلطتها بشكل كامل على القسمين اللبناني والمحتل من البلدة، وأخضعتها لإدارتها بالتوازي مع فتح القرية أمام السياح القادمين من داخل الكيان الصهيوني"، كما ورد في بيان حزب الله.
هذه الملفات الثلاثة وكيفية تعاطي الدولة اللبنانية معها تقودنا إلى مجموعة خلاصات:
- إن الحدود اللبنانية الجنوبية كانت متروكة لموازين القوى. وفي أي لحظة تاريخية يفقد فيها لبنان القوة يمكن أن يضيع المزيد من الأراضي، وهذا ما منعت المقاومة حصوله بعد عام 2000.
- قارب العدو الإسرائيلي ملف الحدود من منطلق المصالح الأمنية والسياسية والاقتصادية والجغرافية، وهو صاحب أطماع لا يخفيها. وكما لجأ في السابق إلى القضم، فهو على استعداد دائم للمزيد من القضم.
- المجتمع الدولي لن يقدم الضمانات لحماية الحدود، بدليل أن قضم الغجر يمثل خرقاً واضحاً وفاضحاً للقرار 1701 وللخط الأزرق، ولم تحرك الأمم المتحدة ساكناً، وهي تكتفي بدور شاهد الزور.
- الدولة اللبنانية تتعاطى بتراخٍ مع حدودها الجنوبية، وهي منكفئة عملياً عن حماية هذه الحدود، وتتعاطى وفق منهجية الحياد.
- ما عوض تاريخياً تقاعس الدولة وتخاذل الأمم المتحدة هم الناس، أهل الأرض، الذين أخذوا المبادرة في أكثر من مرحلة، وخصوصاً عام 1982، فحرروا الأراضي المحتلة.
وعن هؤلاء الناس، تحدَّث بيان حزب الله الأخير الَّذي تضمَّن إشارات إلى خطورة السكوت عن الإجراءات العدوانية، والذي يستشف منه أنَّ المسألة لا يمكن التعاطي معها كأنها أمر عابر.
لقد وصف بيان حزب الله الإجراءات بأنها "خطرة، وتعد تطوراً كبيراً واحتلالاً كاملاً للقسم اللبناني من بلدة الغجر بقوة السلاح وفرض الأمر الواقع فيها"، مشيراً إلى أنّ هذا الخرق "ليس خرقاً روتينياً مما اعتادته قوات الاحتلال بين الفينة والأخرى".
هذا يعني أنَّ الحدود اللبنانية تواجه مجدداً امتحاناً جديداً يستوجب من السلطة اللبنانية التعامل معه بشكل حازم وجدي، منعاً لتكريس الصورة السائدة حول غياب الدولة عن هذا الملف. وفي الوقت نفسه، ستكون المساحة التي احتلَّها العدو مادّة متفجرة جديدة.
قال الرئيس السابق إميل لحود أثناء ترسيم الخط الأزرق: "المسألة ليست مسألة أمتار، بل مسألة مبدأ، والذي لا يحافظ على حقّه لا يحترمه أحد. الحق حق، وليس بحجمه".