العراق وأميركا بعد عشرين عاماً على الغزو والاحتلال
لم يمرّ وقت طويل على الغزو والاحتلال الأميركي حتى راحت الحقائق والخفايا تظهر وتتكشّف تباعاً عبر المؤسسات والشخصيات السياسية والعسكرية والإعلامية والأكاديمية الأميركية نفسها
بحلول العشرين من شهر آذار/مارس، يكون قد مرّ عشرون عاماً على اندلاع الحرب الأميركية-الدولية على العراق بهدف إسقاط نظام صدام باعتباره كان يشكّل تهديداً للأمن والسلم الدوليّين، بعد أن ثبت للأميركيين وبعض حلفائهم وأصدقائهم أنه كان يمتلك أسلحة دمار شامل، علماً أنه كان قد استخدم مثل تلك الأسلحة في ربيع عام 1988 في مدينة حلبجة الكردية، وتسبّب بكارثة إنسانية قلّ نظيرها في مسيرة البشرية وتأريخها الطويل!
لم تدم تلك الحرب أكثر من ثلاثة أسابيع، إذ وضعت أوزارها في التاسع من شهر نيسان/أبريل من العام نفسه، بعدما انهار ذلك النظام وتلاشت وسقطت وانهارت كل مؤسساته ومفاصله السياسية والأمنية والعسكرية والإعلامية والحزبية بلمح البصر كما تتساقط قطع الدومينو، بطريقة بدت غريبة جداً وخارج دائرة أسوأ التوقّعات وأكثر القراءات تشاؤماً وسوداوية.
صحيح أنّ الحرب انتهت خلال فترةٍ زمنيةٍ قصيرةٍ جداً، بيد أن تبعاتها وتداعياتها وإفرازاتها ومخلّفاتها السياسية والأمنية والاقتصادية والصحية والبيئية والمجتمعية ما زالت ماثلة، وستبقى كذلك إلى أمد غير محدود ولا معلوم، ولم تقتصر تلك التبعات والتداعيات والإفرازات والمخلّفات على العراق، بل إنها امتدت إلى مساحات وميادين أوسع، لتكمل الصورة المأساوية الكارثية التي رسمتها كارثة غزو دولة الكويت في عام 1990، وحرب تحريرها في عام 1991.
ومثلما ساهمت الولايات المتحدة الأميركية في إيجاد نظام ديكتاتوري قمعي استبدادي عدواني في العراق، حينما مكّنت حزب البعث من الاستيلاء على السلطة في عام 1968، ومن ثم مهّدت الطريق لصدام حسين لتصفية رفاقه وشن الحروب الداخلية والخارجية، وإقحام العراق في دوامة المآسي والكوارث الإنسانية الكبرى، فإنها عملت بعد إسقاط ذلك النظام على التأسيس لوضع جديد، بدا واضحاً من خلاله أنها لا تريد لهذا البلد ولا لأبنائه التمتّع بالاستقرار والازدهار والأمان، حاله حال أغلب دول وشعوب العالم والمنطقة، وإلا لماذا انفتحت أبواب الفوضى بكل أشكالها وصورها بعد سقوط نظام صدام مباشرة، وعلى مرأى ومسمع الحشود العسكرية الأميركية التي سيطرت على أرض العراق وسمائه بالكامل؟!.
بعبارة أخرى، إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية قد أسقطت نظام صدام، بعدما شعرت أنه لم يعد عنصراً مفيداً لها، وبعد أن أدركت أن المعارضة العراقية باتت على وشك إسقاطه، فإنها في الواقع مهّدت لحقبة جديدة في تاريخ العراق، حفلت بالكثير من الإجرام الأميركي الذي لم يختلف كثيراً عن الإجرام البعثي-الصدامي.
ولعل الأعداد الهائلة من الضحايا والدمار الهائل الذي لحق بالبنى التحتية والمنشآت الحيوية، وظهور الإرهاب التكفيري، واستفحال الفتن الطائفية، مثّلت مؤشرات ودلائل على ما خلّفه الغزو والاحتلال الأميركي للعراق من مآسٍ وكوارث وويلات لن تمحى آثارها إلا بعد وقت طويل.
هذا جانب من الصورة العامة، وهناك جانب آخر، تمثّل في أنّ الاحتلال الأميركي أسس لمعادلات سياسية قلقة في العراق، ارتكزت على معايير طائفية وقومية ومذهبية، ساهمت في إيجاد مناخات سياسية متأزمة ومتشنّجة على الدوام، سادتها الصراعات الحادة على مواقع السلطة والهيمنة والنفوذ، وأريد لها أن تكون بشكل أو بآخر بمثابة أرضيات لتمرير أجندات ومشاريع التفتيت والتقسيم، وفق ما طرحه الرئيس الأميركي الحالي جوزيف بايدن، قبل بضعة أعوام حينما كان يشغل منصب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس، وكذلك ما تناولته ونظرت إليه العديد من مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية الأميركية طيلة الأعوام التي أعقبت الإطاحة بنظام صدام، وحتى قبل ذلك الوقت.
وما يؤكد ويثبت ذلك، هو أنه لم يمرّ وقت طويل على الغزو والاحتلال الأميركي حتى راحت الحقائق والخفايا تظهر وتتكشّف تباعاً عبر المؤسسات والشخصيات السياسية والعسكرية والإعلامية والأكاديمية الأميركية نفسها.
فهناك العديد من الدراسات والأبحاث التي صدرت عن مؤسسات ومراكز استراتيجية، أكدت أنّ ما يسمّى بـ "الحروب على الإرهاب" التي اندلعت مباشرة بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، أدت إلى مقتل 800 ألف إنسان، ومن بين هؤلاء 335 ألف مدني، وتسبّبت بتهجير ما لا يقلّ عن 37 مليون شخص في أفغانستان والعراق وسوريا وباكستان واليمن والصومال وليبيا والفلبين وغيرها. علماً أن تلك الحروب كلّفت أكثر من ستة ترليونات دولار، وألحقت دماراً كبيراً بالبنى التحتية لتلك الدول، وخلّفت كمّاً هائلاً من المشاكل والأزمات الحياتية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسياسية، تتطلّب معالجتها عقوداً -وليس أعواماً-طويلة من الزمن.
ومنذ مطلع العقد الماضي، استفاد مختلف الرؤساء الأميركيين من التفويض الصادر من قبل الكونغرس الأميركي عام 2002، المعروف اختصاراً (AUMF)، والذي أتاح لإدارة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، غزو العراق، تحت ذريعة "الدفاع عن الأمن القومي" للولايات المتحدة ضد "التهديد" المستمر الذي كان يشكّله العراق في ظل نظام صدام، ولأجل تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي ذات العلاقة بالعراق إثر غزو دولة الكويت في عام 1990.
وكان آخر من استخدم ذلك التفويض، هو الرئيس السابق دونالد ترامب، حينما أمر بتنفيذ عملية غادرة أدت إلى اغتيال كل من نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، وقائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني قرب مطار بغداد الدولي مطلع عام 2020.
ولعل الانتقادات الحادة واللاذعة التي وجّهت لأصحاب القرار السياسي الأميركي من داخل الولايات المتحدة لم تكن أقل حدة ووضوحاً وصراحة من الانتقادات الصادرة من أعدائها وخصومها. ففي دراسة لها بموقع "ديفينس وان Defense one قبل عامين، تقول الباحثة الأميركية جوليا جريدهيل، "أدت المغامرات العسكرية الأميركية المستمرة إلى تزايد حدة المشاعر المعادية للولايات المتحدة، وتنامي جهود التعبئة لدى المجموعات الإرهابية، التي تزايدت أعدادها اليوم بمقدار أربعة أضعاف عما كانت عليه في عام 2001".
وأكثر من ذلك، تؤكّد جريدهيل في دراستها "أن المقاربة الباهظة التكاليف خلال العقدين الأخيرين أسهمت فقط في تضخيم وتوسيع حجم المنظمات الإرهابية بدلاً من اقتلاعها"، مضيفة "وبما أننا نمرّ اليوم في الذكرى الثامنة عشرة للحرب ضد العراق، فإن على الإدارة والكونغرس في نهاية المطاف أن يعترفا بأن تلك المقاربة الباهظة التكاليف ضد الإرهاب قد فشلت، ويجب أن نبدأ بتصحيح المسار الآن من خلال إلغاء قانون (AUMF)".
وقد يكون العراق من بين أكثر الدول التي تضرّرت إلى حد كبير من جرّاء السياسات الأميركية-الغربية، سواء في ظل عهد نظام حزب البعث الممتد من عام 1968 وحتى 2003، أو خلال المرحلة التي أعقبت سقوط ذلك النظام. ولم يعد بإمكان أي كان أن ينكر الكوارث والمآسي الحاصلة بسبب تلك السياسات، أو حتى يقلّل من حجم تداعياتها وإرهاصاتها الآنية والمستقبلية. والتي ربما تكون قد فاقت الكوارث والمآسي التي خلّفتها الحربان العالميتان الأولى (1914-1918)، والثانية(1939-1945).
وفي هذا الشأن، يشير استطلاع أجرته قبل ثلاثة أعوام منظمة (opinion Research Business-ORB ) الصحافية العالمية التي تتخذ من واشنطن مقراً لها، إلى أن حصيلة الضحايا العراقيين منذ ربيع عام 2003 وحتى ما قبل عامين من الآن، بلغت مليوناً و33 ألفاً، في حين أشارت دراسة أنجزتها جامعة جونز هوبكنز الأميركية إلى أن عدد ضحايا الاحتلال الأميركي للعراق تجاوز600 ألف شخص. وسواء كان الضحايا قد سقطوا بسلاح الجنود الأميركيين، أو من جرّاء العمليات الإرهابية للتنظيمات التكفيرية، أو بسبب الصراعات الداخلية بين قوى وأطراف مختلفة، فإنّ ذلك كان محصّلة ونتيجة منطقية ومتوقّعة للاحتلال.
أما بالنسبة للخسائر المادية الهائلة والدمار والخراب الذي لحق بالبنى التحتية والمنشآت الحيوية، والفساد المالي الكبير، فإن مجمل التقارير والإحصائيات والدراسات تحفل بأرقام مرعبة للغاية على كل الصعد والمستويات. ولم يخطأ من اعتبر أنّ الفساد والإرهاب هما وجهان لعملة واحدة، أو بتعبير آخر، أنّ الفساد أحد عوامل إنتاج وصناعة الإرهاب، والعكس صحيح أيضاً. إذ أنه حيثما وجد الفساد ظهر واستفحل وتنامى الإرهاب.
والولايات المتحدة الأميركية وفّرت من خلال سياساتها الكارثية بيئات وظروفاً مناسبة جداً لنمو واستشراء كلاهما-الفساد والإرهاب-في العراق، ومن وضع أسس اللبنات الأولى لكل ذلك هو الحاكم المدني الأميركي للعراق بول بريمر، الذي أدار مع فريقه المساعد من رجال السياسة والأمن والعسكر والمخابرات والاقتصاد شؤون البلاد للفترة بين أيار/مايو 2003 وحزيران/يونيو 2004.
وبقدر ما ساهمت الولايات المتحدة في تخريب كل منظومات ومؤسسات الدولة العراقية، وأوجدت الإرهاب، وزرعت الفتن الطائفية، وخلقت وعمّقت الخلافات والصراعات السياسية والمجتمعية، فإنها دمّرت الاقتصاد العراقي وتسبّبت في تبديد الأموال الطائلة التي بدلاً من توظيفها لإصلاح ما خرّبته ودمّرته الحروب المتلاحقة، فإنها راحت إلى جيوب الفاسدين ولتستقرّ في حساباتهم بخزائن الكثير من المصارف الأجنبية، أو تتحوّل إلى مشاريع لغسيل وتبييض الأموال.
ناهيك عن أنها-أي الولايات المتحدة-وضعت اليد على كل موارد العراق المالية بحجة حمايتها من مطالبات الآخرين، دولاً ومنظمات ومؤسسات وأفراداً، من الذين تضرّروا أو ادّعوا أنهم تضرّروا من جرّاء حرب تحرير الكويت، بحيث لم يكن بإمكان السلطات العراقية التصرّف بأموال وموارد البلاد من دون موافقة وقبول أصحاب القرار في واشنطن. ولعلّ الأزمة المالية الأخيرة، واختلال قيمة الدينار العراقي أمام الدولار مؤشر ودليل واضح وبليغ على ذلك، إلى جانب فضيحة سرقة القرن بكل ملابساتها وخلفيّاتها وطبيعة الشخوص المتورطين فيها، علماً أنها لم تكن الوحيدة، بل هناك العشرات أمثالها.
وليست وحدها الآثار والخسائر البشرية والمادية التي خلّفتها حروب أميركا في العراق والدول الأخرى، بقيت شاخصة حتى اليوم، وسوف تبقى كذلك لأمد غير منظور، بل إن مشاعر الرفض والعداء لأميركا اتسعت وتنامت إلى مستويات عالية جداً، بحيث أنها لم تقتصر على شعوب ومجتمعات الدول التي تعرّضت للحروب، وإنما امتدت إلى المجتمعات الغربية، ومن بينها المجتمع الأميركي.
وهذا أمر طبيعي ومتوقّع، ولا سيما إذا عرفنا أن الحرب والغزو والاحتلال خلّف أكثر من 4000 قتيل في صفوف القوات الأميركية وأعداداً أخرى من صفوف القوات الحليفة، فضلاً عن أضعاف هذا العدد من الجرحى والمعاقين والمرضى النفسيّين.
وبينما تعجز الولايات المتحدة الأميركية اليوم عن تبرير الكثير من أفعالها، سواء في العراق أو غيره، فهي تجد نفسها عاجزة بدرجة أكبر عن إغلاق الملفات التي فتحتها، وإيقاف التداعيات السلبية الكارثية التي جعلتها تبدو ضعيفة ومرتبكة ومنبوذة ومستنزفة ومحاطة بالخصوم والأعداء من كل الجوانب والاتجاهات.
والأرقام والحقائق والمعطيات على الأرض تقول إن تجربة العقدين الماضيين أثبتت أن العراق لم ولن يكون بيئة مناسبة وآمنة للوجود الأميركي، ومحاولات إدخاله في قطار التطبيع مع الكيان الصهيوني، تعدّ خياراً عقيماً وبائساً، وإن نظريات التقسيم والتفتيت باتت في خبر كان، وإن الإصلاح الحقيقي ومعالجة كل ذلك الخراب والدمار يبدأ من حيث يغادر الأميركي أرض العراق، رغماً عنه أو باختياره.