العدوان على غزة في زمن الـBig mother!
الرواية الفلسطينية لا تصل بالقدر الذي تصل فيه الرواية الإسرائيلية، أحياناً بذريعة الخوارزميات، وأحياناً بذريعة "معاداة السامية"؛ المصطلح السيف الذي يُصْلَت على رقبة كل من ينتقد "إسرائيل"!
لم تشعل عملية "طوفان الاقصى" حرباً عسكرية فقط، بل أشعلت أيضاً حروباً سياسية واقتصادية وإعلامية ونفسية موازية. لكن، إذا أردنا التركيز على تلك الأكثر حضوراً وفعالية وتأثيراً، فبالتأكيد يمكن الحديثُ عن أن كلمة الفصل هي للميدان الذي آزره الإعلامُ التقليدي والجديد بكل قوة. ومن جرّاء هذه المؤازرة، نسجّل ملاحظات أساسية بشأن عنوانين رائجين، أخذا نصيبهما في الحرب الدائرة: "الموضوعية" و"حرية الرأي والتعبير".
لم يعد يُجدي الحديث عن موضوعية الإعلام بعد التغطية الإعلامية، وتحديداً الغربية، لما حدث ويحدث في قطاع غزة، من مجازر ومحارق ودمار هائل لكل مناحي الحياة. فالموضوعية المنشودة لم تعد تصلح إلا للزجّ بها في الكتب الدراسية لمن يريد امتهان الصحافة عن طريق الاختصاص. لقد أسقطتْ غزة هذا العنوان البرّاق الذي خطّه الغرب كأنه من المقدسات، وإذ به أول من يدنّسه بكل ما أُوتي من جبروت وقوة ووقاحة تفوق المتوقَّع.
فأيّ موضوعية تلك التي وصمت أغلبية حركات المقاومة في بلادنا بـ"الإرهاب"، وأي موضوعية عندما يتم انتزاع الأحداث من سياقها التاريخي (عَدّ السابع من أكتوبر حدثاً منفصلاً عن مسار مواجهة الاحتلال)، فهي خطوة، إن دلت على شيء، فهي تدل على سعي متعمَّد لقتل أي سردية في مهدها، وإظهار الأحداث كأنها يتيمة وشاذة.
أيّ موضوعية عندما يكون التضليل هو السمة الأساس لتغطيات كهذه، ولأخبار عن أحداث لم تقع، ويتمّ نشرها من دون صورة، ومن دون دليل. يقول تقرير لإحدى القنوات العالمية إن هدف حركة حماس هو تدمير "إسرائيل" وإبدالها بـ"دولة إسلامية". لم نشهد تصريحاً واحداً لحماس في هذا الخصوص.
فدولة "الخلافة الإسلامية" هدف منشود لتنظيم "داعش" الإرهابي، وكان مقصوداً إلصاقه بحماس، كي تكتمل صورة المقارنة، التي حاول الإعلام الغربي تعميمها. أين الموضوعية في عدم ذكر اسم فلسطين أساساً لأي معالجة أو تحليل مهني ومنطقي.
في الواقع، لقد أُسقط شعار "الموضوعية الإعلامية" بالضربة القاضية هذه المرة، فهذه الموضوعية التي ترنحّت، زمناً طويل، خلال حروب الولايات المتحدة وأتباعها من الدول الغربية في أفغانستان والعراق وسوريا، تمرّغت في الوحل الأوكراني، لتُدفَن في قطاع غزة. هذا فيما خص الإعلام التقليدي، وهناك أمثلة لا تُعَدّ ولا تُحصى عن التضييق القائم على كل من أبدى دعماً، ولو عبر تغريدة، لأهل غزة. ألم نسمع عن تحقيقات فُتحت مع صحافيين بشأن هذا الموضوع؟
أمّا الإعلام الجديد ومنصّات التواصل الاجتماعي فحدّث ولا حرج. وهنا نصل الى ما هو أخطر. وضعت هذه المنصات رواية "1984" لجورج أورويل خلفنا، فاليوم يتم استخدام مصطلح الـ Big mother ، بدلاً من الـBig Brother، ليس لوصف الرقابة الأُسرية على ما يشاهده الأطفال، وإنما توسّع هذا المصطلح ليصف ما تقوم به التكنولوجيا من رقابة وتضييق وجمع للمعلومات، وكل ذلك ضمن قالب اجتماعي ناعم، كالقوة الناعمة التي عُرفت بها الولايات المتحدة الأميركية.
الرواية الفلسطينية لا تصل بالقدر الذي تصل فيه الرواية الإسرائيلية، أحياناً بذريعة الخوارزميات، وأحياناً بذريعة "معاداة السامية"؛ المصطلح السيف -الذي أصبح يحتاج الى بحث معمق آخر، ربما في وقت لاحق- الذي يُصْلَت على رقبة كل من ينتقد "إسرائيل"، مستوطنين وجيشاً ومسؤولين.
تخيَّلوا معي لو أن كل ما يحدث في فلسطين (الداخل المحتل والضفة وغزة) يصل الى شعوب العالم من دون تعتيم أو تشويه لغوي، فهل كان يمكن للإسرائيلي أن يواصل القتل من دون أدنى اكتراث. هل انتشر فيديو إطلاق الجندي الإسرائيلي النار على الطفل الفلسطيني، ذي الأعوام التسعة في جنين، في المنصات الغربية؟ هل انتشر فيديو طعن يهودي امرأةً حاملاً في مدينة اللد عشرات الطعنات أمام أطفالها، وفي وضح النهار، ووسط شارع عريض، أم أن "استحقاق الأسى" لا يُطبَّق على الفلسطينيين؟
واقعاً، السوريالية اليوم تكمن في أننا نشعر بحرية التعبير ونحن مراقَبون، وبحرية الرأي على رغم مصادرته. في خضم الشعور بكل هذا الوهم، يُسرق منا أهم ما نملك، وهو الوقت. فنحن اليوم نستهلك وقتنا الحاضر، ولا نُنتج ما يُذكَر لمستقبلنا في ظل لعبة التسلية، التي أنتجها "اقتصاد الانتباه" الرأسمالي الليبرالي.
باختصار، الواقع يقول إننا تحت سلطة أنظمة رقمية شمولية، لا تتحكم فيما يقوله المواطن العربي فقط، بل أيضاً فيما يسمعه المواطن الغربي ويشاهده.