الصين ودول الجوار.. انفتاح ناعم في مواجهة التوازن الأميركي الخشن
لم تنتظر الصين صدور استراتيجيتي الأمن القومي لدونالد ترامب وجون بايدن حتى تتيقن من حتمية الخروج من مسارها التقليدي المرتكز على التشابك الاقتصادي والانفتاح ومحاولة تجنب التورط في نزاع مباشر.
يفترض عدم توصيف الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الفلبيني إلى الصين بالعادية أو الطبيعية، فإن واقع العلاقات بين البلدين لا يدلل على واقع طبيعي أو عادي. فانغماس الدول المجاورة للصين في علاقات أمنية مع الولايات المتحدة عبر AUKUS و QUAD و حتى آسيان لا تدلل على ممارسة لحق سيادي بنسج علاقات طبيعية تعكس البحث عن مصالح وطنية، وإنما تعكس واقعاً متأزماً تؤدي من خلاله الولايات المتحدة دوراً أساسياً" لتحقيق استراتيجية قومية وجدت لبناتها الأولى مع استراتيجية أوباما للأمن القومي عام 2015.
من خلال سياساتها في منطقة الأندوباسيفيك، تحرص الولايات المتحدة على اعتماد سياسة ترتكز على محاولة إظهار سعي الصين لتعميم نموذج "استبدادي" تفرض من خلاله هيمنة مطلقة على جوارها الجغرافي بالتوازي مع تركيزها على مصالحها القومية كمعيار حاكم من دون أي اعتبار لمصالح دول الجوار.
في هذا الإطار، تستفيد الولايات المتحدة الأميركية من صورة نمطية كرستها مرحلة الحرب الباردة، فإن سياسة الاحتواء التي اعتمدتها الولايات المتحدة الأميركية في مواجهة الأنظمة الشيوعية قد أسفرت عن صعوبة رسم أطر للعلاقات بين الدول المعنية. من ناحية أخرى، عمدت الولايات المتحدة الأميركية، لدى الدول التي تدور في فلكها، إلى تعميم نموذج اقتصادي يرتبط عضوياً بسياسات المساعدات والإعانات والقروض بما يلغي أي إمكانية لمشروع سياسي مستقل عن إرادتها.
وإذا تعمقنا أكثر في آلية تعاطي الولايات المتحدة الأميركية مع دول شرق آسيا، يمكن ملاحظة قدرة استثنائية على إظهار عدائها للصين كرد فعل على سياسات الأخيرة تجاه جوارها. ففي تحليل أسباب التوتر بين الصين وجوارها، سيظهر أن الوجود الأميركي المستند على مشروع تؤكده استراتيجيات الأمن القومي التي تواترت منذ وصول باراك أوباما إلى الحكم، سيشكل العامل الأول لأسباب التوتر، لأنّ دولة كبرى تسعى لتحقيق موقع متقدم في النظام العالمي ستبدي حساسية مفرطة من أي محاولة لاحتوائها.
وعليه، فإن ما تراه دول الجوار من أنها المعنية الأساسية بما قد تظهره الصين من حساسية أو عدائية لا يتوافق مع المعطى الصيني، وإنما يوافق تطلعات الولايات المتحدة لناحية تكريس واقع متوتر يخدم مصالحها.
استفادت الولايات المتحدة الأميركية في المرحلة السابقة من راديكالية الأنظمة الشيوعية بشكل عام، لأنّ العلاقات بين هذه الأنظمة وغيرها كانت محكومة لمدى موائمة الدول الأخرى لأنظمتها وأنماط حياتها مع النموذج الشيوعي.
ففي حين كانت البراغماتية هي السمة الحاكمة لسياسات الأنظمة الرأسمالية في الغرب، لجهة أنها لم تربط مساعداتها للدول الأخرى بمدى توافق أنظمتها مع النموذج الغربي وإنما مع ما يمكن أن تقدمه من فائدة، لم تكن الأنظمة الشيوعية قادرة على تفهم الاختلاف السياسي والثقافي الذي من الطبيعي أن يؤسس لاختلاف على مستوى بنية الأنظمة السياسية من دون أن يكون عقبة في وجه أي تقارب أو تعاون أو تحالف.
وفي تحليل يستند إلى مقاربات الحرب الباردة، يمكن القول إن المساعدات التي قدمتها الولايات المتحدة الأميركية لدول آسيان بالتوازي مع تدخلها المباشر في فيتنام وأندونيسيا لم يكن يهدف إلى إرساء شكل سياسي معين في تلك الدول وإنما كان يهدف إلى منع تحول أنظمتها إلى الشيوعية.
لم تكن الصين في تلك المرحلة المعني الأول بالمشروع الأميركي في شرق آسيا، لأنها لم تكن، وفق التقدير الأميركي، تشكل خطراً كالاتحاد السوفياتي السابق المهتم بتصدير الثورة الشيوعية إلى دول العالم.
وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية قد التفتت إلى ما تعتبره خطراً صينياً داهماً بعد عام 2011 من خلال ما أعلنه باراك أوباما في استراتيجيته للأمن القومي لناحية تركيز الانتباه على الصين من خلال التحالفات الدبلوماسية ومحاولات بناء أحلاف إضافة إلى إمكانية فرض عقوبات على جهات معينة. فإن الدولة الصينية لم تلتفت في سياساتها الخارجية إلا إلى ما يحقق أهداف التنمية الاقتصادية وتعميق العلاقات مع الدول المتقدمة إضافة إلى قرار بالابتعاد عن التورط في النزاعات الدولية.
غير أن التحول الذي شهدته السياسات الأميركية مع وصول الرئيس السابق دونالد ترامب إلى إدارة الولايات المتحدة قد رفع من مستوى التهديد والمواجهة، فقد اتجه إلى حرب تجارية معلنة وكثف من حزم العقوبات على المؤسسات والشخصيات الصينية إضافة إلى تكثيف جهود الإدارة الأميركية في إطار تشكيل الأحلاف في تلك المنطقة.
لم تبتعد إدارة الرئيس جون بايدن عن مسار إدارة ترامب، فادعت استراتيجية الأمن القومي الأخيرة أن الصين هي المنافس الوحيد الذي لديه النية لإعادة تشكيل النظام الدولي، إضافة إلى أنها تهدف من خلال دأبها على زيادة قوتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية إلى الخروج من مساحة المنافسة التي سمحت بها الولايات المتحدة الأميركية.
بالطبع لم تنتظر الصين صدور استراتيجيتي الأمن القومي لدونالد ترامب وجون بايدن حتى تتيقن من حتمية الخروج من مسارها التقليدي المرتكز على التشابك الاقتصادي والانفتاح ومحاولة تجنب التورط في نزاع مباشر.
غير أن المميز أن الصين لم تستنسخ السلوك الأميركي لناحية التركيز على بناء شبكة من الأحلاف الأمنية والعسكرية على غرار AUKUS و QUAD, وإنما ذهبت، بالتوازي مع الإصرار على ثوابتها لناحية عدم التفريط بحقوقها السيادية في بحر الصين ونهائية عودة تايوان إلى الوطن الأم، إلى محاولة توطيد العلاقات مع الدول الجوار انطلاقاً من محاولة تعميق الترابط الاقتصادي وتعميق التعاون والشراكة وصولاً إلى محاولة طمأنة هذه الدول لناحية تأكيد التعامل مع القضايا الخلافية بشكل ودي والعمل على تعزيز التعاون بينها.
من هذا المنطلق، لم تتأثر الصين بالتنديد والقلق الذي أشاعته الفلبين حول تحركاتها في بحر الصين الجنوبي، فاستقبلت الرئيس الفلبيني وأعلنت استعدادها لتقديم مساعدات في مجالات البنى التحتية والزراعة والطاقة وغيرها. كما أنها لم تتوان عن محاولة حل إشكالياتها مع الهند ودول جنوب شرق آسيا. فاللقاءات التي زادت عن 17 لقاء منذ عام 2020 تدلل على رغبة صينية في تفادي الانغماس في أي نزاع يهدد الاستقرار والنمو الصيني، كما أنها لم تتخل عن خيار التفاوض مع دول جنوب شرق آسيا حول قواعد التحرك في بحر الصين الجنوبي.
وضمن هذا التوجه، يمكن تصنيف رد الصين على ما اعتبرته استفزازاً أميركياً بسبب تعزيز مساعداتها لتايوان وزيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى الجزيرة، حيث أن كل ما حدث لم يؤد إلى هجوم صيني على الجزيرة.
وعليه، تسعى الصين إلى تمتين علاقاتها مع الجوار ومحاولة الحفاظ على الاستقرار الضروري لاستكمال البناء الداخلي ومحاولة التقليل من أثر اندفاعة الولايات المتحدة الأميركية.
فطالما أن المشروع الأميركي لم يتخط، ما يعتبر، حدوداً عقلانية لناحية عدم السير في مشروعات الأحلاف العسكرية والمعادية واتفاقيات الدفاع المشترك الموجهة علناً ضد الصين، فإن السياسة الصينية ستبقى ملتزمة بأطر مشروعها الناعم الذي يدمج بين الاقتصاد ونموذج القيم والمثل بعيداً عن الوقوع في فخ الصدام المسلح الذي تراه الولايات المتحدة الأميركية ضرورة لإشغال الصين عن هدفها المزمع، أي تغيير قواعد النظام العالمي.