الصراع الدائر في السودان وملامح "عودة الإسلاميين" إلى المشهد
مرت العلاقة بين الإسلاميين والمجلس السيادي بقيادة البرهان خلال المرحلة الانتقالية بمنعطفات متعددة، أبرزها عندما شكلت حكومة عبد الله حمدوك لجنة "إزالة التمكين"، التي هدفت إلى تفكيك نظام البشير.
دفع الصراع الدائر في السودان وتداعياته وسيناريوهاته بمجموعة تساؤلات تتعلق بمآلات المشهد السياسي السوداني، وموقع مكوّناته المدنية ومستقبلها ومواقفها من الصراع الدائر بين العسكر. ويقع الإسلاميون وسط عملية الاستشراف الحاصلة، لا سيما أنه، بخلاف واقع الحركة الإسلامية في العالم العربي وعلاقتها بالنظام السياسي، يتفرد الإسلاميون في السودان بأنهم كانوا جزءاً من النظام السياسي السوداني. هذه الخصوصية للحركة الإسلامية في السودان أفضت إلى السؤال بصيغة هل يفضي الصراع الدائر بين العسكر إلى عودة الإسلاميين في السودان إلى السلطة؟
اللافت مع بدء الصراع الدائر في السودان؛ استدعاء الإسلاميين كمبرر للاشتباكات، وجاء ذلك على لسان قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي قال في 19 نيسان /أبريل 2023، إن القتال الذي يخوضه الجيش السوداني ضد قواته يقوده الإسلاميون لاستعادة السلطة التي فقدوها. وفي اليوم الأول للاشتباكات، قال حميدتي إن الإسلاميين هم من أوصل البرهان إلى السلطة في نيسان/ أبريل 2019، وكرّر في تغريدة اتهاماته هذه، وقال إنه "يقاتل إسلاميين راديكاليين"، ووصف البرهان بأنه "إسلامي متطرف".
رغم ضبابية مواقف القوى المدنية السودانية من الصراع الدائر بين العسكر وتغليب خيار مسك العصا من الوسط، فإن هذا لم يعنِ غياب عملية الاصطفاف، فاتهام حميدتي للإسلاميين يُعدّ جزءاً من حالة الاصطفاف الحاصلة في المشهد السوداني. في المقابل، لم يخف الإسلاميون تأييدهم للجيش، واستعدادهم للذود عنه والقتال في صفوفه واعتباره أحد رموز سيادة البلاد، وأن الدعم السريع قوة تابعة للجيش وتعمل تحت إمرته وهو (الجيش) الذي شكلها وهي الآن تتمرد عليه، وتعصي أوامره ويجب إعادتها إلى كنفه.
موقف الإسلاميين الأبرز نُسب إلى أحمد هارون الرئيس السابق لحزب المؤتمر الوطني، عقب هروبه من سجن كوبر، في تسجيل صوتي معرباً عن تأييده للجيش السوداني، داعياً قواعد حزبه إلى الالتفاف حول القوات المسلحة.
أفضى بيان أحمد هارون إلى حالة من التراشق بين الجيش السوداني الذي أكد في بيان له أنه لا علاقة له بالبيانات الصادرة عن رموز نظام البشير الفارين من سجن كوبر، وضمنها بيان أحمد هارون، وبين قوات الدعم السريع التي اتهمت الاستخبارات العسكرية التابعة للجيش بأنها وراء إطلاق سراح رموز النظام السابق بالتنسيق مع الإسلاميين، ضمن مخطط لإعادتهم إلى السلطة، حتى هدد مستشار حميدتي للشؤون السياسية يوسف عزت بالبحث عن قيادات النظام السابق وإعادتهم إلى السجن.
قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) عدّت بيان أحمد هارون دليلاً على أن النظام السابق وحزبه؛ ومن خلال عناصرهم الموجودة داخل القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى، يقفون خلف الاشتباكات الدائرة الآن. في حين يحمّل الإسلاميون البرهان حظر حزب المؤتمر الوطني الحاكم، ومصادرة مقاره وممتلكاته في الخرطوم والولايات، ووضعهم في المعتقلات أكثر من 4 سنوات، استجابة لشركائه السابقين في قوى الحرية والتغيير، وإرضاء لقوى عربية وغربية لا تريد عودتهم إلى المشهد.
بدا أن قوى الحرية والتغيير وقوات الدعم السريع تحاول استثمار خروج قيادات نظام البشير من المعتقل لتسويق أن الإسلاميين لا يزالون يمثلون "الدولة العميقة" ويسيطرون على مفاصل الدولة العسكرية والأمنية، وذلك بهدف إثارة مخاوف أطراف إقليمية ودولية.
مرت العلاقة بين الإسلاميين والمجلس السيادي بقيادة البرهان خلال المرحلة الانتقالية بمنعطفات متعددة، أبرزها عندما شكلت حكومة عبد الله حمدوك لجنة "إزالة التمكين"، التي هدفت إلى تفكيك نظام البشير، وأصدرت اللجنة قرارات بفصل آلاف الموظفين من الخدمة المدنية والسفراء والدبلوماسيين والمستشارين القانونيين والقضاة، باعتبارهم من الإسلاميين والموالين لهم، وترافق ذلك مع إحالة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان مئات ضباط الجيش والشرطة وجهاز المخابرات العامة للتقاعد. وقد عدّ الإسلاميون قرارات اللجنة تصفية حسابات سياسية وانتقاماً منهم.
حدث تحوّل واستدارة في العلاقة بين البرهان والإسلاميين قبيل انقلاب البرهان في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، ضد شركائه في الحكم "تحالف قوى الحرية والتغيير"، عندما ألغت المحكمة العليا قرارات لجنة "إزالة التمكين"، وأعادت كل الذين فصلتهم اللجنة إلى وظائفهم. وهو ما أثار غضب قوى الحرية والتغيير التي عدّت الأمر "ردة على الثورة التي أطاحت حكم الإسلاميين، وانحيازاً من البرهان إليهم"، ورأت قوى الحرية والتغيير أن هناك تحالفاً خفياً بين الطرفين (البرهان والإسلاميين) لضمان استمرار قائد الجيش في موقعه السيادي والاستقواء بالإسلاميين على معارضيه.
وبالتالي، يمكن القول إنه منذ حدوث تلك الاستدارة في العلاقة، بدأت عملية الاصطفاف الحاصلة الآن في المشهد السياسي السوداني، لا سيما بعدما بدأت ملامح ومؤشرات حضور الإسلاميين في المشهد تتضح وتتسع.
بدأت ملامح عودة إسلاميي السودان إلى المشهد وترتيب الأوراق من جديد، والانتقال من الانسحاب إلى الحضور، ومن الخطاب العام الفضفاض إلى الخطوات الإجرائية؛ في نيسان/ أبريل 2022، عندما وقعت المكوّنات الإسلامية السودانية على تأسيس "التيار الإسلامي العريض"، ومن أبرز مكوناته الحركة الإسلامية السودانية، التي تُعد المرجعية والحاضنة الأساسية لحزب المؤتمر الوطني في ظل حظره، و"حزب الإصلاح الآن"، وحزب "دولة القانون والتنمية"، وحركة "المستقبل للإصلاح والتنمية"، بينما تخلف عن التوقيع حزب "المؤتمر الشعبي".
اتفقت هذه المكونات على الاندماج الكامل لكل التيارات الإسلامية تحت قيادة واحدة، لتحقيق هدف "الحاكمية لله". موضحة أن هدف "الحاكمية لله" هو التوجه نحو حكومة مدنية.
لم يكن هذا هو الملمح الوحيد لمحاولة عودة الإسلاميين في السودان إلى المشهد؛ وقد برزت عدة فعاليات تعطي مؤشرات واضحة على حضور الإسلاميين في المشهد السوداني، فكانت فعالية الإفطار الجماعي في رمضان الفائت التي أقيمت بالخرطوم في مشهد استعراضي، كأحد المؤشرات على عودة الإسلاميين وفعاليتهم وتصاعد حضورهم في المشهد السوداني.
ثم نزول الإسلاميين كتكتل واحد (التيار الإسلامي العريض، قوى نداء السودان -المؤتمر الوطني-حركة المستقبل، التيارات والتحالفات الوطنية المناهضة للاتفاق الإطاري) خلال الفترة التي سبقت اندلاع الاشتباكات إلى ساحات العمل السياسي العام، والرمي بثقلهم الجماهيري، في نشاط سياسي جماهيري وحضور غير مسبوق.
ذهاب حزب المؤتمر الوطني لاجتراح عملية سياسية داخلية تستهدف إعادة بناء قواعده وكوادره على المستويات كافة، وتحرك قياداته، شهر رمضان الفائت، لعقد لقاءات حاشدة لكوادره في 18 ولاية سودانية، واجتماع ممثليه مع القوى السياسية السودانية كافة بما فيها المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير والحزب الشيوعي وحزب البعث العربي الاشتراكي، وعقد لقاءات مع ممثلي الاتحاد الأفريقي وسفراء الدول في الخرطوم، وإعلان مواقفه حيال القضايا السياسية والوطنية، مندداً بالأوضاع الحالية ومنادياً بالتغيير الحتمي، متجاوزاً بذلك قرار حلّه الصادر في نيسان/ أبريل 2019.
هذا الحضور للإسلاميين أظهرهم كقوة سياسية واجتماعية لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها في أي عملية تسوية أو إنهاء للصراع الدائر في السودان. وهو ما ألمح إليه، عقب الاقتتال الدائر، رئيس البعثة الأممية في السودان فولكر بريتس قائلاً "إن عودة الإسلاميين إلى المشهد السياسي واردة".
عودة الإسلاميين في السودان إلى المشهد ومؤشرات حضورهم وحظوظهم لا ترتبط بالعامل الذاتي، أي بقدرتهم على ترتيب الصفوف وإعادة التموضع فقط، بل هناك عوامل تتعلق بالبيئة السياسية السودانية التي تشكلت خلال المرحلة الانتقالية، والتي ساهمت في جزء من حيثياتها عملية تسهيل عودة الإسلاميين. ويمكن إيجاز تلك العوامل في الآتي:
- تراجع حجم الرفض الشعبي للإسلاميين، لا سيما بعد حالة الإرباك والتعطيل والتأجيل التي مرت بها المرحلة الانتقالية منذ 11 نيسان/ أبريل 2029، وفشل المدنيين والعسكريين في التوافق على وقف التدهور والصراعات وتسليم السلطة وإجراء الانتخابات، وتراجع الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، انسحاب الإسلاميين في هذا الموضع خدمهم ورمّم رصيدهم الشعبي على حساب رصيد قوى الحرية والتغيير والعسكر.
- هرولة عسكر السودان (البرهان وحميدتي) باتجاه التطبيع مع "تل أبيب" ولقاءاتهم وزياراتهم لقادة ومسؤولين في كيان الاحتلال، ورهانهم بأن التطبيع يمكن أن يكون رافعة اقتصادية وسياسية لهم، أفضى إلى نتائج عكسية، خاصة أن تلك الهرولة باتجاه "تل أبيب" تتعارض مع المزاج الشعبي السوداني العام، وقد رفضها الشارع السوداني؛ وخرجت عدة تظاهرات في المدن السودانية رافضة للتطبيع، وهو ما التقطه الإسلاميون وعززوه في خطابهم وحضورهم من خلال رفض التطبيع.
- إقرار الإسلاميين بالأخطاء السابقة؛ وتحميلهم المسؤولية لنظام البشير؛ حتى وإن كان ذلك مجرد تكتيك أو تحايل فإنه سلوك نوعي ومستحسن في أدبيات الإسلاميين في العالم العربي، كذلك إقرارهم بضرورة المراجعة والتقييم للمرحلة السابقة، والأهم ذهابهم عملياً للتوافق والتوحد والالتقاء في بناء جسم واحد ممثلاً في "التيار الإسلامي العريض" فيما ذهبت القوى السياسية السودانية الأخرى إلى الانقسام والاختلاف والخلاف فيما بينها. فبدا الإسلاميون أكثر قدرة على التعافي والتنظيم والتوافق وتقديم خطاب وموقف موحد، مقارنة بغيرهم.
- تدحرج الصراع على السلطة بين العسكر (البرهان وحميدتي) إلى الاقتتال والاشتباك، الأمر الذي أدخل السودان في معركة لا منتصر فيها، وقد تتمدد إلى حرب أهلية، وبينما ذهب طرفا الصراع إلى التراشق والاتهامات؛ ووقفت بقية القوى السياسية على الحياد، أبدى الإسلاميون انحيازهم إلى الجيش السوداني، وهو ما يتقاطع ويلتقي مع موقف جزء كبير من الشارع السوداني الداعم للجيش الوطني، ما يعزز حضورهم الشعبي ويدعمه.
- تبني الإسلاميين في السودان لخطاب وموقف رافض للتدخلات الخارجية في الشأن السوداني، وهو ما يتقاطع مع المزاج السوداني الشعبي العام، الذي يرى أن تلك الأطراف الخارجية تستهدف استنزاف السودان ونهب موارده، وأنها السبب في إطالة أمد المرحلة الانتقالية بوقوفها ودعهما لطرف الصراع الدائر الآن في السودان.
إن ملامح عودة الإسلاميين إلى المشهد السوداني ومؤشرات صعودهم لا تعني بأن الطريق أمامهم ممهدة ومتاحة، ولا تعني العودة على غرار ما كان زمن نظام عمر البشير؛ إذ إن هناك جملة اعتبارات ومعوقات يجب أخذها في الحسبان وأهمها قدرة الإسلاميين على تقديم خارطة طريق وطنية توافقية تطمئن القوى السياسية الأخرى للخروج من الأزمة الحاصلة والصراع الدائر في السودان، وعدم الاكتفاء بالتحلل من مرحلة حكم البشير، وتقديم قيادات شابة جديدة قادرة على التوافق والتكيف مع المتغيرات الحاصلة؛ حريصة على تغيير الصورة النمطية للقيادات الإسلامية التقليدية، ثم القدرة على تجاوز مواقف الدول المؤثرة في المشهد السوداني لا سيما مصر ودول الخليج التي لديها محاذير لعودة الإسلاميين إلى المشهد السوداني، ثم القدرة على الاستفادة من إخفاق القوى السياسية المدنية والعسكرية في إدارة المرحلة الانتقالية وتعثرها، والتي انتهت بالذهاب إلى الاشتباك والاقتتال.