الحرب متعددة الجبهات.. الخطر الوجودي الجديد على الكيان
التطورات التي حدثت خلال السنوات الأخيرة فرضت تطوراً على النظرة الأمنية للاحتلال الإسرائيلي إلى المخاطر، وأضافت خطراً وجودياً جديداً إلى الكيان، يتمثّل بشبح الحرب متعددة الجبهات.
على مدار السنوات الماضية، كان المستوى الأمني في كيان الاحتلال ومعاهد الأمن القومي يُقدِّرون أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي الدّولة الوحيدة التي تمثل تهديداً وجودياً له من بين جملة تهديدات محيطة به، إلا أنّ التطورات التي حدثت خلال السنوات الأخيرة فرضت تطوراً على النظرة الأمنية إلى المخاطر، وأضافت خطراً وجودياً جديداً إلى الكيان، يتمثّل بشبح الحرب متعددة الجبهات.
وقد نفّذ "جيش" الاحتلال مؤخراً -وبشكل مفاجئ- مناورة "اللكمة القاضية"، التي أجرى خلالها محاكاة لهجمات من جبهات متعددة، وتمرّن على توجيه ضربات كبيرة إلى أكثر من جبهة، ومواجهة خطر تساقط آلاف الصواريخ، وتأثر الجبهة الداخلية بضرر كبير. وقد اعتُبرت هذه المناورة ذات أهمية كبيرة، لأنها أول مناورة تأتي بعد تطورات ميدانية تشير إلى تقدم في مسارات وحدة الساحات بين أطراف محور المقاومة.
إنّ ما حدث خلال شهر رمضان الماضي دقّ جرس الإنذار لدى المنظومة الأمنية و"الجيش" في كيان الاحتلال، إذ إن إطلاق الصواريخ من لبنان وسوريا وقطاع غزة وتنفيذ عملية كبيرة في الضفة الغربية المحتلة وضعف الرد الإسرائيلي عليها كسر هيبة "إسرائيل" وزاد فرص المبادرة العسكرية في مواجهتها.
وقد كانت "عملية مجدو" التي تسلَّل فيها مقاتل من شمال فلسطين المحتلة ووصل إلى عمق "دولة" الاحتلال مؤشراً آخر على تراجع الهيبة الإسرائيلية وفق وجهة النظر الإسرائيلية، وتجرؤ أطراف محور المقاومة على "دولة" الاحتلال وتجاوزهم الخطوط الحمر.
وقد ربط الاحتلال حادثة مجدو وإطلاق الصواريخ المتعدد الجبهات الذي حدث في رمضان بما يشهده الكيان من خلافات داخلية، واعتبر أن أطراف محور المقاومة لم تكن لتتجرأ على مثل هذه الخطوة العسكرية الأولى من نوعها منذ عقود طويلة لولا التظاهرات الكبيرة والاحتجاجات التي طالت "الجيش" أيضاً.
هذا الربط جاء مقصوداً من "الجيش" والمستوى السياسي اللذين حاولا الهروب من الانتقادات اللاذعة التي وُجهت إليهما، ومحاولة امتصاص حدة التظاهرات الداخلية ودفع أطراف المعارضة إلى تليين موقفها تحت ضغط المخاطر الخارجية.
التقييم الأمني الإسرائيلي للجبهات المختلفة أظهر تعاظماً في المخاطر المحيطة بـ"دولة" الاحتلال وتضرر صورة الردع الإسرائيلي بشكل غير مسبوق، ورأى أن قوة أعداء الكيان في المنطقة تتعاظم بشكل كبير ومؤثر، وهو ما قرأه الاحتلال من المناورات التي نفذها حزب الله اللبناني مؤخراً، والتي حاكى فيها اختطاف جنود واقتحام بلدات في شمال فلسطين المحتلة.
يدرك الاحتلال أن حدثاً مبادراً ينفذه أحد أطراف محور المقاومة قد يحدث خلال الفترة المقبلة، وأن تطورات ميدانية أو قراراً إسرائيلياً بتوجيه ضربة استباقية إلى لبنان أو توجيه ضربة إلى البرنامج النووي الإيراني قد يشعل فتيل الحرب متعددة الجهات. لهذا، بدأ سلسلة من الاستعدادات السياسية والأمنية والعسكرية لمواجهة هذا الخطر.
على المستوى السياسي، أبلغت "دولة" الاحتلال الإدارة الأميركية بطبيعة المخاطر المحدقة بها، وطالبت بتطوير عمليات دمجها في المنطقة عبر مضاعفة الضغوط على المزيد من الدول العربية والإسلامية لتسريع التطبيع معها والدفع نحو تشكيل "تحالف عربي إسرائيلي" في وجه إيران ومحور المقاومة.
من ناحية أخرى، طلبت "دولة" الاحتلال زيادة الدعم العسكري الأميركي لها، والمحافظة على التفوق العسكري والنوعي في المنطقة. وفي الإطار نفسه، جاءت زيارة وزير "جيش" الاحتلال يوآف غالنت إلى واشنطن قبل أسبوع، التي نقل خلالها ضرورة الاستعداد المسبق والتحضير لسيناريو الحرب متعددة الجبهات بأفضل ما يمكن.
وقد حصل غالنت خلال الزيارة على دعم أميركي جديد لمنظومة القبة الحديدية بقيمة مليار دولار للتعامل مع تزايد مخاطر إطلاق الصواريخ من جبهات عدة، فيما أعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أنَّ واشنطن أجرت خلال العام الجاري أكبر تدريبات عسكرية مع الكيان في التاريخ، وجدد التزام بلاده "الصلب" بأمن "إسرائيل"، مؤكداً أنَّ واشنطن و"تل أبيب" تعملان على تطوير منظومات دفاعية مشتركة لتعزيز الحماية والأمن لـ"إسرائيل".
أما على المستوى العسكري، فقد أجرى الاحتلال مناورات مكثفة ومفاجئة للتعامل مع مخاطر الحرب متعددة الجبهات، أبرزها مناورة "اللكمة القاضية" التي تدرب فيها "جيش" الاحتلال على سيناريوهات خطرة تحاكي نشوب الحرب متعددة الجبهات، كما شنّ عدواناً عسكرياً مباغتاً على قطاع غزة في شهر مايو/أيار الماضي، سعى خلاله لضرب أسافين بين ترابط الجبهات الفلسطينية ومحور المقاومة، عبر إثارة الشكوك في القدرة على تفعيل مختلف جبهات محور المقاومة في الوقت نفسه.
من ناحية ثانية، رفع الاحتلال مستوى تهديداته للبنان، وهدد بأنه سيحدث دماراً هائلاً فيه يعيده إلى العصر الحجري، لعلّه بهذه التهديدات الحادة يصنع رأياً عاماً داخلياً فيه ضد المقاومة وخياراتها.
وعلى مستوى الجبهة الداخلية، أجرى الاحتلال مناورات عدة، وبدأ بتهيئة الرأي العام داخل الكيان بأن ضراراً كبيراً سيقع في حالة حدوث حرب متعددة الجبهات، ووضع خططاً تتعلق بإخلاء المناطق القريبة من الاشتباك، وخصوصاً قرب قطاع غزة وفي شمال فلسطين المحتلة، وبدأ بخطوات عملية لتطبيقها.
يمكن أن تكون "دولة" الاحتلال قد وضعت خطة متكاملة للتعامل مع خطر نشوب حرب متعددة الجبهات، لكنها تدرك صعوبة موقفها في حال اندلاع المواجهات مع مختلف الجبهات والساحات، لأنها ستكون قد أخفقت في تنفيذ مخططها المسبق بتفتيت ترابط جبهات محور المقاومة، وسيكون لزاماً عليها مواجهة مقاومة متطورة تدرك جيداً أنها باتت تشكل تهديداً كبيراً. ويوماً بعد يوم، تزداد قوة هذه الجبهات لترتقي مجتمعةً في لحظة ما وتصبح الخطر الوجودي الثاني على الكيان بعد الخطر الإيراني.