التعليم في سوريا: خسائر حرب لا تُعَوَّض
الحكومة السورية تمكّنت، خلال الفترة التي أعقبت استقرار الأوضاع الأمنية في مناطق شتى، من إعادة تأهيل مدارس كثيرة وإصلاحها.
يتَّفق السوريون، موالاةً ومعارضةً، على أهمية قطاع التعليم في مرحلة ما بعد الأزمة، سواء لجهة معالجة وتجاوز ما أفرزته من آثار اقتصادية واجتماعية ونفسية عميقة، أو لجهة إعادة بناء مستقبل البلاد، كما فعلت دول أخرى مرت في أزمات مشابهة، واستطاعت، بفضل اهتمامها بالتعليم، التحولَ من دول مدمَّرة ومليئة بالمقابر والأحزان، إلى دول "مضيئة" في قاراتها. لكن، يبدو أن مهمة السوريين في هذا السياق، لن تكون سهلة نتيجة عدة أسباب، من أبرزها طبيعة الخسائر التي تعرّض لها القطاع وحجمها، وارتباط عملية إعادة بناء القطاع بتطوّرات جهود الحل السياسي، واستعادة البلاد السيطرة على جميع أراضيها.
خسائر كبيرة
يمكن تصنيف الخسائر المباشرة التي تعرَّض لها القطاع ضمن ثلاثة مستويات:
- المستوى الأول، هو الأكثر حضوراً في وسائل الإعلام عند تناولها تأثيرات الأزمة السورية، ويشمل الخسائر التي لحقت بالبنى التحتية والمرافق الخدمية لقطاع التعليم، إذ إن التقديرات الرسمية تتحدث مثلاً عن تضرُّر أكثر من 10 آلاف مدرسة حكومية بفعل مجريات الحرب، وهو رقم يشكّل ما نسبته نحو 42 % من إجمالي عدد المدارس المستثمَرة قبل الحرب. وتزداد خطورة هذا الرقم مع وصول عدد المدارس المدمّرة، بصورة كلية، إلى 5 آلاف مدرسة، أي نحو نصف المدارس المتضرّرة، في حين تشير اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا ("الإسكوا") في تقريرها "سوريا: بعد ثماني سنوات من الحرب"، إلى أن 40 % من البنى المدرسية الأساسية مشلولة، "بحيث تضرَّرت مدرسة من كل ثلاث مدارس، أو دُمِّرت، أو استُخدمت كملجأ. وأدى استخدام المدارس، على نطاق واسع، كملاجئ جماعية للنازحين داخلياً، إلى زيادة الضغط على البنى الأساسية للتعليم".
ومع أن الحكومة السورية تمكّنت، خلال الفترة التي أعقبت استقرار الأوضاع الأمنية في مناطق شتى، من إعادة تأهيل مدارس كثيرة وإصلاحها، فمثلاً وصل عدد المدارس التي تمّ تأهليها خلال الفترة 2016-2018 إلى نحو 7372 مدرسة، إلاّ أن صعوبة عودة نازحين إلى مناطقهم، ورغبة آخرين في البقاء في المناطق الني نزحوا إليها نتيجة أسباب اقتصادية، تسبّبان ضغطاً مستمراً على البنى المدرسية في مناطق حافظت على استقرارها طوال سنوات الأزمة.
- المستوى الثاني، وقليلاً ما يجري تناوله أو التطرق إليه، يمثّل الخسارة الاقتصادية الناجمة عن ضياع سنوات من الدراسة، نتيجة عدم تمكُّن ملايين الأطفال والشبان من استكمال تعليمهم نتيجة أسباب، قد تكون اقتصادية أو اجتماعية، أو بفعل اضطرار أُسرهم إلى النزوح المتكرر داخلياً وخارجياً. وتُظهر البيانات الرسمية، بوضوح، حجم تلك الظاهرة واستمرارها، إذ إن عدد الأطفال المسَّجلين في الصف الابتدائي الأول وصل في عام 2011 إلى أكثر من 726 ألف طفل. ومع نهاية عام 2019، كان العدد لا يتجاوز 434 ألفاً؛ أي أن هنالك انخفاضاً بنسبة تصل إلى 40 %. وكذلك الحال بالنسبة إلى عدد التلاميذ المسجَّلين في الصف التاسع، والذين انخفض عددهم خلال الفترة نفسها بنسبة تصل إلى 32 %. ويقدّر المركز السوري لبحوث السياسات عدد الأطفال ممن هم في سن تتراوح بين الخامسة والسابعة عشرة، وغير ملتحقين بالمدارس في عام 2019، بنحو 2.3 مليون طفل.
ولا تخرج نتائج الدراسة الاستقصائية، والتي أجرتها مؤخَّراً بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في سوريا، عن ذلك السياق، بحيث أشار 57% من الشبّان الذين خضعوا للدراسة، إلى أنهم تخلَّفوا عن الدراسة بصورة جزئية أو كاملة، بسبب تداعيات الحرب التي تشهدها البلاد. وبحسب تفاصيل الدراسة، التي نُشرت مع مرور عشر سنوات على الكارثة السورية، فإن 3 % من الشبان، الذين شملهم البحث، أكدوا أنهم لم يلتحقوا بالمدرسة على الإطلاق، في حين قال 13% إن سنوات الدراسة التي فاتتهم يتراوح عددها بين 6 و10 سنوات. والنسبة كانت نفسها لمن كانت سنوات دراستهم الفائتة تتراوح بين 3 و5 سنوات. وعلى الرغم من أهمية بعض البرامج التي أطلقتها الحكومة خلال السنوات الأخيرة، بالتعاون مع منظمة "اليونيسف"، لتشجيع الأُسر على إعادة أبنائها المتسربين إلى مقاعد الدراسة بغية تعويض ما فاتهم، فإن الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر فيها البلاد لا تزال تَحُول دون تحقيق استجابة كاملة.
ضياع مخيف!
مخاطر هذه الظاهرة مستقبلاً تتبدّى في نقطتين: الأولى تتمثّل بمواجهة البلاد مستقبلاً تركةً صعبة، قوامها جيل كامل من غير المتعلمين، أو ممن حصلوا على تعليم تتضارب أهدافه وغاياته مع استراتيجية التعليم الوطني. وتالياً، فإن الأمر لا يتعلق فقط بخسارة عقود من الجهود التنموية التي بُذلت وحققت نتائج جيدة، وإنما أيضاً بتحمّل تبعات تلك الخسارة في مرحلة تتطلّب أفضل استثمار لرأس المال البشري من أجل إنجاح عملية إعادة البناء. والأخطر هو ما خلَّفته سنوات الحرب الطويلة من تدهور كبير، اقتصادياً ومعيشياً. هذا في وقت ازدهرت الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة، وأفقدت شريحة ليست قليلة من الأطفال ومن الشبان الحافز على التعليم، وشجعتهم على الانخراط باكراً في سوق العمل.
النقطة الثانية تتعلق بقيمة الخسارة الاقتصادية التي لحقت، وستلحق بالبلاد جرّاءَ ظاهرة التسرُّب التعليمي. منذ السنوات الأولى للأزمة، كانت هناك محاولات للتنبيه من خطورة الظاهرة، من خلال رصد انعكاساتها الاقتصادية السلبية، فكان أن قام فريق بحثي متخصّص بالدراسات السكانية، بمحاولة تتبُّع أثر ظاهرة التسرُّب المدرسي، بشأن الخسارة الناجمة عن تراجع الدخل الدائم (دخل مدى الحياة)، فكان أن أنجز دراسة حملت عنوان "الخسارة الاقتصادية الناجمة عن التسرُّب من المدارس نتيجة الأزمة السورية"، بالتعاون بين منظمة "اليونيسف" ووزارة التربية. وخلص الباحثون فيها، استناداً إلى بيانات عامي 2011 و2012، إلى أن "حجم الخسارة الاقتصادية الناتجة من التسرب من التعليم الأساسي والتعليم الثانوي يقدَّر بنحو 505.7 مليارات ليرة سورية، أو نحو 10.670 مليارات دولار أميركي (بدءاً من عام 2011، وباستخدام سعر الصرف لعام 2011)؛ أي ما يعادل نحو 17.6 % من إجمالي الناتج المحلي في سوريا في عام 2010.
أمّا المركز السوري لبحوث السياسات، والذي دأب على إصدار تقارير بحثية ترصد الخسائر الاقتصادية والاجتماعية للأزمة، فبيّن، في تقريره الأخير، أن متوسِّط سنوات التمدرس "سجّل تراجعاً هائلاً منذ بداية الأزمة. لقد بلغت الخسارة في سنوات التمدرس للمرحلة الأساسية في عام 2019 ما يساوي 1.47 مليون سنة. ووصلت الخسارة الإجمالية في التعليم الأساسي، خلال الفترة الواقعة بين عامَي 2011 و2019، إلى 25.5 مليون سنة تمدرس مقارنة بـ"السيناريو الاستمراري" (أي لو لم تحدث الأزمة). ووصلت الخسارة الإجمالية في سنوات التمدرس في جميع المستويات التعليمية، في الفترة الواقعة بين عامي 2011 و2019، إلى 46 مليون سنة، بينما قُدِّرَت تكلفة هذه الخسارة بمبلغ 34.6 مليار دولار أميركي".
مناهج الأمر الواقع!
المستوى الثالث يتضمّن الخسائر الناجمة عن ظاهرة تعدد المناهج الدراسية المطبَّقة فعلياً، بحكم تعدد القوى المسيطرة، وجودة تلك المناهج. فإلى جانب المناهج الرسمية المعتمَدة عالمياً، والتي تُدرَّس في مناطق سيطرة الحكومة، تفرض "الإدارة الذاتية" الكردية منهاجاً خاصاً يُدَرَّس في المناطق التي تسيطر عليها في شماليّ البلاد وشرقيّها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الفصائل المسلّحة الموجودة في إدلب، وإلى تركيا التي تحتل أراضيَ سورية، وتقوم بتنفيذ عملية تتريك واسعة وتغيير ديمغرافي عميق. وقبل ذلك، كان تنظيم "داعش" فرض مناهجَ غلب عليها الطابع الديني المتشدّد، من أجل تعليم الأطفال، ممن هم في سِنّ الدراسة. إلاّ أن تطبيق المناهج غير الحكومية يواجه صعوبات متعدّدة، أبرزها: ضعف المحتوى التعليمي وصياغته بناءً على مواقف سياسية؛ عدم اعتمادها من الدول والمنظمات المعنية بالقطاع التعليمي الدولي؛ النقص الحادّ في عدد المعلمين والمدرِّسين المؤهّلين، وهذه مشكلة تواجه أيضاً القطاع الحكومي، إذ إن عدداً من المعلّمين والأساتذة المؤهَّلين غادر البلاد نتيجة الظروف الصعبة، وأغلبية المؤهلين والباقين في البلاد تعمل في المدارس الخاصة بسبب رواتبها الأعلى.
لا تزال هذه الظاهرة حاضرة أيضاً في مخيمات اللجوء في الدول المجاورة، والتي لا تجد فيها الأُسر خياراً في مشروعها لتعليم أبنائها، سوى قبول تعليمهم المنهج المطبَّق في كل دولة، سواء تم قبولهم في المدارس الرسمية، أو كان التعليم عبر أنشطة تقام داخل المخيمات. وبحسب ما تذكر دراسة مسحية جرت على مخيمات اللاجئين السوريين في منطقة بر الياس اللبنانية، فإن "عدداً من المدارس الرسمية لا يقبل تسجيل الطلاب بعد تجاوزهم سن الثانية عشرة. وفي بعض المناطق، لا يتوافر التعليم للمرحلتين الإعدادية والثانوية. وعلى الأطفال الانتقال مسافات أبعد من أجل الذهاب إلى المدرسة. تُضاف إلى ذلك، صعوبة المنهاج بالنسبة إلى الأطفال السوريين، بسبب احتوائه على عدد من المواد باللغتين الإنكليزية والفرنسية، وهم لا يمتلكون القاعدة المعرفية الكافية بتلك اللغات". وتضيف الدراسة أن "بعض الجمعيات قام، بالتعاون مع بعض سكان المخيمات، بفتح مدارس، إلا أنّ شهاداتها غير معترف بها، ومناهجها غير معتمَدة، وهو ما دفع الأهالي إلى الإحجام عن تسجيل أبنائهم فيها، مع الإشارة إلى أن نسبة الأمية بين البالغين في المخيمات مرتفعة. وبحسب الذين شملهم البحث، فإن نسبة الحاصلين على التعليم الابتدائي وما دون، تزيد على 50 % وسطياً من البالغين في المخيمات".
ملف معقَّد
أمام حجم الخسائر التي تعرّض لها قطاع التعليم، ولاسيما ما دون الجامعي، فإن مهمة إعادة تأهيل القطاع ومعالجة تداعيات مرحلة الحرب عليه، تبدو معقَّدة وطويلة الأمد، كونها تحتاج إلى إمكانات بشرية ومالية غير قليلة، وإلى تعاون يتمّ، إقليمياً ودولياً. وتحتاج، قبل ذلك، إلى التوصل إلى حلّ سياسي للأزمة، يفتح الباب أمام تحسين الوضع الاقتصادي، وتوفير المقوّمات الضرورية لعودة اللاجئين والنازحين.