التّطبيع الإماراتيّ مع الكيان الإسرائيليّ بين الفشل الاستراتيجيّ وسراب المكاسب الآنيّة
من الضروري القول إنّ الإمارات العربية استندت إلى رؤية أميركية مرحلية، لتقدم للكيان الإسرائيلي تنازلاً استراتيجياً لا يمكن الرجوع عنه، فاتخاذ قرار بالتطبيع مع الكيان الإسرائيلي وفق قرار أحادي لا يتوافق مع مركزية القضية الفلسطينية.
تكمن إشكاليّة العقليات التي تحكم الممالك الخليجية في عدم القدرة على توقّع مدى حدّة الانعطافات التي تحكم واقع العلاقات الإقليميّة والدّولية. والدّليل على ذلك سرعة انغماسها في المشاريع الّتي توافق ما تعتبره رؤية استراتيجيّة، أو التي تعتبرها مصيريّة بالنّسبة إلى بقائها، وذلك من دون أيّ اعتبار أو حذر من إمكانيّة فشلها أو تبدّلها وتغيير مساراتها في حال تبدّل الأشخاص القيّمين عليها من مخطّطين ومنفّذين وراعين.
لقد كان مجيء دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة الأميركية بمثابة انقطاع عن المرحلة السابقة التي ترأسها باراك أوباما، وذلك لناحية الاستراتيجيات والتكتيكات التي حكمت المرحلتين، فبين مرحلة الرئيس باراك أوباما التي أمكن وصفها، وخصوصاً في فترته رئاسته الثانية، بعصر الدبلوماسية التي هدفت إلى لملمة الملفات الشائكة، وعلى رأسها إشكالية البرنامج النووي الإيراني والاعتراف بضرورة تقبل الجمهورية الإسلاميّة كدولة فاعلة وطبيعية في الشرق الأوسط، ومرحلة حكم الرئيس دونالد ترامب الذي أعلن رفض سياسات سلفه، عبر الانسحاب من الاتفاق النووي الذي أُبرم عبر قرار صادر عن مجلس الأمن، وأطلق ما يُعرف بسياسة "تطويق" الجمهورية الإسلامية، عبر سياسة الضغوط القصوى وما رافقها من توترات، وجدت الممالك الخليجية في سياسات الأخير ما يناسب رؤيتها وما تفترض أنه مفيد وحيوي لمكانتها وموقعها الاستراتيجي في المنطقة.
انخرطت الدول الخليجية منذ تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأميركية في سياساته العدائية تجاه الجمهورية الإسلامية، إذ رحّبت بقوة بانسحابه من الاتفاقية النووية، وذهبت بعيداً في ما عدّته مشروعاً أميركياً جدياً هدفه إسقاط الجمهورية الإسلامية ومحورها الممانع، فبنت سياساتها الخارجية على الرؤية الأميركية التي سوَّقت لفكرة بناء حلف استراتيجي متكامل مرتكزه الإدارة الأميركية، وتشكّل الدول الخليجية والكيان الإسرائيلي أبرز أقطابه. وعليه، جهدت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات في تقديم الهدايا والمزايا للولايات المتحدة، لعلَّها تضمن انخراطاً أميركياً يكون الرجوع عنه صعباً في حال تغير الرئيس في الانتخابات القادمة.
وعليه، لم تجد السعودية والإمارات أي حرج في التوقيع على صفقات أسلحة بأرقام خيالية، وعمدتا إلى خفض أسعار النفط عبر زيادة الإنتاج، تلبية لرغبة دونالد ترامب، الذي عبّر عنها في العام 2017 حين أعلن استراتيجيّته للأمن القومي.
وفي السّنة الأخيرة من الفترة الرئاسية لدونالد ترامب، لم يتوانَ الطرف الإماراتي عن التسويق لنيّته توقيع اتفاقية "سلام" مع الكيان الإسرائيلي وتطبيع العلاقات معه، إذ انطلقت السردية المنظّرة للتطبيع مع الكيان من مفهوم "الخطر الإيراني المشترك"، الذي استطاع رغم الحصار ومحاولات احتواء نفوذه أن يشكل، وفق الرؤيتين الإماراتية والإسرائيلية، "خطراً استراتيجياً يهدد وجودهما"، إضافةً إلى رؤية إماراتية قوامها إمكانية تطوير شراكة استراتيجية متقدمة مع الكيان الإسرائيلي في مجالات التعاون التكنولوجي والتجاري والأمني والسيبراني.
إضافةً إلى ذلك، ساد لدى الإماراتيين اقتناع مفاده أنَّ اتفاقيةً لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني ستساعد كثيراً في عملية تمتين وتوطيد الموقع الاستراتيجي الإماراتي في الخليج والشرق الأوسط، بما يساعد على التحلل من الرعاية والوصاية التقليدية السعودية، وكذلك ستشكل عاملاً فاعلاً في تعقيد مهمة العودة إلى الاتفاق النووي، والتي أعلنها جو بايدن خلال انتخابات العام 2020.
أما بالنّسبة إلى المعوّقات المحتملة لهذا المشروع، فلم يجد الجانب الإماراتي ما يمكن أن يشكل سبباً لفشله، فتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي لا يشهد على أي عداء إماراتي إسرائيلي، والبحث في معجم ثوابت العلاقات الخارجية الإماراتية لا يدلّ على أيّ إشارة إلى خطر إسرائيلي على الأمن الإماراتي.
أضف إلى ذلك أنَّ الإمارات العربية لا يمكن أن تواجه أيّ رفض شعبي للتطبيع، على غرار الرفض المصري أو الأردني، ذلك أنَّ الإماراتيين لا يشكّلون أكثر من 19% من سكّان الدولة، بما يعنيه هذا الأمر من لا مبالاة شعبية، إذ إنَّ السكان في هذا البلد يتحدرون من أكثر من 150 بلداً، غير أن الحسابات الإسرائيلية لم تكن في الاتجاه ذاته، إذ كان المبتغى الإسرائيلي يتركّز حول كيفية استفادة بنيامين نتنياهو من هذا الاتفاق في الانتخابات الإسرائيلية، إضافةً إلى ما يمكن وصفه بتوجيه صفعة استراتيجية إلى المبادرة العربية، ذلك أنَّ التطبيع الإماراتي مع الكيان سيشكّل ضربة لأهم بنود المبادرة التي رهنت التطبيع والعلاقات بقيام الدولة الفلسطينية (مبادرة بيروت 2002)، إضافةً إلى اقتناع الساسة الإسرائيليين بأن الاتفاق مع الإمارات سيدفع دولاً خليجية وعربية ذات وزن إلى تسريع تطبيع علاقاتها مع الكيان، خوفاً من اهتزاز التوازن الخليجيّ والإقليميّ.
ولكن ما حدث بعد سقوط دونالد ترامب ومجيء جو بايدن شكّل انعطافة قوية على مستوى الرؤية الاستراتيجية الإسرائيلية - قبل الأميركية - التي كانت متوقعة، فالجانب الإسرائيلي كان يقيّم جدوى الاتفاق مع الإمارات انطلاقاً من رؤية المصالح الآنية والاستراتيجية الإسرائيلية البراغماتية المتوافقة مع استراتيجية الضغوط القصوى لدونالد ترامب. ولذلك، إن التحول الذي أصاب السياسة الأميركية في الشرق الأوسط بعد مجيء جو بايدن انعكس تحولاً في الرؤية الإسرائيلية إلى واقع العلاقات الدولية في الشرق الأوسط.
وفي حين أن فرضية الخطر الإيراني الذي سوقت له الإدارات الأميركية المتعاقبة هي المنطلق لعملية تطبيع وتمتين العلاقات الإماراتية الإيرانية، فإنَّ الاستراتيجية الأميركية المتبعة في كيفية التعاطي مع هذا الخطر ستشكل دائماً معياراً يستند الكيان الإسرائيلي إليه في عملية بناء علاقاته الإقليمية.
وبناءً على ما رشح من قرب التوصّل إلى اتفاق يعيد العمل بخطة العمل المشتركة (الاتفاق النووي بين إيران والخمسة + 1)، سيصبح بالإمكان الحديث أميركياً عن موقع أساسيّ للجمهورية الإسلامية في المنطقة، ما قد يجعلها قوّة إقليمية مؤثّرة لا تشكل خطراً على المصالح الأميركية. وبذلك، تنتفي الحاجة الاستراتيجية إلى اتفاق "التطبيع" كإطار لتحالف عربي إسرائيلي في وجه الجمهورية الإسلامية.
بالفعل، بعد أن تمكّن الكيان الإسرائيلي من تلمّس بعض الإشارات التي تؤكد إمكانية تغير الموقف الدولي والإقليمي من إيران، إذ إنَّ الإعلان الأميركي عن أن الحرب على الجمهورية الإسلامية خيار غير واقعي ترافق مع سعي سعودي لإعادة العلاقات مع الجمهورية الإسلامية، عبر مفاوضات مباشرة برعاية عراقية، ظهر جلياً أنَّ الاتجاه الإسرائيلي في هذه المرحلة سيسير باتجاه تخفيف سرعة الانغماس في تعميق العلاقات الاقتصادية والأمنية مع الإمارات، حتى لا يشكّل الأمر نوعاً من الدفع لتوطيد العلاقات السعودية مع الجمهورية الإسلامية، تحت عنوان الاعتراض على الموقع الإماراتي المستجدّ في الإقليم.
وعليه، يصبح من الضروري القول إنّ الإمارات العربية استندت إلى رؤية أميركية مرحلية، لتقدم للكيان الإسرائيلي تنازلاً استراتيجياً لا يمكن الرجوع عنه، فاتخاذ قرار بالتطبيع مع الكيان الإسرائيلي وفق قرار أحادي لا يتوافق مع مركزية القضية الفلسطينية، لن يقدّم للإمارات أو للقضية الفلسطينية ما عجزت الدول العربية المطبّعة عن تقديمه طيلة 40 عاماً، ولن يقدّم للإمارات أية مزايا، وسيجعلها تخرج في تقييمها لما قد تحققه خالية الوفاض، بدليل تعثّر انطلاق كل المشاريع الاقتصادية التي تمّ الاتفاق عليها قبل عام.
وبذلك، يبقى الكيان الإسرائيلي المستفيد الوحيد من هذا الاتفاق، إذ إنَّ الاستراتيجية التي سار عليها منذ تأسيسه كانت تقوم على تشتيت الإجماع العربي وجرّ الدول العربية إلى الاستسلام بطريقة الاستفراد، بما يضمن تفوقاً إسرائيلياً وتقويضاً لإمكانية التأثير العربي في سير العلاقات الإقليمية وبقاء هذه الدول في موقع المتأثرة العاجزة عن تطوير آلية تضمن أمنها ومصالحها القومية.