التاريخ ليس قاعة انتظار إلى وعد الآخرة
الوعد الإلهي الحق للمسلمين، والوعد البريطاني الباطل لليهود، تحقَّقا بالفعل البشري مترافقاً مع تسخير سُنَن التاريخ، وليس اعتباره قاعة انتظار على رصيف أحلام الفرقة الناجية.
في أثناء حفر المسلمين خندقَ المدينة المنورة في غزوة الأحزاب في العام الخامس للهجرة، وعندما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضرب بمعوله صخرة كبيرة استعصى على المسلمين كسرها، قال في الضربات الأولى "الله أكبر، أُعطيت مفاتيح الشام"، والثانية "الله أكبر، أُعطيت مفاتيح فارس"، والثالثة "الله أكبر، أُعطيت مفاتيح اليمن". ما بين هذا الوعد الإلهي الحق للنبي وللمسلمين وفتح تلك البلاد، مرّت سنوات، انهمك المسلمون في التخطيط للفتح، والإعداد للقوة، والتجهيز للجهاد، والعمل للنصر، وانشغلوا بالأخذ بأسباب النصر والصعود، وسُنن التقدم والتطور.
وبعد تحقق الوعد الإلهي الصادق بالفعل البشري، أبدعوا في إدارة البلاد المفتوحة واستثمار ثرواتها.
وعندما عقدت الحركة الصهيونية مؤتمرها الأول في بازل في سويسرا عام 1897م، حدَّدت هدفها المركزي عبر إقامة "وطن لليهود" في فلسطين، استناداً إلى "وعدٍ إلهي" مزعوم بعودة اليهود إلى "أرض إسرائيل"، ثم انتزع الصهاينة "وعد بلفور" من بريطانيا عام 1917م، بإقامة "وطن قومي" لليهود في فلسطين، التي كانت تحت الاحتلال البريطاني. وما بين هذا الوعد البريطاني الباطل وإعلان قيام "إسرائيل"، مرّت سنوات انهمك الصهاينة خلالها في التخطيط للاحتلال، والإعداد للاستيطان، والتجهيز للحرب، والعمل على التهجير، وانشغلوا بامتلاك عوامل القوة من الأموال والبنين، فكانوا أكثر نفيراً وقدرة على حشد القوة. وبعد تحقُّق الوعد البريطاني الظالم بالفعل البشري، أبدعوا في السيطرة على أرض فلسطين ونهب ثرواتها.
الوعد الإلهي الحق للمسلمين، والوعد البريطاني الباطل لليهود، تحقَّقا بالفعل البشري - الصالح والطالح - تخطيطاً وإعداداً وتجهيزاً وعملاً، مصحوباً بالأخذ بأسباب النصر والتقدم والتطور والصعود، ومترافقاً مع تسخير سُنَن التاريخ، وليس اعتباره قاعة انتظار على رصيف أحلام الفرقة الناجية. وهذا ما يجب أن يكون منهجنا في قراءة وعد الآخرة، على مستوى الوعي والعمل، من دون إنكار يُلغي القَدَر الإلهي، أو إيمان يُلغي الدور الإنساني. فقدرية مجيء وعد الآخرة لا تعني استكانة المسلم وانتظارُه وقوعَ القضاء، ولا تعني التعامل مع التاريخ كقاعة انتظار إلى وعد الآخرة، ولا تعني إلغاء الدور الإنساني ومسؤولية الإنسان وحريته فيما يتعلّق بتحقيق قَدَر الله في الأرض، بل تعني أنَّ التوقيت الزمني لحدوث القَدَر ووقوع القضاء، هو من خصائص الألوهية وفعل الله تعالى.
ووعد الآخرة موجود في "سورة الإسراء" في أكثر من آية، أهمها قوله تعالى: "فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً". فبعد تجميع اليهود وهجرتهم إلى فلسطين، وعلوّهم وإفسادهم فيها، يأتي وعد الآخرة بتدمير علوّهم وإفسادهم ودولتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ("يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ"). واختلاف مجتهدي المفسِّرين في زمان وعد الآخرة وتفاصيله، لا يُلغي حقيقته ووجوده، وخصوصاً أنَّ القرآن الكريم يتوّعد اليهود بتدمير علوّهم وإفسادهم، كلما عادوا إليهما "وَإِنْ عُدتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً".
هذه الرؤية بشأن وعد الآخرة كتب في إطارها المفكّر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد في كتابه "العالمية الإسلامية الثانية"، وجوهر فكرته هو وجود علاقة بين تحقيق وعد الآخرة وبداية العالمية الإسلامية الثانية، فاعتبر وعد الآخرة نقطة تحوّل تاريخية تُنهي الإفساد والعلوّ الإسرائيليَّين، ومعه كل المشروع المُعادي الاستعماري في وجهيه: الغربي والصهيوني، ودورة الحضارة الغربية الاستعلائية، وتبدأ بوعد الآخرة دورة الحضارة الإسلامية الجديدة، ومرحلة العالمية الإسلامية الثانية.
لكنّ رؤيته بشأن وعد الآخرة كانت من زاوية امتلاك الأمة قوةَ التأثير والفعل في تغيير أحداث التاريخ لمصلحتها في الحضور الإلهي الكامل، من دون أن يُلغي مسؤولية الإنسان الذاتية ـ كفرد وأُمة ـ عن تحديد مصيره، والتحكّم في مسار تاريخه، وفهم القدرة الإلهية كقوة دافعة لفعل الإنسان عندما ينسجم مع منهج الله وسُننه في الكون.
وهذا الفهم لدور الإنسان وفعّالية الأمة في تحقيق وعد الآخرة، يُخلّصها من حالة العجز والتواكل، ويُطلق طاقاتها لإنجاز وعد الآخرة والوصول إلى العالمية الإسلامية الثانية، في إطار الصراع مع "الوجود الإسرائيلي" وهزيمة المشروع الاستعماري الغربي.
وحتى يأتي وعد الآخرة، والشعب الفلسطيني جزء من هذا الوعد الإلهي وفي قلب الفعل الإنساني، لا بدّ من أن يقوم بدوره في إنجاز الوعد. ودوره هو مواصلة مشروع التحرير، وإبقاء جذوة الجهاد والمقاومة مشتعلة، واستمرار استنزاف كيان العلوّ والإفساد الإسرائيليَّين، والعمل على منع استقراره وشرعنة "وجوده" في قلب الأمة.
وهذه الرؤية الإيجابية بشأن دور كل من الشعب الفلسطيني والأمتين العربية والإسلامية في الوصول إلى وعد الآخرة، امتلكها المفكّر الشهيد فتحي الشقاقي، قائلاً "إنَّ مسألة تحرير فلسطين هي مسألة مشروع يُنظّم إمكانات الأمة، ويردّ على حرب العدو الشاملة بحرب شاملة، ويُبقي دور المجاهدين في فلسطين هو إحياء فريضة الجهاد ضد العدو، ومشاغلته، واستنزاف طاقاته، وكشف وجهه البشع، وتدمير ما يستطيعون من قدراته، وإدامة الصراع حياً حتى وحدة الأمة وتحقيق النصر... نحن نرى في جهادنا دعوة إلى استنهاض الأمة كي تنهض وتتوّحد وتتوجّه إلى بيت المقدس". فرحمَ الله المفكّر الشهيد فتحي الشقاقي، الذي لم يرضَ أن يكون التاريخ قاعة انتظار للشعب والأمة إلى وعد الآخرة.
القراءة الواعية والعمل بها يُحرّران الإبداع الإنساني، ويُشعلان فعّاليته التاريخية، ويُطلقان الفعل البشري ليُغيّر مسار التاريخ، ويؤدّيان إلى إخراج وعد الآخرة من القَدَر الإلهي في عالم الغيب إلى القَدَر الإلهي في عالم الشهادة، وتضمن عدم تحويل اليقين بوعد الآخرة إلى قاعة انتظار على رصيف التاريخ إلى وعد الآخرة، فلا نقف طوابير آدمية مُهمَلة تنتظر دورها للدخول من بوابة التاريخ، ولا نعقد مؤتمرات خطابية موحشة ينتظر الخطباء فيها دورهم في منصّة توزيع الغنائم. فهذا اليقين، المبني على الإيمان والوعي والعمل بوعد الآخرة، يدفعنا إلى مزيدٍ من وضوح الرؤية، وقوة التخطيط، وفعّالية العمل، كتكليف إلهي، وإلى القيام بدورنا في حرب التحرير، كشعبٍ ومقاومة، ومعنا كل المؤمنين بمشروع المقاومة لتحرير فلسطين من الكيان الصهيوني، وتحرير الأمة من الاستعمار الأميركي، حتى يأتي وعد الآخرة، ونحن كذلك.