الباحثون عن أب أميركي أو عثماني
يعود البحث عن أب أميركي أو عثماني، إلى ثقافة سابقة لنشوء الدولة العربية المعاصرة، هي ثقافة الوالي والقنصل.
بين أصوات تتسلّح بمجيء جو بايدن، وتتوعّد كل من يخالفها بالمنقذ الأميركي، تحت عنوان حقوق الإنسان، وبين أصوات تتسلّح بخطابات الانبعاث العثماني من واشنطن، تبدو الأمة في أسوأ أيامها وأرذلها، من حيث هذا الدَّرْك الأسفل من ثقافة التبعية الذليلة، ولاسيما أن أميركا، في جميع إداراتها، هي أخطر إمبريالية إجرامية عنصرية في التاريخ، سواء في عهد الحزب الجمهوري أو الحزب الديموقراطي، بل إنها انسحبت من كل الهيئات الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان نفسها، وكذلك المحكمة الجنائية الدولية.
لا يحق لأميركا تحديداً، الحديث عن حقوق الإنسان، أو عن غيرها من حقوق، فرائحة جرائمها تزكم الأنوف، من قصف المدنيين بالقنابل الذرية في اليابان، إلى قصف المدنيين بالسائل البرتقالي في فيتنام، إلى اليورانيوم المنضَّب في العراق، فضلاً عن إغراق دول كثيرة بالإرهاب الدموي والانقلابات الفاشية، ودعم الكيان الصهيوني العنصري الإجرامي، والذي طالت جرائمه آلاف الأطفال.
أمّا اهتمامها بالديموقراطية المزعومة، فيعود، كما الرأسمالياتُ الأوروبية، إلى محاولة تجاوز أزمتها البنيوية، وتجديد نفسها بنهب الشعوب من خلال إعادة دمجها في المنظومة الرأسمالية، وقطع الطريق على أيّ مشاريع وطنية لفكّ التبعية، ولربط الحريات السياسية بالتحرر، اجتماعياً وطبقياً ووطنياً وقومياً، لا بحريات الأسواق والخصخصة وإعادة الهيكلة وأدواتها، ممثَّلةً بالبنك وصندوق النقد الدوليَّين.
إلى ذلك، في ما يخصّ الذين يبحثون عن أب عثماني، فاتهم أن تركيا الحالية واقتصادها جُزءٌ لا يتجزَّأ من المنظومة الرأسمالية، اقتصادياً وعسكرياً. فالاقتصاد التركي بنية رأسمالية بالكامل، تحت سيطرة البنك وصندوق النقد الدوليَّين، والمؤسسة العسكرية التركية جزء من حلف شمال الأطلسي ("الناتو").
كما أن الثقافة التركية، وفق عدد من الأعمال الدرامية، غالباً ما تقدّم صورة مشوَّهة للأب في مقابل أب بديل مفاجئ.
ويعود البحث عن أب أميركي أو عثماني، إلى ثقافة سابقة لنشوء الدولة العربية المعاصرة، هي ثقافة الوالي والقنصل. فالقوى الاجتماعية النافذة في القرن التاسع عشر، كانت موزَّعة بين الوالي العثماني والقناصل الأجانب، ولا يبدو أن هذه الثقافة اندثرت.
كما أن البحث عن أب أميركي أو عثماني، بحثٌ ناجم عن عدم إنجاز العرب دولتَهم القومية الواحدة، سواء على غرار دولة "وستفاليا" الأوروبية، أو دولة الصين وفيتنام الاشتراكية، سواء كان ذلك ناجماً عن قوى التبعية والتخلّف، أو عن الاستعمارَين القديم والجديد، الأوروبي والأميركي، واللذَين مزّقا العرب كِياناتٍ وهوياتٍ، طائفيةً وإقليمية قاتلة، تحولت إلى بنى ريعية ذات طابع بطركي أبوي.
فما إن تسقط هذه الدولة الريعية، أو تدخل مرحلة الأفول، وتتفسَّخ قاعدتها الاجتماعية، ممثَّلة بالطبقة الوسطى، حتى تبدأ مجاميع هذه الطبقة التَّخَلِّيَ عن الأب القديم، بل تشارك في قتله، بالمعنى الذي قصده فرويد في كتابه "الطوطم والتابو"، وذلك عبر الثورات الملوَّنة، والتي تساوي الأبناء القَتَلة عند فرويد في الكتاب المذكور، كما لاحظت دراسات سوسيولوجية وسيكولوجية، ثم تبحث عن أب خارجي بديل، بجرعة عالية من التحايلات والذرائع السيكولوجية والأيديولوجية، ومنها الذرائع "الدينية" عند جماعات الإسلام الأطلسي، والذرائع المدنية عند جماعات التبعية والتغريب الليبرالية.
في الحقيقة، إن الأصوات الذليلة المذكورة ليست أصواتاً فردية بقدر ما تعكس نمطاً من العقل المستقيل، ومن سيكولوجيا الجماعات الرملية، الاستهلاكية وغير المنتِجة، والريعية التي تعوّدت الولاء لـ آباء سياسيين في مقابل تخادُم سياسي غير مشرف.
أمّا الموقف الحقيقي، أخلاقياً ووطنياً، فليس التذيّل الذليل بأي ذريعة، إسلاموية أو مدنية، سواء لواشنطن أو للانبعاث العثماني من واشنطن، بل وقفة شجاعة مع الذات، تتجاوز الهويات الكيانية والطائفية والمذهبية والكسل الاستهلاكي، وتستعيد خطاب التحرر العربي المناهض للتبعية، والتطبيع، والتجزئة، والفساد، والإقليمية، والطائفية؛ الخطاب الذي لا يقايض الحريات السياسية بالحريات الاقتصادية للأسواق والخصخصة، بل يدمج بين الحريات السياسية والتحرّر اجتماعياً ووطنياً وقومياً.