الانتحار في صفوف "الجيش" الإسرائيلي.. غادروا المعركة لكنها لم تُغادرهم
هناك مُعضلةٌ إسرائيلية تتعلق بانعكاس تغطية الأحداث الانتحارية في "الجيش" ومتابعتها إعلامياً، لأن تمجيد "الفعل الانتحاري" قد يجلب معه موجة من التقليد للفعل.
يفرض التجنيد الإلزامي في صفوف "جيش" الاحتلال الإسرائيلي بدءاً من سن 18 للفتيان والفتيات، وتشمل الخدمة العسكرية عدداً من عوامل الخطر والضغط المؤثرة في صحة الجنود ونفسيتهم، خاصةً بالنسبة إلى الشباب الذين هم في مرحلةٍ حياتية يكافحون فيها من أجل تشكيل هويتهم الشخصية واستقلالهم وتعريف أنفسهم.
في هذه الفترة "الحرجة"، يجد الشباب المُجنّدون في "جيش" الاحتلال أنفسهم معزولين عن دعم الأسرة والأصدقاء، ويواجهون نظاماً عسكرياً هرمياً يضع قواعد صارمة ويطالب بإطاعة الأوامر. كما يعانون صعوبة في التكيّف مع النظام العسكري، وضغط العمليات العسكرية والحروب، ما يدفع عدداً كبيراً منهم إلى الانتحار. فإلى أي مدى تُساهم الخدمة العسكرية، القتالية منها على وجه الخصوص، في الأفكار الانتحارية والسلوك الانتحاري لدى جنود الاحتلال؟
يبلغ عدد حالات الانتحار في "إسرائيل" نحو 500 حالة في المتوسط سنوياً، وهذا يعني أنه ينتحر شخص كل 22 ساعة، ونحو 10% من جميع حالات الانتحار هم مراهقون تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً، ومنذ العام 2017 سُجّلت من 9 إلى 14 حالة انتحار كل عام في صفوف "الجيش" الإسرائيلي تحديداً.
يرتبط الانتحار في أوساط جنود "جيش" الاحتلال بعدد من العوامل، منها الاضطرابات السلوكية والنفسية المختلفة مثل الاكتئاب، والعدوان، والاندفاع، والقلق بمختلف أنواعه. والسؤال هل هذه العوامل هي نتاج إطارٍ عسكري صارمٍ فقط، أم أنها ناجمة عن فترة الخدمة العسكرية وما يصاحبها من ضغوط مرتبطة، في جزءٍ منها، بطبيعة المهام القتالية المُحفزة للأفكار والسلوكيات الانتحارية؟
تؤكد الدراسات التي أُجريت لمحاولة فهم الخلفيات والدوافع التي تقف خلف هذه الظاهرة أن النظام العسكري الإسرائيلي القائمِ على التجنيد الإلزامي، يكاد يُشجع بطبيعته على الانتحار، ويؤدي إلى تزايد مُعدلاته بشكلٍ ملحوظ سنوياً.
يعدّ مُعدل الانتحار في "الجيش" الإسرائيلي مرتفعاً نسبياً مقارنة ببعض الدول التي تتبع نظام التجنيد الإلزامي، بل يبدو الأمرُ أكثرَ غرابةً عندما نفهم أن الشبان الإسرائيليين ذوي "الميول الانتحارية" لا يُجنَّدون أصلاً، إذ تحصل غالبيتهم على إعفاءٍ من الخدمة بدافع "اعتلال الصحة النفسية".
إذاً، يبدو أن العامل الأهم الذي يقود الجنود إلى إنهاء حياتهم هو الخدمة العسكرية ذاتها، كما يُنسب إلى "مستوى الدافع للخدمة العسكرية الإلزامية" في "الجيش" الوقوف خلف كثيرٍ من الأفكار الانتحارية، إضافةً إلى تأثيره الحاسم في مدى الاندماج في "الجيش".
ينبع الافتقار إلى "الدافع والحافز" للخدمة العسكرية عبر الانخراط في "الجيش" لدى كثيرٍ من الشبان الإسرائيليين من الرغبة في عدم المخاطرة بالخدمة العسكرية التي قد يتعرّضون خلالها للأذى بِصُوره المختلفة، إذ شكّل الخوف من الموت دافعاً أساسياً للتهرب من الانخراط في صفوف "الجيش". وقد تنامى هذا الخوف مع تصاعد خسائر "جيش" الاحتلال البشرية بفعل المقاومة، وتراجُعِ هيبته، والخوف من مواجهة المقاومة التي كلما تصاعدت وزادت من قتلى "الجيش"، زاد عددُ رافضي الانخراط في عمليات "جيش" الاحتلال، لأنها أسهمت في زيادة الخوف والرعب لديهم.
قد يكون من الممكن شرح العلاقة بين مستوى منخفض من "التحفيز والدافعية" والأفكار الانتحارية، إذ إن إرسال إشاراتٍ تدل على "أفكارٍ انتحارية" هو وسيلة الجندي للتحذير من عدم رضاه عن الخدمة العسكرية، وحتى خوفه منها أحياناً.
تشير الدراسات والإحصاءات الإسرائيلية إلى أن معظم الجنود الذين ينتحرون أو الذين يُقدِمون على محاولات انتحارٍ خطيرة، يخدمون غالباً في وحدات الخطوط الأمامية والقتالية. وتبيّن أن نحو ثلث الجنود الذين ارتكبوا "فعلاً مميتاً" قد خدموا كجنود مقاتلين قبل الإقدام على الانتحار. فمن بين 40 جندياً نفّذوا محاولات انتحار، كان نحو ثلثهم جنوداً مقاتلين، بينما خَدَمَ الباقون في وحدات إسنادٍ للوحدات القتالية.
وبحسب تعبير والد جندي وضعَ حداً لحياته بعد سنتين على الحرب التي سمّتها "إسرائيل" "الجُرف الصامد" على قطاع غزة عام 2014، فإن ابنه "غادر المعركة لكن المعركة لم تُغادره"، في إشارةٍ إلى الآثار النفسية التي تركتها المعركة والمواجهة مع المقاومة في نفوس هؤلاء الجنود إذ تضطرهم في نهاية المطاف إلى وضع حدٍ لحياتهم.
عندما ننظر إلى مُعطيات النظام الأمني الإسرائيلي، نكتشفُ حقائق مثيرة للاهتمام، ففي السنوات 2006-2015، كان ربع قتلى "الجيش" الإسرائيلي قضَوا بسبب الانتحار، وهي السنوات التي خاض فيها "جيش" الاحتلال حرب "لبنان الثانية"، ومعارك "الرصاص المصبوب"، و"عمود السحاب"، و"الجرف الصامد".
وبين الأعوام 2016 إلى نهاية 2022 انتحر ما يقرب من 70 جندياً، وهي الفترة التي شهدت حرب "صيحة الفجر" (2019)، و"سيف القدس" (2021)، و"الفجر الصادق" (2022)، بالإضافة إلى المواجهة المتواصلة مع فصائل المقاومة في الضفة الغربية.
من المهم أن نُشير مرةً أخرى إلى أن "الجيش" الإسرائيلي يستثني من الخدمة الإلزامية ذوي الميول الانتحارية أو الذين يعانون من مشاكل عقلية، بل إن الفئة العمرية لمن يلتحقون بـ"الجيش" هي الفئة الأقل ميلاً للانتحار وفق الدراسات النفسية المختصة.
إذاً، على عكس ما يميل الناس إلى التفكير فيه، لا يوجد عادةً اضطرابٌ عقلي في خلفية الانتحار لدى معظم جنود الاحتلال، وهذا ما تؤكده المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ذاتها، إذ تصِفُ "جنود جيش الدفاع الإسرائيلي الذين ينتحرون بأن لديهم مُعدل ذكاءٍ عالٍ، ويتمتعون بصفاتٍ طبية وعقلية عادية". نعم، هناك اضطراباتٌ عقلية مصحوبة بميول انتحارية، لكن معظم حالات الانتحار الفعلية في صفوف "جيش" الاحتلال لا تحدث نتيجة اضطرابٍ عقلي، بل هي نتيجة "انتهاك التوازن الطبيعي للحياة".
يشرح هاينز كوهوت المحلل النفسي النمساوي المعروف، "أن الانتحار بين هذه الأعمار ينبع من القلق من التفكك، و يتعلق بالقلق والخوف من فقدان الإحساس بالذات. ينشأ هذا القلق عندما لا يكون هناك بعد إحساسٌ ثابتٌ بذاتٍ مُتماسكة، والخوف من هذا الشعور بالتفكك يقود إلى أن يصبح الانتحار خياراً مناسباً للتعامل مع هذا الشعور الذي لا يطاق". بالإضافة إلى فقدان الإحساس بالهوية، فإن مشاعر الضغط التي يسببها "الجيش" تُحفّزُ أيضاً على الانتحار، فقد يهُزُّ الإجهاد الشديد البنية النفسية والشعور بالتماسك الداخلي للجندي. وقد ثبت من الدراسات أن هناك علاقة وثيقة بين التوتر العسكري والميول الانتحارية، فالضغط العسكري يظهر في وقتٍ مبكر مع التجنيد ويصاحب الجندي طوال فترة خدمته.
يسود تصورٌ في المجتمع الإسرائيلي مفاده أن "الجيش" يتستر على حالات الانتحار ويُخفيها، لكن "جيش" الاحتلال يدّعي أنه في 40% من حالات الانتحار يترك الجنود رسائل وداع تؤكد ارتكاب الانتحار، أما في باقي الحالات فالقرار متروكٌ للطب الشرعي لتحديد سبب الوفاة. في حالات انتحار معينة في "الجيش"، لا ترغب عائلات بالإعلان عن الانتحار وتفضّل، لأسبابٍ عاطفية واجتماعية ودينية، تسمية الوفاة بأنها "حادث". إضافة إلى ذلك، هناك مُعضلةٌ إسرائيلية داخلية تتعلق بانعكاس تغطية الأحداث الانتحارية في "الجيش" ومتابعتها إعلامياً، لأن تمجيد "الفعل الانتحاري" قد يجلب معه موجة من التقليد للفعل، وهو ما يعرف بـ "تأثير فيرتر".
تُدرك قيادة "جيش" الاحتلال أن الانتحار يشكل مُعضلةً لها، وهي تعمل على تقليص عدد حالات الانتحار بوسائل مختلفة، وبمساعدة برامج مُتخصصة بدأتها ببرنامج "منع الانتحار" في العام 2006، والذي لم يمنع تنامي هذه الظاهرة. في حالة الاشتباه في الانتحار أو محاولة الانتحار، يتم فتح تحقيق في "وزارة الدفاع"، في قسم الموارد البشرية، وكذلك في الهيئة الطبية للوقوف على الأسباب، وفي كل مرةٍ يظهر فيها هذا الموضوع في وسائل الإعلام، يكون الرد العسكري "لا يوجد ما يمكن القيام به حيال ذلك".
يُدرك الإسرائيليون أنه ما دام التجنيد الإجباري لا يزال قائماً، والمواجهة مع الفلسطينيين لا تزال مستمرة فإن المشكلة ببساطة لن تُحل، وسيواصل جنودهم إنهاء حياتهم، وربما يُنظر إليهم كامتدادٍ "مُلحقٍ" بالخسائر البشرية الإسرائيلية التي تَقعُ في المواجهة المباشرة من جولات القتال المختلفة مع المقاومة.