الأبعاد الدولية تعقّد الصراع في غزة وتطيل أمده
ضرب الدور الوظيفي لـ"إسرائيل" وجّه ضربة قاصمة إلى المشروع الأميركي في المنطقة. لذلك، فإن الولايات المتحدة تساهم في إطالة أمد الصراع علّه يقلب الأوضاع ويحصّل صورة نصر لـ"إسرائيل".
للشهر الرابع على التوالي، تتواصل المعارك في غزة من دون أي مؤشرات على إمكان وقف القتال في الأيام القليلة المقبلة. ولا شك في أن تعقيدات الصراع، وخصوصاً في هذه المرحلة، تساهم في إطالة أمد الصراع.
البعد المحلي للصراع
لهذا الصراع أبعاد مرتبطة بالمشروع الصهيوني ومحاولته السيطرة على كامل تراب فلسطين التاريخية، وفرض يهودية "الدولة"، على نحو يؤدي حكماً إلى صياغة سياسات من جانب "النخبة" الإسرائيلية تعتمد عمليات التطهير العرقي والترحيل القسري للفلسطينيين من ارضهم.
ووصلت "إسرائيل" إلى النقطة التي رأت فيها أنه إمّا أن تقوم الآن بفرض هذه السياسات، مستفيدةً من التفوق في العالم، غربياً وأميركياً، وإمّا أنها ستفقد هذه الميزة، على نحو يجعل الوقت لا يعمل لمصلحتها.
لهذا السبب، فإنها سارعت إلى اعتماد سياسات الحصار على غزة من جهة، وسياسات القمع ودعم الاستيطان في الضفة الغربية من جهة أخرى، مع التضييق على أهالي الضفة الغربية، وعلى فلسطينيي الأراضي المحتلة في عام 1948، من أجل دفعهم إلى الهجرة في مقابل استقبال مستوطنين يهود مكانهم.
وجاءت عمليات اقتحام المسجد الأقصى من جانب المستوطنين الصهاينة لتدعيم سياسة الاستيطان، عبر فرض هوية بديلة للمكان من خلال كسر رعاية المسلمين للمسجد الأقصى تمهيداً لهدمه وإقامة الهيكل المزعوم مكانه.
كانت النقطة الأخيرة هذه هي التي فجّرت الصراع الأخير، والتي عبّر عنها اسمها، وهو "طوفان الأقصى"، الذي انطلق من بُعد ديني، وهو حماية أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ليأخذ أبعاداً أخرى مرتبطة أيضا بحماية الهوية الوطنية الفلسطينية، ومعها حماية وجود الشعب الفلسطيني في أرضه.
ولأن العملية كانت تواجه المشروع الصهيوني آنف الذكر، في أبعاده المتعددة، فكان من الطبيعي أن تطول لأنها عمليًا تنقض تراكم سياسات إسرائيلية، عمرها، في الحد الأدنى، ثلاثون عاماً، وارتبطت بصعود نجم بنيامين نتنياهو في عام 1993 كزعيم لحزب الليكود والمعارضة الإسرائيلية، التي عارضت السلام مع الفلسطينيين والعرب، مروراً بتبوّئه رئاسة الحكومة لأول مرة بين عامَي 1996 و1999، ثم إدارته السياسة الخارجية الإسرائيلية قبل أن يعود رئيساً للحكومة بين عامي 2009 و2019.
البعد الدولي للصراع
بالإضافة إلى البعد المحلي المرتبط بصراع الشعب الفلسطيني من أجل المحافظة على وجوده وبقائه، فإن المعركة تُعَدّ معقدة نتيجة ارتباطها بأبعاد إقليمية ودولية، ناجمة عن الدور الوظيفي لـ"إسرائيل"، والذي وجّهت المقاومة الفلسطينية ضربة إليه.
ارتبطت "إسرائيل" دائماً بالمشاريع الاستعمارية الغربية في المنطقة العربية، منذ مشروع نابوليون الثالث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مروراً بالمشروع الاستعماري البريطاني في النصف الأول من القرن العشرين، وصولاً إلى الإمبريالية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية.
وتمّت بلورة دور "إسرائيل" مع بداية الألفية الجديدة على أن تكون قاعدة للنفوذ الأميركي في الشرق الأوسط في إطار استراتيجية واشنطن لتطويق القوى الأوراسية الصاعدة، وعلى رأسها روسيا والصين، ومعهما إيران.
لذلك، فإن هذا الدور الوظيفي لـ"إسرائيل" كان موجَّها حكماً ضد روسيا والصين وإيران. وبدا ذلك جلياً في قمة العشرين الأخيرة، حين أطلقت الولايات المتحدة مشروع الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي، والذي ينطلق من الهند إلى الإمارات العربية المتحدة، مروراً بالمملكة العربية السعودية والأردن إلى ميناء حيفا، ومنه إلى موانئ برايوس في اليونان وميسينا في صقلية ومرسيليا في فرنسا. وكان الهدف من هذا الخط عرقلة مبادرة الحزام والطريق الصينية وطريق شمال جنوب الروسية، في إطار استراتيجية التطويق آنفة الذكر.
لذلك، فإن كلاً من روسيا والصين وإيران وجدت نفسها معنية بمعركة طوفان الأقصى، التي وجهت ضربة قوية إلى المخطط الأميركي.
كانت إيران مؤيدةً بقوة للقضية الفلسطينية، وقدمت الدعم، سياسياً ومالياً وعسكرياً، إلى المقاومة الفلسطينية، مثل حماس والجهاد الإسلامي.
وترى إيران الصراع في فلسطين جزءاً من صراع أوسع ضد "إسرائيل" والنفوذ المتصوَّر للقوى الغربية في المنطقة. وهي تَعُدّ علاقاتها بفصائل المقاومة في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن جزءاً من منظومة قيمها، داعية إلى مقاومة قوى الاستكبار العالمي ودعم المستضعَفين في العالم، وفق ما يأتي على ألسنة المسؤولين الإيرانيين.
لكنّ لهذا بعداً آخر جيوسياسياً مرتبطاً بوصول إيران إلى شرقي المتوسط، علماً بأنه تم قبل أسابيع قليلة إطلاق مشروع الربط البري بين إيران والعراق على أن يمتد لاحقاً في اتجاه سوريا ولبنان.
أمّا بالنسبة إلى روسيا، فهي وجدت نفسها أيضاً معنية بما يجري في غزة. فضربُ الدور الوظيفي لـ"إسرائيل" يزعزعها كقاعدة للنظام الإقليمي المهيمَن عليه أميركياً.
لذلك، على الرغم من العلاقات الطيبة التي تربط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فإن روسيا أطلقت مواقف متقدمة جداً لجهة مساواة أفعال "إسرائيل" بجرائم النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى انتقادها الدور الأميركي المسؤول عن التصعيد في الشرق الأوسط، وفقاً لما جاء على لسان بوتين، وهو ما يُفهَم منه نية روسيا في أن تكون شريكة في إدارة ملف الصراع العربي الإسرائيلي. وكانت دعت إلى حل سلمي على أساس "حل الدولتين".
أمّا بالنسبة إلى الصين، فإنها أعربت عن دعمها إقامة دولة فلسطينية مستقلة، ودعت إلى إيجاد حل سلمي للصراع. واستفادت الصين أيضاً من ضرب الدور الوظيفي لـ"إسرائيل" بحكم أنها تشكل رأس حربة ضد مشروع الحزام والطريق، والذي أطلقه الرئيس الصيني شي جين بينغ في عام 2014.
كذلك، فإن الصين، التي عانت الاستعمار الأوروبي، تشعر بتعاطف مع الشعب الفلسطيني، الذي يعاني الاستعمار الإسرائيلي، الذي يُعَدّ امتدادا لمرحلة الاستعمار الأوروبي.
خلاصة
هذا ينقلنا إلى الولايات المتحدة، التي أدّت دوراً مهماً في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بحيث قدمت الدعم إلى "إسرائيل"، دبلوماسياً ومالياً وعسكرياً. وما زاد في الوضع تعقيداً قرار إدارة ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، والاعتراف بالمدينة عاصمة لـ"إسرائيل". وأعربت إدارة بايدن عن دعمها "حل الدولتين"، وتعهّدت العمل على إيجاد حل سلمي للصراع.
وكما سبق وذكرنا، فإن ضرب الدور الوظيفي لـ"إسرائيل" وجّه ضربة قاصمة إلى المشروع الأميركي في المنطقة. لذلك، فإن الولايات المتحدة تساهم في إطالة أمد الصراع علّه يقلب الأوضاع ويحصّل صورة نصر لـ"إسرائيل" يمكّنها من ترميم هذا الدور الوظيفي، لأنه، إذا توقف القتال الآن، فإن "إسرائيل" ستخرج منهزمة بعد أن فشلت في تحقيق أيّ من أهدافها، وهو ما سيتيح لروسيا والصين
دخول الشرق الأوسط بقوة، ومنع الولايات المتحدة من فرض هيمنتها عليه، وبالتالي إفشال مخطط التطويق لموسكو وبكين، انطلاقاً من الشرق الأوسط.