احتجاجات الشمال السوري: اختبارٌ ميداني للواقع المرتقب
قد يشهد الشرق والبادية السورية قريباً زحمة "جيوش" وألوية وفصائل ستمنحها قيادة قوات الاحتلال الأميركي أسماء جديدة ولامعة، وستدفعها إلى محرقةٍ أخرى على الخريطة السورية المستهدفة أميركياً.
تتوالى التصريحات الرسمية التركية المتعلقة بمستجدات العلاقات مع سوريا على أعلى المستويات هذه الأيام، بل لا يكاد يمر يوم من دون أن ينقل الإعلام التركي والعالمي تصريحاً عن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أو عن مسؤول رفيع في الدائرة المقربة منه ومن مسؤولي الصف الأول حول هذا الملف تحديداً.
وتتسم جميع تلك التصريحات بإيجابية لافتة ومتقدمة، ما يعطي انطباعاً بأننا أمام مرحلة مختلفة تماماً، بل متسارعة على مستوى التقدم السياسي على هذا المسار. وما يدعم هذا الانطباع هو التصريحات الإيجابية بدورها التي صدرت مؤخراً عن دمشق، وخصوصاً ما قاله الرئيس السوري بشار الأسد عقب اللقاء الذي جمعه بالمبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، حول انفتاح سوريا الكامل على المبادرات المتعلقة بالعلاقة مع تركيا، من دون أي تطرق إلى شروط مسبقة يجب تلبيتها قبل عقد أي لقاء رفيع بين مسؤولي البلدين.
جاء لافتاً جداً تصريح الرئيس التركي قبل أيام عن "العلاقة الشخصية الجيدة" التي ربطته سابقاً مع الرئيس الأسد، وعن احتمال توجيه دعوةٍ رسمية إليه، لينضم إلى قمة محتملة بين الرئيسين التركي والروسي. ولا بد من أن إردوغان استند في تصريحه الهام هذا إلى توفر أساس متين لديه يجعله يعتقد أن هذا الأمر ممكناً في أقرب وقت ممكن. وبالتالي يمكن القول إن الخطوات على المسار السياسي باتت في مراحلها الأخيرة قبل بلوغ نتائج عملية بارزة قد تحدث بين عشية وضحاها.
لكن ما لا يقل أهمية عن هذا المسار وآفاقه العملية المحتملة هو، بالنسبة إلى سوريا أولاً، الوضع الميداني في الشمال السوري، وهو الواقع المرتبط بشكل أساسي ومتين بعموم المشكلات بين البلدين، بل هو الساحة الرئيسية التي ينبغي تظهير هذا النجاح - أو ثبوت الفشل – فيها، كذلك هو الأمر بالنسبة إلى تركيا في ما يخص الشرق السوري تحديداً، فهناك يصب الهدف الأكبر بالنسبة إلى السياسة التركية المتعلقة بسوريا.
في الشمال السوري، لا وجود حتى الآن لخطوات عملية تركية كبيرة تُقابل مثيلاتها على المسار السياسي، ولكن ثمة مؤشرات وأحداث ومعطيات تدل على وجود تغييرات قريبة محتملة. والغريب هنا أن تداعيات ذلك التغيير سبقت التغيير نفسه، ولهذا الأمر دلالاته القوية على صعيد استشراف الأحداث القادمة في الشمال حين نضوج التسوية السياسية بين البلدين وبدء تطبيق مفاعيلها على أرض الواقع.
بدايةً، كشفت الأحداث التي شهدتها مدينة "قيصري" التركية الأسبوع الماضي ازدياد منسوب العنصرية والأعمال المعادية ضد اللاجئين السوريين في الداخل التركي، لكن هذه العنصرية بحد ذاتها ليست مستجدة أو نتيجة لأوضاع جديدة متعلقة باللاجئين، فأعمال الكراهية التي تُقدِم عليها شريحة واسعة من القوميين الترك ضد العرب والأجانب عموماً، والتي بات السوريون أبرز ضحاياها خلال السنوات الأخيرة، باتت تكاد تُشكل أزمةً حقيقية للحكومة التركية ذاتها، ولكن السؤال الواجب هنا: لماذا تزامنت تلك الأحداث الأليمة مع هذا التقدم السياسي التركي تجاه الدولة السورية؟
وفي جانب موازٍ ومرتبط تماماً، كيف أظهر رد الفعل الشعبي والفصائلي على تلك الأحداث في مناطق الشمال السوري ضد كل ما هو تركي في تلك المنطقة مدى التعقيد التي يكتنف هذا الملف، وكيف يمكن استشراف الواقع القادم من خلال هذا كله؟
صحيحٌ أن الحكومة التركية تعاملت بقوة مع المتسببين والمتورطين في أحداث "قيصري"، وأن الرئيس التركي نفسه وجه كلمات تحذيرية قاسية إلى هذه الشريحة من العنصريين الأتراك، ولكن توقيت تلك الأحداث بحد ذاته، وما تلاه مباشرةً لناحية قيام جهة غير رسمية بنشر تفاصيل بياناتٍ تخص ملايين اللاجئين السوريين، لا تبدو بريئة تماماً، فملف اللاجئين الضاغط بقوة في الداخل التركي يأتي في طليعة المواضيع المُلحة الواجب البدء بمعالجتها مع الدولة السورية عند الجلوس معاً.
ولكن بعد أن أبدت شريحة واسعة من اللاجئين المحسوبين على المعارضة السورية والفصائل المسلحة في الشمال معارضتها ورفضها وتخوفها من أي تقارب تركي – سوري، يمكن الاستنتاج أنه من غير المستبعد أن تكون الأحداث الأخيرة في الداخل التركي نتيجة لخطةٍ أمنية تهدف إلى تحويل مسألة اللجوء إلى ملف ضاغطٍ جداً على اللاجئ نفسه، بحيث يُدفع إلى القبول بالمسار الجديد واختيار العودة إلى بلاده والانخراط في عملية المصالحة مع الدولة السورية. كما أن هذا الأمر بدوره سيُشكل ضغطاً على الفصائل المسلحة في الشمال، التي ستكون أمام خيار رد الفعل الغاضب حيال الأتراك أو الرضوخ واختيار تسهيل عودة اللاجئين باعتباره الخيار "الأشرف" لهؤلاء.
وقد شهدنا بالفعل "بروفة" ميدانية على الخيار الأول، إذ سرعان ما تصاعدت أعمال العنف ضد الأتراك في منطقة الشمال السوري إثر الأعمال العدائية ضد السوريين في "قيصري"، وبلغت الأمور حد تبادل إطلاق النار مع بعض المراكز الأمنية والعسكرية التركية التي تعاملت بقسوة شديدة مع المتورطين في هذا الأمر، ما أدى إلى سقوط أكثر من سبعة قتلى من المحتجين السوريين، وخصوصاً في بلدتي عفرين وإعزاز.
لكن المؤكد هنا أن أعمال العنف التي استهدفت المراكز العسكرية التركية لم تكن أبداً وليدة لحظة "قيصري" أو مجرد رد فعل عليها، إنما جاءت أحداث "قيصري" كشرارةٍ أو سبب مباشر لِمَا ما كان متوقعاً أساساً وفي أي لحظة بعد التصريحات والخطوات التركية الأخيرة حيال سوريا، والتي اعتبرها العديد من المسلحين والناشطين في الشمال "خيانة تركية" لهم.
والواقع أن المحتجين الذي هاجموا المصالح التركية كانوا يرفعون شعارات ترفض "التقارب التركي – السوري". وقد تطرقت تعليقاتهم المباشرة عبر وسائل الإعلام التي غطت الحدث إلى هذا الملف أكثر مما تناولت أحداث "قيصري". والحقيقة أيضاً أن الاحتجاجات بدأت تتصاعد بعد إعلان تركيا فتح معبر "أبو الزندين" الواصل بين مدينة "الباب" التي تسيطر عليها الفصائل المسلحة ومنطقة شرقي حلب الخاضعة لسيطرة الدولة السورية، فقد حاول المتظاهرون، وبينهم مسلحون، منع فتح المعبر بالقوة، وقاموا بتفتيش سيارات عسكرية تركية، ظناً منهم أنها تقل وفداً روسياً.
وتكمن أهمية ما حدث عند الحدود في إمكانية تحوله إلى مثالٍ عن الواقع المحتمل الذي قد ينتج من التقارب السوري – التركي خلال الفترة المنظورة، وذلك من خلال رصد رد الفعل التركي القاسي أولاً، ثم ردود أفعال القوى والفصائل في الشمال على أحداث العنف ضد المصالح التركية داخل الحدود السورية.
من جهتها، دانت "الحكومة السورية المؤقتة" التي ترعاها أنقرة، والتي تدير المؤسسات في الشمال السوري، أعمال العنف ضد الوجود العسكري التركي، ونددت بقوة بمحاولات الإساءة إلى "العلَم" التركي من خلال إحراقه أو تمزيقه، وطالبت بوقف الاعتداءات وأعمال الشغب فوراً.
بدورها، دعت "القيادة العسكرية المشتركة" التابعة لما يُسمى "الجيش الوطني السوري" إلى "تجنب الانجرار وراء من يسعون إلى تخريب المؤسسات". ومن جهته، ثمن "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية" خطوات تركيا لتأمين اللاجئين والسوريين، ودعا في بيان له إلى "ضبط النفس وعدم الانجرار وراء الفتنة".
وفي خطوة لافتة جداً، استنفرت "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) قواتها العسكرية لحماية القواعد والنقاط العسكرية التركية في منطقة الشمال الغربي، فيما شاركت مجموعات من "القوة المشتركة" التابعة لـ "الجيش الوطني"، وخصوصاً فصيلي "الحمزات" و"سليمان شاه"، إلى جانب القوات التركية في قمع المحتجين.
وأصدرت قيادات الفصيلين بيانات أعلنوا فيها وقوفهم صراحة إلى جانب الدولة التركية، وبأنهم سيضربون "بيدٍ من حديد كل من يسيء إلى رموز الدولة التركية الشقيقة أو يستهدف قواتها". وقد ورد مثل هذا الكلام في بيانات معظم قادة الفصائل الأخرى.
والنتيجة هنا أن أنقرة أجرت ما يمكن اعتباره "اختباراً ميدانياً" حقيقياً وهاماً لخططها القادمة وتداعياتها. وقد جاءت النتائج لافتة بالفعل، فالواقع أن معظم القوى السياسية والفصائلية أعلنت انصياعها التام للمشيئة التركية، وذلك إلى درجة الاستعداد لمواجهة أي حالةٍ رافضة للقرارات التركية، بل وتسليم الرافضين إلى الأجهزة الأمنية التركية (وقد حدث هذا بالفعل في الأيام الماضية).
وبناء عليه، فإن أي مواجهات عسكرية فصائلية ضد الدولة السورية لن تكون واردة بقوة أو بشكل مؤثر في المرحلة القادمة، فقد قدمت أنقرة هذه "الضمانة" عملياً من خلال ما كشفه الحدث الأخير، لكن هل هذا يجعل من أي تسوية محتملة مع الدولة السورية سهلة أو سلسة التحقق؟
الجواب هو لا بالطبع، فالتعقيدات أكبر بكثيرٍ من الحالة الفصائلية الممسوكة تركياً، ووجود عدة ملايين من النازحين من مناطق مختلفة من البلاد في الشمال السوري، وبينهم عشرات الألوف من المسلحين الذين قدموا من ريف دمشق وحمص وحلب والشرق السوري، سيفتح الباب واسعاً أمام أعمال أمنية وإرهابية كبيرة تقوم بها مجموعات وأفراد تستهدف من خلالها القوات السورية والتركية والروسية معاً، وخصوصاً في ظل وجود أحد أهم عوامل استمرار الحرب على سوريا، وهو قوات الاحتلال الأميركي أو ما يُسمى "قوات التحالف الدولي".
ومن المتوقع هنا أن يتصاعد النشاط الأميركي في الشمال السوري خلال الفترة القريبة القادمة لجهة استقطاب الرافضين لمسار التقارب السوري – التركي وإعادة "استهلاكهم" واستخدامهم من جديد ضد الدولة السورية والحلفاء الروس وقوى محور المقاومة في سوريا والعراق على وجه الخصوص، وبالتالي قد يشهد الشرق والبادية السورية قريباً زحمة "جيوش" وألوية وفصائل ستمنحها قيادة قوات الاحتلال الأميركي أسماء جديدة ولامعة، وستدفعها إلى محرقةٍ أخرى على الخريطة السورية المستهدفة أميركياً.