اتفاق البُرهان-حميدتي تأجيل النزاع لا حلّ للصراع
اللقاء الذي جمع البرهان وحميدتي مؤخّراً تمّ برعاية الجيش السوداني، الذي بدا وحده له السيطرة والتمكين في حيثيات المشهد السياسي.
تذهب إحدى الفرضيات المُفسّرة للعلاقة بين الجيش والسياسة في المنطقة العربية بأن الجيش إذا خرج من ثكناته ودخل معترك السياسة فإنه لا يعود إلى حيثما كان، والسودان ليس استثناء، إذ أنه منذ إزاحة نظام الرئيس السوداني عمر البشير والجيش السوداني حاضر في المشهد وضابط لإيقاع الحركة فيه، تارة بينه وبين المدنيين؛ وتارة أخرى بين مكوّناته، التي تمثّلت مؤخّراً في كل من عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو(حميدتي).
وفي كل مرة يشتد الصراع يُعلن الجيش السوداني التزامه الحيادية مكتفياً بذلك، مع بقائه في عمق المشهد وليس خارجه.
إعلان الجيش السوادني التزامه الحيادية
تعدّدت المرات التي أعلن فيها الجيش السوادني تعاونه مع جميع الأطراف ووقوفه على مسافة واحدة من جميع الفرقاء، ثم تطوّر الأمر بتطوّر المتغيّرات الضابطة للعلاقة في المشهد السوداني وتحديداً مكوّنه العسكري. فذهب الجيش هذه المرة إلى إعلان التزامه الحيادية، وآخر هذه الالتزامات جاء في 11 آذار/مارس الجاري، عندما أعلن الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة السودانية العميد نبيل عبد الله أن القوات المسلحة وقيادتها ملتزمة بما تم التوافق عليه في الاتفاق الإطاري الذي سيؤدي إلى توحيد المنظومة العسكرية، وقيام حكومة مدنية.
وقال: "إن القوات المسلحة تؤكد التزامها بمجريات العملية السياسية الجارية، والتقيّد الصارم والتام بما تم التوافق عليه في الاتفاق الإطاري الذي يُفضي إلى توحيد المنظومة العسكرية، وقيام حكومة بقيادة مدنية فيما تبقّى من المرحلة الانتقالية لحين قيام الانتخابات بنهايتها".
بعيداً عن الحيادية المعلنة، ذهب الناطق الرسمي باسم القوات السودانية إلى تمرير رسالة سياسية قال فيها: "إن البعض يسعى إلى مكاسب سياسية من خلال المزايدة بمواقف القوات المسلحة" معتبراً أن تلك "محاولات مكشوفة للتكسّب السياسي والاستعطاف، وعرقلة مسيرة الانتقال".
لم تكن هذه المرة الأولى التي يضبط فيها الجيش حيثيات المشهد، ففي الخامس من كانون الأول/ديسمبر 2022، وقّعت قوى المعارضة السودانية "اتفاقاً إطارياً" مع قادة الجيش من أجل الوصول إلى حل للأزمة السياسية في البلاد. وقد نص الاتفاق على تشكيل حكومة مدنية يرأسها رئيس وزراء بصلاحيات واسعة، إضافة إلى مجلس للسيادة برئاسة مدنية.
ووقّع على الاتفاق نحو40 من الأحزاب والنقابات المهنية، من بينها قوى الحرية والتغيير، إلى جانب قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو "حميدتي".
البرهان وحميدتي من التحالفات إلى الخلافات
تحوّل اتفاق الإطار بدلاً من الذهاب لتنفيذه، إلى مادة خلاف بين كل من البرهان وحميدتي، نظراً إلى مواقفهما المتباينة من الاتفاق، فبينما يدعم حميدتي فكرة التسليم السريع للسلطة إلى حكومة مدنية، يرى البرهان ضرورة التأني والبحث عن مزيد من التوافق بشأن الاتفاق الإطاري مع القوى السياسية وضم القوى غير الموقّعة إليه.
هذا ظاهر الخلاف أمام باطنه فإن حميدتي انقلب على موقفه من خطوة البرهان في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021 -والتي قرّر فيها البرهان حلّ مجلسي السيادة والوزراء وإعلان حالة الطوارئ -ووصفها بالانقلاب، وكان إصراره على التسريع في تنفيذ الاتفاق الإطاري لأنّ أحد بنود الاتفاق تنص على دمج قوات التدخّل السريع في الجيش وهو ما يحسّن قدراته التنافسية داخل المؤسسة العسكرية، بينما يؤجّل البرهان ويماطل في التنفيذ بذريعة ضرورة دمج قوات الدعم السريع بموجب أنظمة ولوائح الجيش.
خلافات في المشهد السوداني والقابلية للحل
وبينما كان مقرّراً في الثامن من كانون الثاني/يناير الماضي، انطلاق المرحلة النهائية للعملية السياسية بين الموقّعين على "الاتفاق الإطاري" المبرم في الخامس من كانون الأول/ ديسمبر 2022، بين العسكريين والمدنيين، للتوصّل إلى اتفاق يحلّ الأزمة في البلاد. بدأت الحرب الكلامية بين الرجلين مقلقة للشارع السوداني وللجيش خشية من أن تتحوّل إلى صدامات مسلحة، وهو ما أفضى بالجيش إلى إعلان التزام الحيادية، لقطع الطريق على الرجلين بألّا يذهبا بعيداً في صراعهما.
يبدو أن إعلان الجيش قد حيّد الصراع بين الرجلين أو ربما أجّله، وأجبرهما على التراجع خطوة إلى الخلف محاولاً تقريب المسافات بينهما. ففي اليوم التالي لإعلان الجيش السوادني "التزام الحيادية" قرّر كل من البرهان وحميدتي وقف الحرب الكلامية والجلوس معاً في لقاء هو الأول من نوعه بينهما منذ أسابيع من اتساع الخلافات بينهما، في 12 آذار/مارس الجاري، وهو ما أفضى بهما إلى تشكيل لجنة أمنية مشتركة، من القوات النظامية وأجهزة الدولة ذات الصلة وحركات الكفاح المسلح لمتابعة الأوضاع الأمنية في البلاد.
ووفقاً لبيان صادر عن مجلس السيادة السوداني، أقرّ الاجتماع المضي فيما وُصف بالترتيبات المتفق عليها بشأن العملية السياسية، من دون أي تفاصيل حول الكيفية والآلية والمدة الزمنية.
اتفاق البرهان وحميدتي ليس الأول
اتفاق البرهان وحميدتي الأخير على تشكيل لجنة أمنية مشتركة، لم يأتِ لقناعة راسخة بينهما لحل الصراع وإنهاء النزاع وإنما جاء بمقتضى تدخّل ووساطة حاسمة من الجيش السوداني، أجبرت الرجلين على الجلوس معاً، وتأجيل الخلافات بينهما.
المفارقة التي يمكن البناء عليها في التنبّؤ بمستقبل العلاقة بين الرجلين تتكوّن من شقّين، فالاتفاق بين الرجلين لم يكن الأول، ففي 17 أيلول/سبتمبر 2022، أعلن حميدتي أنه اتفق مع البرهان على اختيار مدنيين لرئاسة مجلسي السيادة والوزراء، مؤكّداً التزامه بالتعاون مع الأطراف المدنيين كافة لإكمال الفترة الانتقالية.
وحينها كشف حميدتي أنه تم الاتفاق "بشكل قاطع، بأنْ يتولى المدنيون اختيار رئيسي مجلسي السيادة والوزراء"، داعياً إلى تشكيل حكومة مدنية تتوافق عليها قوى الثورة، وتستكمل مهام الانتقال وتؤسس لتحوّل ديمقراطي حقيقي.
لم يحدث ولم يتحقق شيء من هذا الاتفاق ودخلت البلاد في أزمة سياسية تعطّل بموجبها تنفيذ الاتفاق الإطاري الموقّع في الخامس من كانون الأول/ديسمبر 2022. وتحوّل الصراع ما بين المكوّنين المدني والعسكري، إلى صراع بين المكوّن العسكري البرهان وحميدتي.
من المفارقة أن الاتفاقين الأول والأخير لم يُنهيا الخلافات بين الرجلين، وإن كان تدخّل الجيش في الاتفاق الثاني قد أجّل الصراع إلا أنه لم يحلّه نهائياً، فعقب الاتفاق على تشكيل اللجنة الأمنية المشتركة بثلاثة أيام فقط وتحديداً في 15 آذار/مارس الجاري، وفي خطاب أمام قوات للجيش بمنطقة المرخيات العسكرية في أم درمان، قال البرهان إنه لن يسمح بتفكيك الجيش وتوعّد كلّ من "يقدح" في سيرته أو مهنيته.
وكشف في خطابه عن تكوين قوة تدخّل سريع قوامها نحو 3 آلاف مقاتل تكون تحت إمرة القائد العام للجيش. معلناً عن امتلاك القوات المسلحة السودانية تكنولوجيا تسليح حديثة وطائرات "مسيّرة"، تجعلها قادرة على حسم أي تهديدات داخلية أو خارجية. الأمر الذي اعتُبر بأنه رسالة موجّهة إلى قائد قوات الدعم السريع حميدتي.
ما يعني أن الصراع بينهما ما زال حاضراً ولم ينته، وأن الاتفاق على تشكيل اللجنة الأمنية المشتركة بينهما كان اضطرارياً، وبالتالي قد يعود الخلاف بينهما مرة أخرى إلى الواجهة. حتى وإن بدا الخلاف ظاهرياً بينهما على المرحلة الانتقالية والتحوّل الديمقراطي إلا أنّ كلا الرجلين يستقوي بالتحالف مع أطراف داخلية وخارجية إقليمية ودولية، ولكلٍ منهما تطلّعاته السياسية.
ومن غير الوراد في قناعاتهم وحساباتهم الخروج من العملية السياسية، وهذا أحد أهم أسباب الخلاف بينهما وليس دمج قوات الدعم السريع في الجيش من عدمه، ولا الخشية من حدوث صدام مسلح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
ختاماً إن اللقاء الذي جمع البرهان وحميدتي مؤخّراً تمّ برعاية الجيش السوداني، الذي بدا وحده له السيطرة والتمكين في حيثيات المشهد السياسي. مع مراعاة أن هذا التمكين الذي بدا للجيش السوداني لم يُفكّك حقول الألغام المنتشرة في الطريق من الاتفاق الإطاري إلى الاتفاق النهائي. ما يعني أن سيناريو نزول الشعب السوداني إلى الشارع وقلب الطاولة على الجميع متوقّع ووارد وممكن.