إليزابيث.. الموت في لندن والحِداد في عمّان
إعلان الحِداد على رمز استعماري كبير من الأنظمة التي تتجاهل ضحايا الاستعمار في فلسطين وفي بلاد أُخرى ليس من الدبلوماسية أو الإنسانية في شيء، ولا سيما من نظام حكم أنشأه الاستعمار البريطاني، مثل الأردن.
بعد وفاة ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، سارع الأردن إلى إعلان الحِداد 7 أيام، حزناً على موت الملكة، عبر بيانٍ وزعته وكالة الأنباء الأُردنية، نقلاً عن الديوان الملكي الهاشمي في عمّان، نصه: "ينعى الديوان الملكي الهاشمي ببالغ الحزن والأسى وعميق التأثر جلالة الملكة إليزابيث الثانية، ملكة بريطانيا، التي وافتها المنيّة اليوم الخميس. وبأمرٍ من صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبد الله الثاني بن الحسين، حفظه الله ورعاه، يُعلن الديوان الملكي الهاشمي الحِداد على الفقيدة في البلاط الملكي الهاشمي لمدة سبعة أيام اعتباراً من اليوم الخميس...".
وقد لحقت بالأردن عدة دول عربية في إعلان الحِداد على الملكة، منها البحرين والإمارات ولبنان، وجميعها كان من أملاك الإمبراطورية البريطانية "العُظمى"، ما عدا لبنان الذي كان من أملاك الإمبراطورية الفرنسية.
إعلان الحِداد قد يكون أمراً طبيعياً لو كان سلوكاً مُتّبعاً من هذه الدول في كل الحالات المماثلة، ولو قامت به كل دول العالم، وخصوصاً شركاء بريطانيا في المشروع الاستعماري الغربي على جانبي الأطلسي، ولكنه غير طبيعي عندما يصدر عن أنظمة حكم سياسية ذاقت شعوبها وبلادها الويلات من الاستعمار البريطاني والفرنسي وغيرها، وعندما يكون مرتبطاً بأحد أهم رموز الاستعمار الغربي: الملكة إليزابيث الثانية، التي تولّت العرش بعد الحرب العالمية الثانية، وشهدت انتقال راية زعامة الاستعمار الغربي من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأميركية، وشهدت أكبر جرائم بريطانيا الاستعمارية ضد العرب والمسلمين، وهي استكمال تسليم فلسطين للحركة الصهيونية، وقيادة العدوان الثلاثي على مصر، ودعم مواصلة العدوان الصهيوني بتوسيع حدود "إسرائيل" في النكبة الثانية (النكسة)، ومعاداة كل حركات التحرر العربية من الاستعمار الأوروبي...
وإعلان الحِداد على رمز استعماري كبير من تلك الأنظمة التي تتجاهل ضحايا ذلك الاستعمار في فلسطين وفي بلاد أُخرى ليس من الدبلوماسية أو الإنسانية في شيء، ولا سيما من نظام حكم أنشأه الاستعمار البريطاني، مثل الأردن.
الأردن الذي أعلن الحِداد في عمّان على موت ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية في لندن، يُقدم نظامه السياسي نموذجاً واضحاً لصحَّة نظرية المفكر الجزائري مالك بن نبي في مفهوم "القابلية للاستعمار"، التي تعني في أحد مدلولاتها إحساس النخبة الحاكمة – القبلية العسكرية السياسية – بالدونية أمام المستعمر، وبالتبعية أمام من جاء بها إلى الحكم، وهذا هو حال النخب العربية الحاكمة المرتبطة ببريطانيا – قبل أميركا – وما حدث في الأردن مثال على ذلك، فقد أُقيمت "إمارة شرق الأردن" عام 1923 بقرارٍ من وزير المستعمرات البريطاني آنذاك ونستون تشرشل، بالاتفاق مع الأمير عبد الله بن الحسين، ثم تحوّلت إلى "المملكة الأردنية الهاشمية" عام 1947، تزامناً مع إنشاء بريطانيا "دولة إسرائيل" التي أُعلن قيامها عام 1948، ثم توسّعها عام 1967، لتترسخ حدودها الشرقية على نهر الأردن ووادي عربة، لتصبح أطول حدود الكيان الصهيوني أكثرها أمناً واستقراراً، وخصوصاً بعد قيام النظام الأردني بإخراج قوات الثورة الفلسطينية عام 1970، وتوقيع اتفاقية "وادي عربة" مع الكيان عام 1994.
قيام الاستعمار البريطاني بإنشاء كلٍ من الكيان الصهيوني غرب الأردن، والمملكة الأردنية شرق الأردن، جاء في سياق المشروع الاستعماري الغربي ضد الأمة العربية والإسلامية؛ ذلك المشروع الذي يعد أهم أركانه تجزئة الوطن العربي والإسلامي وتفتيته إلى عشرات الدول ذات العلم المنفصل والنشيد الوطني والجيش القومي.
ولتصبح حدود "سايكس – بيكو" وأمثالها هي الحدود الشرعية المُقدّسة التي تدافع عنها كل دولة، ويحميها النظام العالمي المحكوم من الغرب، لدعم التجزئة وترسيخ التفرقة، كان الركن الأهم في المشروع الاستعماري الغربي ومركزه وقاعدته المتقدمة إنشاء "دولة إسرائيل" في قلب العروبة والإسلام، وفي وسط الامتداد الجغرافي لبلاد العرب والمسلمين، لتكريس حالة التجزئة والتخلّف والتبعية، وإعاقة أي مشروع قومي عربي أو نهضوي إسلامي، محاوره الوحدة والنهضة والاستقلال بين مكونات الأمة...
والمشروع الغربي الاستعماري بزعامة بريطانيا، ثم أميركا، بركنيه "التجزئة وإسرائيل"، ما زال هو الأساس المحرك للسياسة الغربية، انطلاقاً من دوافع جذورها دينية مرتبطة بالصهيونية المسيحية، واقتصادية مرتبطة بنهب ثروات الأمة.
رحم الله الشهيد المفكر فتحي الشقاقي الذي أدرك طبيعة المشروع الغربي الاستعماري بركنيه "التجزئة وإسرائيل"، وربط بين دول التجزئة القطرية والصلح مع "إسرائيل" بواسطة منظومة مُتتالية من الترابطات، تبدأ بالتجزئة وحتمية إصابة دول التجزئة بالضعف الداخلي، ما يُتيح للغرب عملية الإلحاق السياسي والاقتصادي الاستراتيجي لأنظمة التجزئة ودولها، ومن ثم تتولّد الحاجة إلى الحماية الغربية لدى تلك الأنظمة، وأهم شروط الحماية الغربية – بريطانية وفرنسية وأميركية – هي الاعتراف بـ"دولة إسرائيل"، والصلح معها باتفاقيات "سلام" وتطبيع، وصولاً إلى التحالف معها... وهو ما حدث في ما يُسمى "اتفاقيات أبراهام".
قدّم الشقاقي مقابل مشروع "التجزئة وإسرائيل" الغربي مشروعه المُضاد لإنهاء التجزئة وإزالة "إسرائيل"، وركناه: الوحدة والمقاومة، فقال: "... ومن هنا، ونحن مع استمرار جهادنا بلا توقف، نرى أنَّ المشروع الإسلامي المُضاد للغرب يجب أنْ يكون شعاره القضاء على التجزئة، وإعلان تكريس وحدة الأمة، كما يكون شعاره إعلان الجهاد للقضاء على إسرائيل. الجهاد يجب أنْ يستمر بلا توقف لإضعاف العدو... نحن نرى في جهادنا دعوةً لاستنهاض الأمة... كي تنهض وتتوحد وتتوجّه إلى بيت المقدس".
وعندما يتحقق ذلك، وننتمي كشعوبٍ إلى أمة واحدة، سنكون أقوياء بالوحدة والمقاومة. سنكون أقوياء عندما تكون بوصلة الأمة تُشير إلى فلسطين والقدس والأقصى. سنكون أقوياء عندما تتوحّد الأمة حول قضيتها المركزية فلسطين، وتتوحد بمقاومتها للكيان الصهيوني والاستعمار الأميركي... حينئذٍ، لن تكون بحاجة إلى إعلان الحِداد على رموز الاستعمار الغربي المسؤول عن نكبتنا في فلسطين، وإقامة أنظمة سياسية نخبها الحاكمة لديها القابلية للاستعمار، وأحياناً لديها القابلية للاستحمار.